شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالفيديو.. بشريات عودة الحياة لطبيعتها في أم درمان.. افتتاح مسجد جديد بأحد أحياء أم در العريقة والمئات من المواطنين يصلون فيه صلاة الجمعة    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبو الريح " و حكاية البطة البرية .
نشر في الراكوبة يوم 30 - 08 - 2016

رأيته للمرة الأولى في العام 1990 . كنت حينها فردا تعيسا في معسكر للدفاع الشعبى خارج مدينة القطينة . قضيت هناك شهرين من أسوأ شهور حياتى ، تعرضت خلالهما للتجويع و الإذلال ومحاولات التدجين . لكن تلك قصة أخرى . المهم أنه في الحفل النهائى لتلك المهزلة رأيت " الريح عبدالقادر " للمرة الأولى . كان قائد المعسكر - و يدعى " محمد خالد " - يمسك بالمايكروفون متحدثا حينما انبرى طالب من اللا مكان معربا عن نيته في إلقاء قصيدة من تأليفه عن المعسكر . نظرت إليه من بين جموع الطلاب فاذا به أسمر اللون ، طويل كما سارية العلم في قلب ساحة المعسكر . قدم نفسه قائلا " الريح عبدالقادر " و قبل أن ننتبه بدأ يلقى قصيدة ركيكة مهلهلة ( و تنتهى قافيتها بضم الدال ) :
جئنا لكى نجاهد
جئنا نغنى أنا عائد
نستيقظ في كل صباح فنشرب الشاى
و نذهب الى الميدان الصاعد
و نؤدى البيادة
ثم نصلى
و نستمع إلى محمد خالد
الرجل الخالد
( ثم حين التقت بحثا عنه و لم يجده أردف بسرعة ) أين هو ؟
انفجر الجميع بالضحك . حتى الملازم " ياسر " الذى كان مثالا على الصمت و القسوة نسى وقاره و تحول صدره الى نرجيلة تكركر بقهقهة متواصلة .
ذهبت إلى الجامعة بعد ذلك . و نسيت " الريح " في خضم محاولاتى التعرف على المكان الجديد و الوجوه الجديدة . كانت براعم الحلم حينها تتثاءب مستيقظة للتو في حقل العمر . ثم ذات يوم رأيت "الريح " قرب الكشكش الصغير جوار داخلية " عطبرة ب " . كان يرتدى عراقيا قصيرا رغم طول قامته فبدا شكله كركيا مضحكا . ذهبت إليه و برغبة طفولية في العبث البرئ قدمت إليه نفسى باعتبارى واحدا من معجبيه الكبار في الكون . التمعت عيناه ببريق رضا أخاذ و أصر يدعونى لكوب من الشاى . بعد يومين جاءنى زائرا في الكلية . كنت أقف قرب حجر " الدسمس " الشهير حينما رأيته . جاءنى معبرا عن رغبتى في قراءة بضعة قصائد على مسمعى ، مبررا ذلك أنه يود الاستفادة من رؤيتى النقدية باعتبارى دارسا في كلية الآداب . و في الحال استعرت في داخلى تلك الرغبة الطفولية في المرح فجمعت عددا من زملائى و قدمته إليهم " الريح عبدالقادر ، طالب بكلية العلوم الإدارية ، شاعر من غطاريف الشعراء " . المعت عيناه بذات البريق الذى ينم عن رضا عارم بالذات ، و قرر أن يلقى على مسامعنا قصيدة بعنوان " سرب الظبا الجانى " . سألته – متخابثا – عن مناسبة القصيدة فقال إنه زار شركة ما في الخرطوم ، و هناك فوجئ بأسراب من الحسان تلتف حوله . تنحنح قليلا ، ثم غاصت عيناه في أفق بعيد و هو يرتل قصيدته ذات القافية النونية المكسورة :
سرب الظبا الجانى
تتمايل خطاهو في الختل و الختلان
كطاؤوس بيقدل بين ظل و دوحان
مالوكان حيانى ؟
سنة الاسلام السلام
( ثم التفت إلينا مرتجلا ) و لا شنو يا اخوانى ؟
انفجر الجميع بضحك محموم ، بينما تظاهرت أنا بالتماسك و صرت أصفق تصفيقا عظيما . قلت له " أنت شاعر مجيد . فهمت أن " الختل و الختلان " هما ضربان من السير " . أطرق برأسه إطراق نابغة يحاول النزول الى مستوى بعض الغوغاء و همس " فعلا ، فعلا " .
مرت الأيام و بدأ صدامنا الأول مع سلطة المهووسين عبر مظاهرات سلمية داخل الجامعة . كان الجو خانقا حينها و الجامعة تمور بالأمنجية ، و كانت أركان النقاش تستعر بوجهات نظر متضادة ، متضاربة . فجأة ، جاءنى " الريح " . أخبرنى أنه نظم قصيدة عن مجد جامعة الخرطوم و أنه قرر أن يقرأها على مسمعى أولا . تظاهرت بالإطراق و قلت له تفضل ، فقرأ على مسمعى قصيدة قافيتها ياء مضمومة:
جامعة الخرطوم أتاك ركب
قال من أين ؟ أمن الغرب ؟
قلت لها بلى
فنحن قوم يعرف شرفنا حتى الكلب
ثم انتقل الى قافية مختلفة ( لام مضمومة )
جامعة الخرطوم نحن جئناك بالرجال
نحن جئناك بالعكازات الطوال
ثم استمر صوته يهدر عاليا . و شيئا فشيئا بدأ الطلاب يصطفون حوله كما طيور البطريق . المعت عيونهم بسعادة غامرة و هم يستمعون إليه يرتل قصديته الكوميدية الهزيلة . و بين الفينة و الأخرى ينفجرون في ضحك عارم ، عظيم . نسى الحضور قلق المظاهرات ، و القنابل المسيلة للدموع ، و الهراوات التى واجهت بها السلطة مظاهراتنا السلمية ، و تحول المكان إلى مهرجان بهى يضج بالحياة . تلك كانت سمة " الريح " الكبرى : بث الحب و الحياة في أى مكان يذهب إليه . وعقب فراغه من قراءة قصيدته العصماء ضج المكان بتصفيق هائل . انتحيت بشاعرى جانبا . سألنى عن وجهة نظرى فوضعت على وجهى تلك النظرة الجادة ، و قلت له " تعرف أن أمثالى من الهواة لا يرتقون إلى سماوات إبداعكم . لكننى أرى أنه من الأصوب استبدال كلمة " العكازات " بكلمة " العكاكيز " . فالعكازات جمع قلة و العكاكيز جمع كثرة ( كلام لا أساس له من الصحة طبعا ) ، و بما أن طلاب الجامعة ثوار يهدرون في ثنايا المكان وجب وصمهم بالكثرة . التمعت عيناه بحب جارف فعانقنى و هو يهمس " لهذا أحرص على صداقتك يا مهدى . أنت كنز " . في تلك اللحظة حدث شئ غريب . شئ رفع من سقف شقاوتى مع " الريح " بصورة هائلة . مر قربنا " برفسور " الحبر يوسف نور الدائم " . كان الرجل يتقلد رئاسة شعب اللغة العربية حينئذ و كان – و لا يزال – عالما من علماءها الكبار . قلت للريح بسرعة " لماذا لا تلقى قصيدتك هذه على بروفسور الحبر ؟ سألنى في لا تصديق " أممكن هذا ؟ " . قلت له و قلبى يخفق في انفعال غذته المغامرة " و لم لا ؟ " . ثم قبل أن يفيق من دهشته أقتدته من يده الى حيث يقبع مكتب البروف . طلب منى الشاعر العظيم أن أقابله مع عالمنا الكبير ، لكننى تظاهرت بالانكسار و قلت " و ما الذى يجلسنى بين نجوم السماء ؟ " . هز رأسه لا مباليا لثوان ثم دفع الباب و دخل . مضت نصف دقيقة فقط قبل أن يرتفع صوت البروف مقهقها في هستيريا غريبة ، وبين ضحكة و ضحكة كنت استمع الى صوت يد تضرب على الطربيزة في قوة . غنى عن القول أننى تسللت من المكان بهدوء قبل أن أرى ختام تلك المسرحية اللطيفة .
آخر مرة رأيت فيها " الريح " كانت قرب مكتبة " المين " . كان ممسكا بأوراق متناثرة و قد شحب وجهه من فرط الدراسة فقد كنا على بعد أسبوعين من الامتحانات . رآنى فهشت ملامحه الطفلة . عانقنى في حب حقيقى . انضم الينا بعد قليل زميل لطالما هاجمنى بسبب تشجيعى للريح . قال لى ذاك الزميل إننى أرتكب جرما بتغذيتى خيال الريح المريض . لكن الظاهر أن ذلك الصديق العزيز لم يفقه فلسفتى الكلية في الوجود . كنت – و لا زلت – أرى الحياة معاناة هائلة كما عبر عن ذلك بوذا ، و أرى أن الإنسان بطبعه موجود في عراء قاس يموج بالأسئلة و الغموض ، و لكى نتعامل مع هذا الكون لا بد من بعض الوهم الجميل . أذكر أننى حينما قرأت مسرحية " البطة البرية " للعظيم هنريك ابسن تأثرت بها جدا ، و هى مسرحية يقدم من خلالها الدرامى النرويجى العبقرى فلسفته العميقة : أن السعادة شعور إنسانى قد يكون مبعثه الوهم ، و أن التعاسة شعور إنسانى قد يكون مبعثه الحقيقة ، و أننا إن وجدنا واهما سعيدا علينا أن ندعه في وهمه ، و ألا نحاول سوقه إلى حقيقة قد تجلب له شقاءا و بؤسا . بتلك الرؤية كنت أتعامل مع " الريح " . كنت أثق أن الرجل لن يكتب شعرا عظيما يوما . لكن ، ما الضير من جعله يعيش سعيدا و لو لبضع دقائق ؟ ثم إن " الريح "نفسه تحول إلى وسيلة ناجعة لإسعاد العشرات من حوله . أخرجنى صوت " الريح " من تأملاتى فسألته عن جديده الشعرى . برقت عيناه كما هى عادته كلما أراد أن يرتل على شخصى شيئا من إنتاجه الأدبى . قال لى " لهذه القصيدة مناسبة . سألتنى إحدى الحسان عن سر اختفائى فقلت لها ( و القصيدة تنتهى بحاء مكسورة ) :
قالت و قد تمايلت في تمليح
أين أنت يا بو الريح ؟
أتراك قد تركت البنش و النجيلة الخضراء و الشرحيح ؟
قلت لها كفاك أسئلة يا اختى في هذا الزمن القبيح
فأنت تجلسين في " المين رود " لاهية
و أنا أعانى تحت المراويح !!
انفجرت و صديقى في ضحك انبعث من دواخلنا الشقية . ثم من بعيد قدمت إلينا زميلة جميلة . رجوت " الريح " أن يقرأ على مسامعها قصيدته ثانية ففعل بكل طيبة خاطر . ترجرج خليج ينام على نهديها الصبيين من فرط الضحك الهستيرى ، وتراقصت خصلتها الشهيرة تلك على جبينها البدرى ، ثم ركضت بعيدا و ثلاثتنا نحدق وراءها في غياب كامل .
" الريح عبدالقادر " : لا أعلم ما فعلته بك الليالى يا صديقى . لكن سلام عليك حيثما تكون الآن !!
....
مهدى يوسف
جدة
الجمعة 26 أغسطس ، 2016
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.