لازالت تلك الصور الزاهية للجزيرة الخضراء تتراقص خلف ضباب الذاكرة ..لا تمحوها استدارة عجل الزمن الذي مضى بنا عبر المسافات . كنت طفلة دون العاشرة تلفني البراءة والعفوية وانا أشتاق باكية لبنات خالتي التي كانت متزوجة من أحد الموظفين بمشروع الجزيرة والمناقل واُصر على الذهاب مع أمي من قريتنا البعيدة في الشمال لنقضي معهم أياما ننعم فيها بسكن السرايات الفاخرة التي تحيط بها الحدائق الغناء وترتشف من سلسل الجداول وهي تخترقها كالشرايين الدافقة و أصوات العصافير تنعش صباحات الحياة ..ويوم صرف المزارعين لمردود انتاجهم يتحول الى سوق كنا نتوه في ممراته والبضائع تتوسد أرضية مكتب التفتيش و أعلى الترعة التي تشق المساحة وقد تناثرت حولها بيوت العاملين الحجرية الأنيقة ! كنا نزور صاحبات خالتي وبناتها في القرى القريبة وسط سعادة الجميع بنا ..الناس على سجيتها وبساطتها كانت حياتهم عامرة بالخيرات ..الحليب من الضرع والخضروات بلا أسمدة من الفرع والسمن البلدي أصفى من ماء العيون الباسمة بالطيبة ..ولكم شدني منظر السيدات الكبار وهن يغزلن القطن بالمترار ذلك الصغير الذي يصنع عملا كبيرا بحركة لشد ما سحرتني براعة من يقمن بها دون كلل أو ملل! وحينما نهم بمغادرتهم يغمرنا أهل صاحباتنا بمونة القمح والعيش وفريك الفول و زجاجات المسلي والدمع المنسكب من صدق الدواخل التائقة لعودتنا قبل أن نبارح ديارهم الرحبة كصدورهم الدافئة . كانت القنوات التي نعبرها في رحلة العودة فائضة بالمياه على كافة مستويات تدرجها الإنسيابي و الأفق الخضراء تحدث النظر بما ينتظر السودان من غدٍ مشرق .. وحينما نعبر القناطر ونحن نلوح للجزيرة تودعنا زخقات مياهها ورذاذ شلالاتها الهادرة بحنو اللمسات التي تمد اياديها الينا ونحن داخل سيارة المورس الأنيقة في طريقنا الى محطة السفر في ودمدني التي ترقد شامة عند الضفة الغربية للنيل الأزرق . قادتني السنوات الأخيرة لمعاودة تلك العلاقات الحميمة أفراحاً وأتراحاً و التي امتدت بعد أن كبرنا وكبرت معنا الحسرة وقد وجدت كل ذلك العمار أصبح أثرا بعد عين ..المكاتب صارت أطلالاً وحدائقها تحولت الى هشيم و الترع غابت تحت الحشائش التي إختنقت فيها سرسرات المياه وكأنها تحتضر قبل أن تصل الى وجهتها المجهولة و القنالات اضمحلت عند الكباري البائسة و ابتلعتها الأطماء التي لم يعد فيها ذلك الطل المنعش والسراب منكفي على ذاته ينعى ماضٍيه السندسي الثوب ..وبيوت الري تبعثر ما تبقي من فتات طوبها الذي سرق نهارا جهارا.. مع أعمدة الهاتف التي كانت تقف شواهدا على حضارة سادت ثم بادت والسكة حديد أين هي وهل سيعود قطارها الذي كان يئن بحمولة ذلك الذهب الناصع .. وهو ألاخر لن يعود دون أن يستصحب متراره الأثير يا وزير الزراعة ومحافظ المشروع وانتم تحدثوننا عن زراعة مليون فدان منه جُلها في الجزيرة ..! اصلحوا المترار أولاً قبل أن تزرعوا القطن .. فالبنى التحية التي دمرتها يد الحقد هي التي كانت تكسب مصانعه قدرة الدوران وتكسو الناس مما نصنع فعلا لا قولاً وتقيم اسواق بيعه وقد تحول نسيجه الى بفتة دبلان ودمورية رجال السودان وكستور نسوان يأتيهن هدية ً يوم الصرف من تلك الجيوب التي كانت عامرة ..بما تزرع وفرحتها تزيد من ضياء الوجوه النيرة التي أحالها زمان القهر والظلم الى تقطيبة وعبوس .. وقاتل الله من قتلوا تلك الفرحة وقد حبستها غصة في حلقي .. وانا أغادر وقتها بخيالي الذي سرح في ذلك الزمان جميل الملامح وأتعثر في قبح هذا الحاضر الذي شتت الشوك في مسارات الورود .. تبا له من عهدٍ كالح الوجه قبيح القسمات. [email protected]