الأقحوانة الثانية: من روض أبي داؤود تلمس الغناء أذنه باكرا فاعد الفطرة والشفاهة والإنصات لصوته بعد أن هضم المستمع منه ثم أخرجه بعبقرية الخصوصية الخصبة التي جعلت منه بعد ذاك طودا لا يمكن تجاوزه أو مبارحته. جعل للسلطنة في الطرب بابا جديدا و فتح آفاقا لا يمكن تخيلها لمآلات المدي الصوتي في الطرب, فكان صوته يصور الحالة الوجدية التي تعتري الكلمات, حينا يبدو لك صوته كشاشة سينمائية تعرض لك حال الكلمات ولواعج الأشواق تعدو بالنجيمات وتترى بالوله والصب والصد يهيج بالقلب الدل, ويغوص يمخر في عباب الأغنيات ثم يرسو علي صدر موجة, الله لو جيت.. ليبحر في متاهات التلاشي, لازم نسيت العهد أو حاولت تبدي الصد. متاح و مباح للخيال عنانه يعدو ويركض كيف شاء, مرايا وصور وأخيلة ترهق الذهن الحصيف, أشرعة وعبير يتضوع يسكر الطرب الشفيف, والنفس بين ترنح وإراحة والروح تسبح في جلالات الجمال السرمدي لا الزمان له فسيح ولا للمكان وطأ من عبق, كل معتق انطبق ثم انطلق. يا أقاحي الروض تضوعي وأغدقي, أنثري طيب الجنون و(دستري) بعد أن مر بخلوة شيخ ( عبد الصادق ) عبر عبر أيقونات أسهمن في دسامة صوته وبلاغة أدائه الا وهي ( الإندايات ) ولعمري إنها أيقونات التجذر والتبحر و التبختر الصوتي اللا محدود , و لهذا الأدب نصيب الأسد عند أبو داؤود شكلا و عراف العود السوداني و نساج الفسيفساءات الدافئة السمراء ( برعي محمد دفع الله ) ثنائية مسكرة لا اكتفاء منها ولا ارتواء, أهديانا عرائس من جنة الغناء السوداني تزين بنفائس العقود وارتدين نواعم اللحون فكنا عذارى الحي .. التي تناجي طيفها لتلوم اللاهي وبها استطاعا أن يبنيا لنا ( الجنة ) بكل تفاصيها التي تقاسمتها المحنة مع الحب ومالم يخطر ببال عاشق ليقول لمحبوبه هل أنت معي .. وما كان به من صبابة عجب عجب غاص في أعمق أغوار الحقيبة وأنتقي منها دررها ولآلئها, وأفتتن بكرومه فمعه العذر إنه كرومه و ما أدراك ما كرومه. كثيرا ما تصعب علي الأغنيات بين حباله الصوتية تارة يقذفها لحنجرته ويروضها بصوته الباص وتارة أخري يهدهدها بقراره الآسر لتتلقفها شفاهه, ليعيد الكرة مرة أخري ولكن بطعم وطريقة تختلف كل مرة, و لكل كرة حالة وأدائية تمتاز بعبقرية التفرد والبعد عن التكرار, ومفاجأة صوته بأشكال من الجمال المترع أكاد أشفق علي صوته منه فيها. هو كالعطر ينسدل علي الروح كما الحرير طيب, وعصيا بخصوصية احتفاظه بخاصية تميزه عن غيره برائحته التي تدل عليه. تركيبة أعجزت علماء الأصوات والأجنة والكيمياء أن يحددوا عناصرها وخلاياها ,أمة من الطرب, تضاد متجانس متناسق, تغني عندما عرف كيف يغني. [email protected]