رأيته للمرة الأولى في العام 1990 . كنت حينها فردا تعيسا في معسكر للدفاع الشعبى خارج مدينة القطينة . قضيت هناك شهرين من أسوأ شهور حياتى ، تعرضت خلالهما للتجويع و الإذلال ومحاولات التدجين . لكن تلك قصة أخرى . المهم أنه في الحفل النهائى لتلك المهزلة رأيت " الريح عبدالقادر " للمرة الأولى . كان قائد المعسكر - و يدعى " محمد خالد " - يمسك بالمايكروفون متحدثا حينما انبرى طالب من اللا مكان معربا عن نيته في إلقاء قصيدة من تأليفه عن المعسكر . نظرت إليه من بين جموع الطلاب فاذا به أسمر اللون ، طويل كما سارية العلم في قلب ساحة المعسكر . قدم نفسه قائلا " الريح عبدالقادر " و قبل أن ننتبه بدأ يلقى قصيدة ركيكة مهلهلة ( و تنتهى قافيتها بضم الدال ) : جئنا لكى نجاهد جئنا نغنى أنا عائد نستيقظ في كل صباح فنشرب الشاى و نذهب الى الميدان الصاعد و نؤدى البيادة ثم نصلى و نستمع إلى محمد خالد الرجل الخالد ( ثم حين التقت بحثا عنه و لم يجده أردف بسرعة ) أين هو ؟ انفجر الجميع بالضحك . حتى الملازم " ياسر " الذى كان مثالا على الصمت و القسوة نسى وقاره و تحول صدره الى نرجيلة تكركر بقهقهة متواصلة . ذهبت إلى الجامعة بعد ذلك . و نسيت " الريح " في خضم محاولاتى التعرف على المكان الجديد و الوجوه الجديدة . كانت براعم الحلم حينها تتثاءب مستيقظة للتو في حقل العمر . ثم ذات يوم رأيت "الريح " قرب الكشكش الصغير جوار داخلية " عطبرة ب " . كان يرتدى عراقيا قصيرا رغم طول قامته فبدا شكله كركيا مضحكا . ذهبت إليه و برغبة طفولية في العبث البرئ قدمت إليه نفسى باعتبارى واحدا من معجبيه الكبار في الكون . التمعت عيناه ببريق رضا أخاذ و أصر يدعونى لكوب من الشاى . بعد يومين جاءنى زائرا في الكلية . كنت أقف قرب حجر " الدسمس " الشهير حينما رأيته . جاءنى معبرا عن رغبتى في قراءة بضعة قصائد على مسمعى ، مبررا ذلك أنه يود الاستفادة من رؤيتى النقدية باعتبارى دارسا في كلية الآداب . و في الحال استعرت في داخلى تلك الرغبة الطفولية في المرح فجمعت عددا من زملائى و قدمته إليهم " الريح عبدالقادر ، طالب بكلية العلوم الإدارية ، شاعر من غطاريف الشعراء " . المعت عيناه بذات البريق الذى ينم عن رضا عارم بالذات ، و قرر أن يلقى على مسامعنا قصيدة بعنوان " سرب الظبا الجانى " . سألته – متخابثا – عن مناسبة القصيدة فقال إنه زار شركة ما في الخرطوم ، و هناك فوجئ بأسراب من الحسان تلتف حوله . تنحنح قليلا ، ثم غاصت عيناه في أفق بعيد و هو يرتل قصيدته ذات القافية النونية المكسورة : سرب الظبا الجانى تتمايل خطاهو في الختل و الختلان كطاؤوس بيقدل بين ظل و دوحان مالوكان حيانى ؟ سنة الاسلام السلام ( ثم التفت إلينا مرتجلا ) و لا شنو يا اخوانى ؟ انفجر الجميع بضحك محموم ، بينما تظاهرت أنا بالتماسك و صرت أصفق تصفيقا عظيما . قلت له " أنت شاعر مجيد . فهمت أن " الختل و الختلان " هما ضربان من السير " . أطرق برأسه إطراق نابغة يحاول النزول الى مستوى بعض الغوغاء و همس " فعلا ، فعلا " . مرت الأيام و بدأ صدامنا الأول مع سلطة المهووسين عبر مظاهرات سلمية داخل الجامعة . كان الجو خانقا حينها و الجامعة تمور بالأمنجية ، و كانت أركان النقاش تستعر بوجهات نظر متضادة ، متضاربة . فجأة ، جاءنى " الريح " . أخبرنى أنه نظم قصيدة عن مجد جامعة الخرطوم و أنه قرر أن يقرأها على مسمعى أولا . تظاهرت بالإطراق و قلت له تفضل ، فقرأ على مسمعى قصيدة قافيتها ياء مضمومة: جامعة الخرطوم أتاك ركب قال من أين ؟ أمن الغرب ؟ قلت لها بلى فنحن قوم يعرف شرفنا حتى الكلب ثم انتقل الى قافية مختلفة ( لام مضمومة ) جامعة الخرطوم نحن جئناك بالرجال نحن جئناك بالعكازات الطوال ثم استمر صوته يهدر عاليا . و شيئا فشيئا بدأ الطلاب يصطفون حوله كما طيور البطريق . المعت عيونهم بسعادة غامرة و هم يستمعون إليه يرتل قصديته الكوميدية الهزيلة . و بين الفينة و الأخرى ينفجرون في ضحك عارم ، عظيم . نسى الحضور قلق المظاهرات ، و القنابل المسيلة للدموع ، و الهراوات التى واجهت بها السلطة مظاهراتنا السلمية ، و تحول المكان إلى مهرجان بهى يضج بالحياة . تلك كانت سمة " الريح " الكبرى : بث الحب و الحياة في أى مكان يذهب إليه . وعقب فراغه من قراءة قصيدته العصماء ضج المكان بتصفيق هائل . انتحيت بشاعرى جانبا . سألنى عن وجهة نظرى فوضعت على وجهى تلك النظرة الجادة ، و قلت له " تعرف أن أمثالى من الهواة لا يرتقون إلى سماوات إبداعكم . لكننى أرى أنه من الأصوب استبدال كلمة " العكازات " بكلمة " العكاكيز " . فالعكازات جمع قلة و العكاكيز جمع كثرة ( كلام لا أساس له من الصحة طبعا ) ، و بما أن طلاب الجامعة ثوار يهدرون في ثنايا المكان وجب وصمهم بالكثرة . التمعت عيناه بحب جارف فعانقنى و هو يهمس " لهذا أحرص على صداقتك يا مهدى . أنت كنز " . في تلك اللحظة حدث شئ غريب . شئ رفع من سقف شقاوتى مع " الريح " بصورة هائلة . مر قربنا " برفسور " الحبر يوسف نور الدائم " . كان الرجل يتقلد رئاسة شعب اللغة العربية حينئذ و كان – و لا يزال – عالما من علماءها الكبار . قلت للريح بسرعة " لماذا لا تلقى قصيدتك هذه على بروفسور الحبر ؟ سألنى في لا تصديق " أممكن هذا ؟ " . قلت له و قلبى يخفق في انفعال غذته المغامرة " و لم لا ؟ " . ثم قبل أن يفيق من دهشته أقتدته من يده الى حيث يقبع مكتب البروف . طلب منى الشاعر العظيم أن أقابله مع عالمنا الكبير ، لكننى تظاهرت بالانكسار و قلت " و ما الذى يجلسنى بين نجوم السماء ؟ " . هز رأسه لا مباليا لثوان ثم دفع الباب و دخل . مضت نصف دقيقة فقط قبل أن يرتفع صوت البروف مقهقها في هستيريا غريبة ، وبين ضحكة و ضحكة كنت استمع الى صوت يد تضرب على الطربيزة في قوة . غنى عن القول أننى تسللت من المكان بهدوء قبل أن أرى ختام تلك المسرحية اللطيفة . آخر مرة رأيت فيها " الريح " كانت قرب مكتبة " المين " . كان ممسكا بأوراق متناثرة و قد شحب وجهه من فرط الدراسة فقد كنا على بعد أسبوعين من الامتحانات . رآنى فهشت ملامحه الطفلة . عانقنى في حب حقيقى . انضم الينا بعد قليل زميل لطالما هاجمنى بسبب تشجيعى للريح . قال لى ذاك الزميل إننى أرتكب جرما بتغذيتى خيال الريح المريض . لكن الظاهر أن ذلك الصديق العزيز لم يفقه فلسفتى الكلية في الوجود . كنت – و لا زلت – أرى الحياة معاناة هائلة كما عبر عن ذلك بوذا ، و أرى أن الإنسان بطبعه موجود في عراء قاس يموج بالأسئلة و الغموض ، و لكى نتعامل مع هذا الكون لا بد من بعض الوهم الجميل . أذكر أننى حينما قرأت مسرحية " البطة البرية " للعظيم هنريك ابسن تأثرت بها جدا ، و هى مسرحية يقدم من خلالها الدرامى النرويجى العبقرى فلسفته العميقة : أن السعادة شعور إنسانى قد يكون مبعثه الوهم ، و أن التعاسة شعور إنسانى قد يكون مبعثه الحقيقة ، و أننا إن وجدنا واهما سعيدا علينا أن ندعه في وهمه ، و ألا نحاول سوقه إلى حقيقة قد تجلب له شقاءا و بؤسا . بتلك الرؤية كنت أتعامل مع " الريح " . كنت أثق أن الرجل لن يكتب شعرا عظيما يوما . لكن ، ما الضير من جعله يعيش سعيدا و لو لبضع دقائق ؟ ثم إن " الريح "نفسه تحول إلى وسيلة ناجعة لإسعاد العشرات من حوله . أخرجنى صوت " الريح " من تأملاتى فسألته عن جديده الشعرى . برقت عيناه كما هى عادته كلما أراد أن يرتل على شخصى شيئا من إنتاجه الأدبى . قال لى " لهذه القصيدة مناسبة . سألتنى إحدى الحسان عن سر اختفائى فقلت لها ( و القصيدة تنتهى بحاء مكسورة ) : قالت و قد تمايلت في تمليح أين أنت يا بو الريح ؟ أتراك قد تركت البنش و النجيلة الخضراء و الشرحيح ؟ قلت لها كفاك أسئلة يا اختى في هذا الزمن القبيح فأنت تجلسين في " المين رود " لاهية و أنا أعانى تحت المراويح !! انفجرت و صديقى في ضحك انبعث من دواخلنا الشقية . ثم من بعيد قدمت إلينا زميلة جميلة . رجوت " الريح " أن يقرأ على مسامعها قصيدته ثانية ففعل بكل طيبة خاطر . ترجرج خليج ينام على نهديها الصبيين من فرط الضحك الهستيرى ، وتراقصت خصلتها الشهيرة تلك على جبينها البدرى ، ثم ركضت بعيدا و ثلاثتنا نحدق وراءها في غياب كامل . " الريح عبدالقادر " : لا أعلم ما فعلته بك الليالى يا صديقى . لكن سلام عليك حيثما تكون الآن !! .... مهدى يوسف جدة الجمعة 26 أغسطس ، 2016 [email protected]