كنت اطالع عدد يناير 2016 من مجلة "هارفارد للأعمال HBR" ،وهي مجلة شهرية تصدرها كلية هارفارد لإدارة الأعمال عندما وقع نظري فيها على مقال بقلم الدكتورة إيرين ماير من نفس الجامعة عنوانه " الإبحار عبر الالغام الثقافية في دنيا الأعمال". والمقال يتحدث عموما عن حيرة رجال الأعمال عندما ينتقلون من بيئة عملهم إلى بيئات وثقافات تختلف عن ما تربو عليه من قيم وانماط سلوكية. فالمقال يتحدث عن مدير تنفيذي في إحد الشركات الأمريكية والتى فتحت لها فرعا في موسكو. والرجل لم تجابهه أية مشكلة تذكر عندما كان يدير فرع الشركة في كندا وبلجيكا ولكن بعد ستة أشهر قضاها في موسكو في مهمته الجديدة ما زال يصارع في كيفية إدارة فريق العمل الخاص به والذى يتكون معظمه من الروس. تطرقت كاتبة المقال إلى ضرورة معرفة المدراء إلى ما أسمته "الخريطة الثقافية" لكل بلد فيما يختص بعمليات التواصل ، التقييم ، الإقناع والقيادة. في موضوع القيادة ركزت الباحثة على الاختلافات الثقافية في درجة احترام السلطة وقسمت البلدان من منظور المجتمع "الايثاري" مرورا بالمجتمعات السلطوية التى تقدس هرم القيادة. كما عرضت لمقاييس القيادة إلى (مؤشر البعد السلطوي - Power Distance index) والذى وضعه عالم النفس و الاجتماع الهولندي "جريت هوفستيد" G. Hofstede. فقد درس البروفسور هوفستيد "آثار تفاعل القوى المختلفة" التي تشكل "ثقافات الشعوب والأمم" وتفسر تباينها في قبول ورفض الظواهر المختلفة. فخرج بنظرية (الأبعاد الثقافية للمجتمعات البشرية) كإطار تقييم منهجي للفروق بين الأمم والثقافات. وتقوم نظريته على فكرة أنه يمكن توزيع القيمة الاجتماعية على ستة أبعاد ثقافية تقاس بمؤشر في كل بعد من الأبعاد: مؤشر (البعد السلطوي مقابل محدودية السلطة)، مؤشر (الجماعية مقابل الفردية)، مؤشر (تجنب عدم اليقين في مقابل قبول عدم اليقين)، مؤشر (مستوى نمط الذكورة في مقابل الأنوثة)، مؤشر (التوجه الزماني البعيد المدى مقابل القصير المدى) ، وأخيرا مؤشر (تقدير السرور والبهجة في مقابل تقييد السرور والبهجة). دعونا من أجل موضوعنا عن الفساد نركز على مؤشر (البعد السلطوي مقابل محدودية السلطة) ويطلق عليه آخرون قوة التسلسل الهرمي الاجتماعي، وهو التباعد الطبقي بين أفراد المجتمع والفوارق بينهم، ومدى قبول المجتمع لهذا التباعد، والتوزيع غير المتساوي، والرضا بالطبقية. وعلى هذا النحو فإن هذا المؤشر لا يعكس اختلافًا موضوعيًا في توزيع القوة، ولكن يعكس طريقة إدراك الأشخاص لفوارق السلطة.. فقد قام البروفسير "هوفستيد" ببحث علمي معمق أجراه بين عامي 1978م و1983م على العاملين في كافة فروع شركة "آي بي إم" (IBM) في ثلاثاً وخمسين دولة من مختلف دول العالم، وقد توصل نتيجةً لتحليل إجابات استبيان لأكثر من 117,000 شخصا حيث تمكن من خلاله تحليل المعالم الثقافية لمختلف الشعوب في ضوء الأنماط الأكثر أهمية في طريقة التفكير، والإحساس الداخلي، والتصرف. وقد قام بروفسير هوفستيد بتحويل هذه الأبعاد إلى قياس كمي أو "Scale" من 0 إلى 100، ورسمها بيانياً لجميع الدول التي أجرى عليها البحث لتسهل مقارنتها ودراسة الفروق بينها في ضوء هذه الأبعاد الثقافية. ومن بين الدول التي أجرى عليها الاستبيان وتحليل النتائج ورصد مستواها وفق الأبعاد الأربعة في الدراسة الأصلية سبع دول عربية منها أربع دول خليجية وهي السعودية والكويت والإمارات والبحرين وثلاث دول عربية وهي مصر والعراق ولبنان وليبيا. ففي مؤشر البعد السلطوي حصلت السعودية مثلا على قياس 95 بينما المتوسط العالمي هو 55 وحصلت مصر على قياس 65 بينما مجتمعا ايثاريا كالسويد حصل على قياس 20 وهو يعتبر من المقاييس المثالية. ويشير إرتفاع مؤشر البعد السلطوي إلى وجود نوع من عدم المساواة ويعكس العلاقة بين من لديهم السلطة والتمييز ضد من لا يملكونها وترتبط هذه الممارسات مع تدهور الوضع الاقتصادي وانخفاض القدرة التنافسية الوطنية مما يشجع الطبقة التى لا تمتلك السلطة والتى هي جزء من البيروقراطية داخل الدولة محاولة تحسين مواقعها الخاصة من خلال ايجاد وسائل "خلاقة" ، خارج إطار القانون ، لرفع مستوي معيشتهم ووضعهم الاجتماعي. المجتمع السوداني والذى هو مجتمع إيثارى بطبعه حيث تقل فيه الفوارق بين الناس على الأقل من الناحية الإجتماعية على مدى تاريخه الطويل ، لكن تعاقب الأنظمة الشمولية والعسكرية فيه بدأ ينخر في قواعد هذا المجتمع. فقد انتشرت ظاهرة طبقة ال VIP والتمييز في المعاملة بين المواطنين وإعطاء الحصانات للبعض من غيراستحقاق دستوري ، وإنتشار ظاهرة تبادل المنافع الاقتصادية بين اصحاب النفوذ والمصالح العليا . كما صار الناس لا تجد غرابة في أن شخصا يرتدي الزي الرسمي للشرطة أو القوات النظامية الأخري يتخطي الصفوف في مجال الخدمات العامة ويقوم بخدمة رجل أو امراة من أقاربه بينما الناس تنظر إليه الجماهير بغضب وحسرة ولكنها لا تستطيع أن تقول شيئا. كما انتشرت ظاهرة الزجاج المظلل الثقيل في العربات الخاصة أو سيارة من غير لوحات وهي اشارة ان مالك المركبة يتبع لجهة عليا أو امنية. كما صار ليس من الغريب أن ترى عربة لاندكروزر ركبت عليه بعض الانوار البراقة يجبرمن في الطريق الإفساح له والهروب إلى الجهة اليمنى ، بينما لا يجوز ذلك إلا لعربة اسعاف أو مركبة للدفاع المدني تريد إنقاذ أرواح بشرية. إن العلاقة بين الفساد والبعد السلطوي ليس شيئا من بنات الخيال حيث أن تصنيفه مع مؤشر الفساد في الدول يوضح علاقة تبادلية قوية .. أنظر كتاب (لغز الفساد .. مفارقاته ومعضلاته ، فيجاى راجناثان منشورات بنجوين نيودلهي 2010م) . أن ارتفاع مؤشر البعد السلطوي يعكس ازدياد ثقافة VIP والتميز مما يجعل من المواطن الذي لا ينتمى لهذه الفئة مواطنا من الدرجة الثانية في بلده مما يخلق الحقد والتمرد واللامبالاة ، وكلما تمكنت الدول من التقليل من الامتيازات والتفرقة بين المواطنين ، التى تقرها كل الدساتير في العالم ومن بينها دستورنا ، كلما تمكنت الدولة من خفض مؤشر البعد السلطوي لديها ويكون المواطن فيها هو مواطن من الدرجة الأولي في دولته مما يقلل فرص المحسوبيات وقبول الممارسات الفاسدة في مجتمعنا. د. محمد سيد أحمد ساتي[email protected]