الثوري الفرنسي الغامض في صفوف الثورة المهدية (اوليفييه بان 1845 -1885م) أول إشارة لهذا الرجل الفرنسي وردت في مذكرات المغامر النمساوي رودلف سلاطين المعروفة بإسم "السيف والنار في السودان" وهو يقول في صفحة 133 من المذكرات (تعريب جريدة البلاغ المصرية 1930م) أنه قد اتت الأوامر من الإمام المهدى وهم في الرهد بالزحف نحو الخرطوم لفتحها ، ويصف سلاطين وصول الرجل الأوربي الغامض قائلا ".. وما كدنا نبلغ منطقة شركيلا حتى سرت إشاعات قوية عن وصول رجل مسيحي أبيض اللون إلى مدينة الأبيض في طريقه لمقابلة المهدي. كان البعض يقول أنه أمبراطور فرنسا وآخرون يكذبون ذلك ويقولون بل هو قريب ملكة إنجلترا.. لم يكن من شك في أن الرجل أوربي فشعرت بأشد الشوق لرؤيته." ويمضى سلاطين في روايته كيف أن هذا الشخص الفرنسي قد تم استجوابه بواسطة الخليفة عبد الله ، مع انه يتكلم العربية بصعوبة ، وأنه سأله عن أهداف زيارته لمعسكر المهدي. يقول سلاطين ان الخليفة عبد الله استدعاه ليكون المترجم لهذا الشخص عند عرضه على الأمام المهدي. يصف سلاطين اوليفييه بان Olivier Pain عند وصوله للمعسكر ".. كان رجلا طويلا حوالى الثلاثين من عمره وكانت الشمس قد لوحت وجهه. كان شارباه ولحيته خفيفة اللون وقد لبس الجبة المهدوية والعمامة.." ويقول سلاطين في قسم آخر أنه تكلم مع الرجل بالفرنسية عندما انفرد به في غير وجود الخليفة وان الرجل قال لسلاطين " اسمى اوليفييه بان .. وانا رجل فرنسي ومنذ صباي وانا متعلق بالسودان وأحب أهله وجميع أهل بلادي في مثل شعوري. نحن في أوربا بيننا وبين الأمة الانجليزية أحقاد وهي امة استعمارية تستعمر الشعوب في مصر والسودان.. ولقد جئت للمهدى لكى أقدم مساعدة امتى له.." ويمضي سلاطين واصفا كراهيته للرجل الذى اتي ليعين أنصار المهدى ولا يخفى امتعاضه من وجود الرجل في معسكر المهدى الزاحف لفتح الخرطوم. ويقول سلاطين ان الخليفة استدعاهم لصلاة العصر خلف الإمام المهدى وبعد إنتهاء الصلاة ادخل الرجل على المهدى الذى كان يجلس على فروة الصلاة وحياه الإمام المهدى بابتسامة ولكن لم يصافحه ثم أذن له بالجلوس. والعهدة على رواية سلاطين في أن المهدى قال له بعد ان عرض مساعدة فرنسا له في حربه ضد الإنجليز "..لقد سمعت أقوالك وفهمت مقاصدك ولكننى لا اعتمد على مساعدة الأمم وانما أعتمد على الله ورسوله. إن أمتك غير مؤمنة ولا يمكنني أن أعقد حلفا مع أمة غير مؤمنة ونحن بإذن الله سنهزم أعدائنا ونظفر بهم بعون من الله." وبعد كلام الإمام المهدى أمام الرجل علت الهتافات من الآف المصلين في معسكر المهدى. ويقول سلاطين انه بعد رجوعهما من مقابلة الإمام المهدى إنفرد به مرة أخري وعرف منه انه يعمل مراسلا صحفيا لجريدة الفيجارو الفرنسية وأنه أتي لتغطية انتصارات الثورة المهدية وحكي له كيف ان الإنجليز وهو في طريقه للسودان اعترضوه في وادى حلفا وقبضوا عليه وسجنوه ثم اطلقوا سراحه. وقال انه غادر إلى اسنا في صعيد مصر وطلب من بعض البدو أن يعملوا على تهريبه إلى السودان عن طريق صحراء بيوضة فى منطقة دنقلا ومن هنالك اخذ طريقه عن طريق الجمال إلى مدينة الأبيض لمقابلة الإمام المهدي. ويبدو حسب رواية رودلف سلاطين ان الخليفة لم يكن مرتاحا إلى وجود سلاطين مع الفرنسي اولييفيه بان فاوعز إلى احد قواده ، وهو الزاكي طمل ، في أن يضم إلى معسكره هذا الرجل الفرنسي وأن يبعده قدر الإماكن عن سلاطين الذى كان الخليفة يشكك في ولائه للمهدية. ويكمل سلاطين باقي القصة بان يقول وانه باقترابهم من مدينة الدويم مرض الفرنسي مرضا شديدا بحمي التايفود وصار غير قادر على المسير فقام بعضا من الانصار بوضعه على "عنقريب" ورفعه على جمل وبعد مسيرة يوم انقطع الحبل الذى يربط العنقريب على الجمل فهوى الرجل الفرنسي على الأرض فدكت عنقه وتم دفنه على عجل بعد الصلاة عليه في "طرة الحضرة" على غير مبعدة من الدويم على النيل الأبيض. من هو الثائر اوليفييه بان وماذا اتى يفعل في السودان؟ دعونا نبحث في المصادر الفرنسية وحسب موسوعة "لاروس للشخصيات الفرنسية" فقد ولد في بلدة تروا Troyes وهي بلدة تقع على بعد 150 كلم جنوب شرق باريس. درس حتى المرحلة الثانوية لينضم للحركات الفوضوية الفرنسية والتى كانت احد أذرعة اليسار الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر. عمل في عدة صحف فرنسية وشارك في ثورة "كميون" باريس عام 1871م وهو تمرد شعبي ضد حكم الامبراطور نابليون التاسع بعد هزيمة فرنسا أمام بروسيا. ثم فر إلى كالدونيا الجديدة وبعد العفو عنه بواسطة السلطات الفرنسية استقر في سويسرا حيث عمل مراسلا لصحيفة "لو تان" وجريدة "الفيجارو" لتغطية الحرب التركية الروسية. وبعد انتهاء الحرب رجع إلى باريس وعمل في عدة صحف قبل أن يقرر السفر إلى مصر ومن ثم للسودان. كان اوليفييه يعتبر نفسه ثوريا دوليا ويتبني قضايا النضال ضد الاستعمار اينما وجد. كان يعتبر انجلترا بلدا استعماريا ولا بد من الوقوف مع الشعوب المضطهدة ضده. تحمس اوليفييه للثورة المهدية وكتب عنها في عدة صحف على انها ثورة ضد الامبريالية الاوربية. تقول بعض المصادر ان الشيخان محمد عبده ورشيد رضا واللذين كانا في المنفي في باريس بعد ابعادهما من مصر بأمر السلطات الخديوية والإنجليز التقيا اوليفييه بان بعد أن علما بنيته السفر للسودان ومقابلة المهدي وحملاه رسالة منهما فيها اشادة بالثورة واعلنا تأييديهما التمرد الذى يقوده ضد سلطة الخديوي والانجليز. ويقال أن السلطات الانجليزية صادرت هذه الخطابات بعد أن اعتقلته في وادي حلفا قبل أن يتمكن من الفرار والذهاب إلى الأبيض لمقابلة الإمام المهدي. الفرنسيون والرأي العام الفرنسي من خلال صحفهم كانوا يتابعون رحلة أوليفييه للسودان. ولقد نشرت عدة صحف وقتها قصة الأهوال التي تعرض لها من قبل السلطات الانجليزية. وشككت عدة صحف من ان اوليفييه بان لم يصل الأبيض بل اغتالته السلطات البريطانية في وادى حلفا بعد سجنه. ونشرت مجلة " الناقوس Le Grelot" الفرنسية رسما كاريكاتوريا تصدر غلافها في 15 أكتوبر 1885م يوضح الجنرال الانجليزي ويسلي قائد القوات البريطانية في مصر وهو يلبس اكليلا من الغار كأحد أباطرة الرومان ممسكا بقلب اوليفييه الذى يقطر دما بعد ان انتزعه احد الجنود من جثته المسجاة على الأرض! لم تقف زوجته وام اطفاله الثلاثة مكتوفة اليد فقد ارسلت رسالة مطولة إلى " الاجبتيان غازيت" وهي صحيفة فرنسية تصدر في مصر حكت فيها قصة زوجها والتى تتهم السلطات البريطانية بأنها تحتجزه في سجن في حلفا وأنها ربما قامت باغتياله. الصحف الشعبية الفرنسية اطلقت العنان للمشاعر القومية الفرنسية واعتبرت اوليفييه بان بطلا قوميا ذهب من اجل فرنسا لمساعدة المقهورين. وبدأت الصحف الفرنسية تنشر أخبارا عن سقوط الخرطوم في 26 يناير 1885م في يد قوات الثورة المهدية واعتبرته نجاحا فرنسيا. فقد كانت الشائعات الرائجة وقتها ان أوليفييه بان عين وزيرا للخارجية بواسطة الإمام المهدي وأن فرنسيا آخر هو "الكابتن فيرت" هو وزير الحربية ورئيس الأركان في حكومة المهدى الجديدة. واستمرت هذه الصحف في القول بأن اوليفييه بان هو المقابل الفرنسي لشارلس غردون حاكم الخرطوم وقتها. حتى أن رئيس صحيفة "النداء "Rappel خصه بوضع أكثر سموا من غردون حيث أنه ذهب للانضمام لثورة المهدي وفي جيبه أقل من 200 جنيه استرليني وبمخاطرة أن يقع أسيرا لدى الانجليز ، بينما غردون ذهب وهو يحمل الإنجيل في يد ومليون جنيه استرليني في اليد الأخرى من الخزانة البريطانية. ومضي مدير تحرير صحيفة "النداء" الباريسية يقول " لقد ذهب اوليفييه بان لمساعدة أناس يناضلون من اجل نيل حريتهم ، بينما غردون ذهب لإعادة تجارة الرقيق والتي كانت قد الغيت من قبل!" اما الصحف البريطانية فقد دخلت في خط الحرب الاعلامية بينها وبين الصحف الفرنسية فقد نشرت التايمز في 27 مارس 1885م انه وفقا لمراسلها في القاهرة أن الأنباء قد تواترت بأن الصحفي الفرنسي "اوليفييه بان" والذي يعمل في خدمة الحكومة المهدية منذ وصوله إلى الأبيض يعمل على مساعدة السجناء الأوربيين في يد المهدي وأن الجالية الفرنسية في مصر قد جمعت أكثر من 500 ألف فرنك للمساعدة في اطلاق سراح هؤلاء الأسري بمساعدة من اوليفييه بان. لقد ضاعت حقيقة مهمة الثوري اوليفييه في الحرب المستعرة بين المخابرات البريطانية والفرنسية وكل منهما يذر الرماد في العيون ويخفي الحقيقة. هل كان اوليفييه بان موفدا من قبل المخابرات الفرنسية لمساعدة الثورة المهدية وهل عملت المخابرات البريطانية على إفشال مهمة اوليفييه في مساعدة الثورة الوليدة في السودان. إنها في النهاية كانت حروب الدول العظمي السرية لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية في العالم! د. محمد سيد أحمد ساتي [email protected]