دبابيس ودالشريف    راشد عبد الرحيم: امريكا والحرب    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    عاجل.. وفاة نجم السوشيال ميديا السوداني الشهير جوان الخطيب على نحو مفاجئ    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    ((نعم للدوري الممتاز)    رئيس مجلس السيادة يتلقى اتصالاً هاتفياً من أمير دولة قطر    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من مذكرات سير جيمس روبرتسون (2)


From: Sir James Robertson Memoir -2
جيمس روبرتسون James Robertson
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني لشذرات مما ورد في كتاب Transition in Africa من تأليف جيمس روبرتسون. ويتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، خصص الجزء الأول لمذكراته للحديث عن عمله في أقاليم السودان، والجزء الثاني لعمله سكرتيرا إداريا بينما أورد في الجزء الثالث مذكراته في غضون سنواته حاكما عاما على نيجيريا. صدر الكتاب في عام 1974م عن دار النشر اللندنية C. Hurst & Company.
تلقى المؤلف (1899 – 1983م) تعليمه في أدنبرا وأكسفورد، ثم التحق بخدمة القسم السياسي بحكومة السودان بين عامي 1922- 1953م، في مديريات النيل الأزرق والنيل الأبيض والفونج وكردفان. وعين بعد ذلك في منصب السكرتير الإداري من عام 1945 إلى 1953م. ثم غادر السودان إلى غينيا الجديدة، ثم إلى نيجريا، والتي عين فيها حاكما عاما في عام 1955م إلى أن نالت الاستقلال في 1960م.
وبالإضافة لهذا الكتاب، نشر السير روبرتسون كتابا جمع فيه مراسلاته عنوانه The last of the proconsuls ، وعددا من المقالات منها "أصول الفونج" والمنشور في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات"، ومقدمة قصيرة لكتاب المهندس المعماري السوداني محمد النجومي، المعنون وصاية عظيمة A Great Trusteeship .
وتسود المذكرات، كما هو متوقع من إداري استعماري حكم البلاد منذ عشرينات القرن الماضي، لغة يغلب عليها التعالي والعنصرية والتفاخر بالقيام ب "عبء الرجل الأبيض" على أكمل وجه.
المترجم
**** **** ****
عملي في الروصيرص بين عامي 1930 – 1933م
كان منزلنا في الروصيرص مريحا، به ثلاثة غرف ممتازة وفرندات واسعة. وكان مقاما على تل صغير وتحته مساحة منبسطة واسعة كنا نقوم فيها باللعب بكرة بولو. وجدت مركزنا محاطا بأشجار تبلدي ضخمة، فقمت بزراعة مئات من أشجار النيم على طول الشارع المؤدي للمركز مما جعله ظليلا في سنوات قادمة عندما زرت تلك المدينة. وكان لنا خلف المنزل حديقة صغيرة كنا نزرع فيها ما نحتاجه من خضروات. وأقمنا ناديا كنا نجتمع فيه في بعض الأمسيات ونسمر مع بقية الكتبة والموظفين السودانيين الآخرين، ونلعب أحيانا مع بعضهم التنس. وزارنا في الشتاء بعض الموظفين من الشمال لقضاء عطلة عيد الميلاد ورؤية الجبال والمشاركة في بعض الألعاب. وبالفعل كانت فترة الأعياد تلك ستكون كئيبة ومؤلمة نفسيا وعقليا لمن هو منقطع مثلنا في بقعة معزولة موحشة مثل جنوب الفونج، حيث لا تصلنا الصحف، ولم يكن الراديو قد ظهر بعد بالبلاد. ويزداد الأمر سوءً عند هطول الأمطار الغزيرة، وعند الإصابة بالملاريا أو غيرها من الأدواء.
صرمت في هذه المنطقة ثلاث سنوات، قضيت معظمها في رحلات عمل وطواف على كل مناطق إدارتي على ظهور الخيول والبغال. غير أني وجدت في الروصيرص ما لم أجده في شمال مديرية النيل الأزرق (ولا في غيرها) من حياة برية وحيوانات وحشية متنوعة.
وقبل فترة وجيزة من نقلي من الروصيرص إلى كردفان، ضمت مديرية الفونج إلى مديرية النيل الأزرق. ومما آلمني بالفعل بعد مغادرتي للروصيرص أن قرأت برقية كتبها مدير المديرية الجديد بعد زيارة له للروصيرص جاء فيها: "ما الذي كان يفعله روبرتسون هناك؟ فالمكان في غاية التخلف!". طلبت أن يرسل له ردي، والذي جاء على هذا النحو: "لقد صعد الجبال، وتعرف على الناس، وأصطاد السمك"!
عملي في مدني بين عامي 1939 – 1941م
مرت ستة أعوام قبل عودتي للعمل في النيل الأزرق بمزيد من السلطات والمسئوليات.
كنت أقضي عطلتي السنوية بإنجلترا عند بداية الحرب العالمية الثانية، وتلقيت – مع بقية الزملاء الذين كانوا يقضون عطلاتهم في مختلف المدن البريطانية – أمرا بالتجمع في جلاسجو للعودة بأعجل ما تيسر لمقرات عملنا بالسودان. وفي تلك المدينة الأسكتلندية سمعت في الثالث من سبتمبر بيان شامبرلين رئيس الوزراء الذي أعلن فيه رسميا حالة الحرب بين بريطانيا وألمانيا. وأبحرنا للسودان على ظهر السفينة Moncalm في رفقة عدد من "المدمرات destroyers" وفي جو بديع لم تعكر صفوه أخبار الحرب، إلا أننا أجرينا في غضون أيام إبحارنا عددا من "تمارين السلامة". كان عدد الركاب القاصدين للسودان 350، وكان من بينهم كبار الإداريين والقس قوين (أسقف مصر والسودان بين عامي 1900 و1945م). وعند عودتنا سمعنا من البعض أقوالا ساخرة مثل: "لو أغرق الألمان تلك السفينة Moncalm فسيكون ذلك أمرا مؤسفا، ولكنه سيكون سببا في ترقية الكثير من الإداريين"!
وبلغت سفينتنا ميناء بور سعيد، ومنها سافرنا بالقطار إلى القاهرة. ومن هنالك حجزت – بصعوبة بالغة- قمرة نوم في القطار المتجه جنوبا. وبلغت في النهاية مقصدي، مدينة واد مدني لتسلم عملي نائبا لمدير مديرية الجزيرة الضخمة (التي غدت تضم مديريات النيل الأزرق والفونج والنيل الأبيض السابقة). ورغم ما كان يدور في العالم من معارك إلا أن عملي في الإدارة بمدني لم يتأثر كثيرا. وكان أولى النصائح المهمة التي تلقيتها في بداية عملي بمدني هي ضرورة المحافظة على علاقات طيبة مع رئيس وكبار أعضاء مجلس إدارة مشروع الجزيرة في بركات الواقعة جنوب مدني. غير أني بعد أيام قليلة من تلقي تلك النصيحة وجدت نفسي اصطدم بمدير عام مشروع الجزيرة في أثناء لعبنا معا للبولو، ونتج عن تلك الحادثة المؤسفة كسر ضلعين من ضلوع ذلك المدير. غير أنه تلقى الأمر بروح رياضية عالية.
ونسبة لإصابة مدير المديرية بالملاريا في نهاية عام 1939م واضطراره للعودة لبريطانيا (دون أن يعود) فقد صرت المدير الفعلي لمديرية الجزيرة حتى نهاية دورة خدمتي بها في يوليو من عام 1941م.
كانت حكومة السودان قد قررت عدم زيادة أفراد قوة دفاع السودان الصغيرة خشية أن تغضب إيطاليا، والتي كانت تحتل إثيوبيا. وعوضا عن ذلك تقرر أن يقوم الموظفون البريطانيون بالسودان بالتطوع للعمل في قوة دفاع السودان إن دعت الحاجة، وضمت قوة الشرطة لتلك القوة.
وبالنظر لإعلان موسيليني الحرب إلى جانب ألمانيا، ونسبة إلى أنه كان هنالك حشد كبير للجيش الإيطالي أمام كسلا وأجزاء من مديرية الجزيرة رأت السلطات العليا ضرورة أن يعين للسودان حاكم عام له خلفية ورتبة عسكرية رفيعة. وبالفعل عين الجنرال السير هيربرت هيدليستون حاكما عاما على السودان، عوضا عن السير استيوارت سايمز، والذي كان ينتقده البعض بشدة لعدم تأييده القوي لجهود السودان في الحرب، ولقوله ذات مرة أن تلك الحرب "شأن أوربي خالص" يخص سكان أوربا وحدها، ولا شأن للأفارقة به، ولسخريته من بعض الاستعدادات والمظاهر الحربية التي كان العسكريون يرون أن لها تأثيرا نفسيا عظيما على السكان.
وفي الأيام الأولى من نوفمبر 1941م عاد الإيطاليون في إثيوبيا إلى السيطرة على المناطق الحدودية مع السودان. وكنا نستعد للهجوم عليهم ونحن نؤمل في النصر، إذ أننا قضينا ذلك الصيف في تعبئة ناجحة للإثيوبيين وتحريضهم على الثورة على الإيطاليين. وقام الضباط البريطانيون بعبور الحدود على ظهور الجمال لتزويد ثوار الإثيوبيين في الريف بالبنادق والمؤن والمال. وقمنا في ذات الوقت بزيادة الضغط على مواقع الإيطاليين في الحدود. وفي يناير من عام 1942م رافقت دوقلاس نيوبولد (السكرتير الإداري حينها) إلى المناطق الحدودية لتفقد أوضاع جيشنا هنالك، والذي كان مكونا – بالإضافة لضباطنا وجنودنا البريطانيين في "بنادق الملك الإفريقية King's African Rifles " – من ضباط وجنود سودانيين من قوة دفاع السودان، وقوات إثيوبية، وبطاريات مدافع بريطانية. وتم استجلاب الكثير من الإبل من الجزيرة وكردفان لتدعيم ما كان لدى القوات السودانية منها. وفي يوم 4 فبرابر أفلحت قواتنا في تحرير الكرمك من الاحتلال الإيطالي، وزال عننا القلق من أن يبلغ الإيطاليون الجزيرة. وكنت ذات ليلة أنام فوق سطح منزلي واستيقظت فزعا عندما رأيت صفا من السيارات تلمع أضوائها وهي تقترب من منزلي. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما تبين لي أنها كانت رتلا من سيارات عرس سوداني، وليست سيارات الجيش الإيطالي!
وكان دوري كنائب للمدير في تلك الأيام يقتصر على أخذ الإجراءات الازمة لتوفير الدعم الكافي لجبهتنا في المديرية، وإدارة شئون المديرية الأخرى كما هو معتاد. وعرضت على رتبة عسكرية ولكني أبيت ذلك، لأنني كنت أرى أنني سأكون أكثر استقلالية وقدرة على مجادلة العسكر إن بقيت مدنيا.
وكان السودانيون يقفون بقوة خلف مجهودات الحكومة في تلك الحرب، وأظهروا الكثير من الدلائل على ذلك، مثل التطوع للالتحاق بالقوات المحاربة، وما ذكره لي من كنت أخطب فيهم في مختلف أرجاء المديرية من عبارات التأييد والمساندة. ولعل كره السودانيين للإيطاليين كان نابعا مما سمعوه عنهم من سوء المعاملة للسنوسيين في برقة عند احتلالهم لذلك البلد. وانتفعنا نحن من ذلك الكره. وأعجب السودانيون كذلك بوجود الجنود الأجانب، خاصة الهنود، وهم يقومون باستعراضات عسكرية في واد مدني، وهم في الطريق إلى القضارف وخشم القربة على الحدود الإرترية. واستقبلت جموع السودانيين أولئك الهنود بالتصفيق والغناء والرقص في محطة السكة حديد. وازدادت إثارة السودانيين وهم يرون الجنود من طائفة السيخ ينزلون من القطار ويقيمون في فضاء واسع صلواتهم، ويصففون شعر رؤوسهم. ونال الجنود الأسكتلنديون كذلك نصيبا وافرا من الترحيب، خاصة عندما قام بعض الجنود – في تنوراتهم المميزة- بالعزف على آلة القرب على رصيف المحطة. وقامت زوجي - مع بعض النسوة في لجنة الاستقبال – بإعداد الشاي والمرطبات في المحطة لكل أولئك الجنود. وكانت مسئولة أيضا عن الشفرات والرموز في البرقيات التي كنا نرسلها للخرطوم وغيرها. وفي إحدى المرات استخدمت زوجتي في إحدى البرقيات خمس حروف هي L.O.V.E. مما دعا من استقبل تلك البرقية لتقديم شكوى ضدي يزعم أنني لم أكن أخذ الحرب مأخذ الجد!
وبعد معركة كرن وسقوط أسمرا بعد ذلك بأيام، أخبرت بأن الآلاف من أسرى الحرب في طريقهم لود مدني. وبالفعل، قبل أن أغادر ود مدني في يوليو 1941م ازداد عدد هؤلاء إلى نحو 10000، كان منهم 1500 من الإيطاليين. فأقمنا لهؤلاء الأسرى معسكرا مكونا من عشش صغيرة من القش محاطة بأسلاك شائكة. ولم تقع إلا حالات هرب قليلة من ذلك المعسكر، رغم شكوكي في موثوقية الحرس. وتكلف الأهالي بالقبض على الفارين من ذلك المعسكر، وأثخنوهم ضربا وأعادوهم للمعسكر.
وتحدثت مع بعض الإيطاليين الأسرى وأخبروني بأنهم استسلموا في كرن لعدم اقتناعهم بالموت في أفريقيا، فالحرب الحقيقية في نظرهم هي في أوروبا.
وفي ربيع عام 1941م أخبرت بأنه تقرر نقلي للخرطوم للعمل مساعدا للسكرتير الإداري. ورأيت في ذلك إجحافا إذ أنني كنت أقوم – وبنجاح بائن- بمهام مدير مديرية كبرى لنحو عام ونصف. ولكني أجبرت على القبول، ونلت عطلة قصيرة في شرق أفريقيا قبل العودة للخرطوم في وظيفتي الجديدة.
عملي في الخرطوم بين عامي 1941 – 1953م
أتاح لي العمل في السكرتارية الإدارية بالخرطوم معرفة طرق عمل الإدارة المركزية بالسودان، والتي توسعت كثيرا بعد عام 1922م. غير أن تلك الوظيفة – بطبيعتها الحساسة- قد قللت من فرص لقاءاتي غير الرسمية مع السودان كما كنت أفعل في الأقاليم.
وكان لحاكم عام السودان ثلاثة مساعدين: السكرتير المالي والقضائي والإداري. وكان من يعمل تحت أي من هؤلاء السكرتيرين يعدهم "ثالوثا مقدسا" متساوين في الأهمية، رغم أنهم لم يكونوا على اتفاق تام دوما، وكانوا يمارسون أعمالهم بصورة مستقلة عن الآخرين. وكانت تتبع للسكرتير الإداري مصالح مختلفة مختصة بالصحة والتعليم والزراعة والغابات والمساحة والحكومة المحلية والإدارة الأهلية والشرطة والسجون والطيران والاستعلامات، ثم أضيفت لكل ذلك مصلحة العمل. أما السكرتير المالي فقد كان مسئولا عن مصالح المراجعة والجمارك والضرائب ومشروع الجزيرة والري والسكة حديد. وكان السكرتير القضائي مسئولا عن التشريع وتعينات الهيئة القضائية والمحاكم المدنية والشريعة وقسم تسجيلات الأراضي. وكما يتضح من تفصيلات الأقسام التي تتبع لكل سكرتير، فقد كانت أعمال السكرتيرين الثلاثة متداخلة بصورة كبيرة. فالسكرتير الإداري مسئول عن الجوانب السياسية والاجتماعية لمشروع الجزيرة. وبما إنه يعد ممثل الحاكم العام في الخارج، فهو لا يستطيع أن يجهل ما يقوله السكرتير المالي أو مدير الري لمصر عن مياه النيل. ويتلقى السكرتير الإداري كل ما يترتب سياسيا على أي خلاف بين السكرتير المالي والقضائي، مثلما ما حدث في قضايا عمال السكة حديد. ومضى العمل بيني كسكرتير إداري (منذ 1945م) وجوك ميلر وتوم كريد السكرتيرين الآخرين، واللذان كانا يكبراني سنا، بسهولة ويسر وتعاون، فقد كانا صديقان حميمان لي. ولما غادرا البلاد عام 1947م عملت مع خلفيهما بذات اليسر والسلاسة.
وقضيت سنواتي الأولي نائبا للسكرتير الإداري في مناقشة قضايا الشئون الخارجية مع مصر وبريطانيا، خاصة فيما يتعلق بمصير السودان. وكلفت بتمثيل الحاكم العام في مفاوضات جرت بالقاهرة حول ذلك مع اللورد كاريدان (المفوض السامي وسفير بريطانيا في القاهرة بين عامي 1934- 1946م) والحكومة المصرية. وشملت تلك المحادثات وضع الأراضي المحتلة في أريتريا المجاورة لكسلا، والتي يقطنها كثير ممن يمتون بصلة قرابة قبلية ل "البني عامر" و"الهدندوة" بالسودان. وأوضحت لذلك الاجتماع أن ليس للسودان من ناحية دستورية أي مطمع ولا نية في ضم أراض من أرتيريا للسودان. وعلى كل، فإن غالب تلك المنطقة يقطنها إرتريون مسيحيون يشبهون الإثيوبيين بأكثر مما يشبهون السودانيين. لن تمانع الحكومة في القبول ببني عامر في المناطق السفلى، فهم أبناء عمومة للبني عامر عندنا. غير أننا نفعل ذلك خدمة فقط للقوات المتحالفة وترتيباتها المستقبلية في المنطقة، لأن قبولنا بهؤلاء سيكون مكلفا ماليا، ولن يعود بأي دخل يذكر للسودان. ولكننا نعتقد أيضا بأن جمع أفراد البني عامر تحت إدارة واحدة سيساعد على استباب الأمن والنظام في المنطقة، وسيقلل من الاحتكاكات القبيلة.
أما في جانب عملي في الجمعية التشريعية (والتي كان السيدان عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني قد منحا عضوية "شرفية" فيها)، فقد كنت مكلفا برئاسة اجتماعيها السنويين. وناقشت تلك الجمعية قضايا مهمة تتعلق بمشروع الجزيرة والتعليم وغير ذلك من القضايا، وكانت الحكومة تأخذ آراء الأعضاء مأخذ الجد. غير أن أسهم النقد الحاد قد وجهت لتلك الجمعية، خاصة من قبل المتعلمين الوطنيين في المدن، وكان ذلك من أسباب التوتر والشقاق بينهم وبين سكان الريف المحافظين من غير المتعلمين المتأثرين بزعماء الطائفية والقبائل، والذين كانوا يخشون فقدان نفوذهم وسلطتهم إن تركت السلطة بيد طبقة الأقلية المتعلمة.
ويقودنا هذا الحديث لتكوين الأحزاب السياسية. سعى عدد صغير من المؤيدين لمصر (ويطلق عليهم "الأشقاء") للحصول على تأييد السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية، بينما سعى الوطنيون المناهضون لمصر لنيل مؤازرة السيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار، وكونوا حزب الأمة.
وكان المصريون يكثرون من الشكوى من استبعاد الحكومة البريطانية لهم في حكم السودان، رغم أن حكم السودان كان محكوما – نظريا- ب "اتفاقية الحكم الثنائي". ولعل من أسباب ذلك الاستبعاد رفض المصريين لبنود تلك الاتفاقية منذ البداية ومحاولاتهم المستمرة لتقويضها. ثم أتى عام 1924م والذي حرض فيه المصريون بعض الضباط السودانيين على التمرد. وهنالك أيضا الفساد وقلة الكفاءة التي اشتهرت بها الطبقات الحاكمة المصرية، والذي شجع بريطانيا على استبعاد المصريين من إدارة السودان بصورة شبه كاملة. وكتبت في تلك الأيام أن " لا شيء سيسكت المصريين سوى إجلاء كل القوات البريطانية عن مصر، وضم مصر للسودان".
وفي نهاية عام 1945م قدمت الحكومة المصرية طلبا رسميا لحكومة بريطانيا للتفاوض حول تعديل الاتفاقية البريطانية – المصرية المبرمة عام 1936م. لا شك أن لمصر بعض الحق في المطالبة بتعديل تلك المعاهدة والتي عقدت قبل الحرب العالمية الثانية. إذ لا يجب نسيان تنامي الاتجاهات الوطنية للتحرر من الإمبريالية في الدول المستعمرة، ومساهمة مصر الكبرى في دحر خطر استيلاء الألمان والإيطاليين على أجزاء مهمة في أفريقيا.
وكان من رأي بعض البريطانيين أن أهم وسائل مقاومة الضغوط المصرية هو الإسراع بسودنة الوظائف الإدارية والمهنية. وكان لدي الكثير من التحفظات على ذلك لأسباب عديدة.
عملي سكرتيرا إداريا بين عامي 1947 – 1948م
تولى السير روبرت هاو منصب الحاكم العام خلفا للسير هيربرت هيدليستون منصب الحاكم العام. وكان السير روبرت هاو دبلوماسيا مهنيا في أثيوبيا بين عامي 1942 – 1945م، ثم نقل إلى قسم شئون الشرق الأوسط برئاسة وزارة الخارجية بلندن. ولما سمع البريطانيون في السودان (والذين لم يكونوا راضين عن سياسة مصر تجاه السودان) بنبأ تعيينه حاكما عاما، خشوا من أن يقوم الرجل بإجراء تغيرات في الإدارة بحسب ما تريده وزارة الخارجية من تقديم ترضيات لمصر. غير أن السير روبرت هاو أثبت في سنوات عمله بالسودان بأنه يساند بقوة حق السودان في تقرير مصيره.
وكنت في استقبال الحاكم العام الجديد وحرمه في وادي حلفا في السادس من مايو. وقضيت معه ساعات الرحلة الطويلة إلى الخرطوم في مناقشة كثير من أمور حكم السودان، ووجدت الرجل مهتما بالسودان ومستقبله. وفي محطة السكة حديد لقي السير روبرت هاو استقبالا رسميا من كبار المسئولين البريطانيين وأعيان البلاد. وأصطف كثير من الأهالي في الشارع المؤدي للقصر لتحيته. ولم يعكر صفو ليلة الحاكم العام الأولى في البلاد إلا تعطل جهاز التكييف بعد أن أطلق صوتا عاليا مخيفا. وقيل إن زوجة الحاكم العام ظنت أن ذلك كان صوت انفجار قنبلة فصاحت: "هذه هي الأولى!".
بدأ الحاكم العام منذ اليوم التالي لوصوله باجتماع مع أعضاء "مجلس الحاكم العام"، ثم أفتتح جلسة للمجلس الاستشاري.
وحاولت كثيرا أن أشرح لأعضاء المجلس الاستشاري أن طبيعة "المرحلة الوسطى" التي يعيشها السودان بين حكومة أوتوقراطية، وحكومة ممثلة للشعب، لا بد أن تفرز بعض التشوهات والأمور اللامنطقية (anomalies and illogicalities)، وأنه لا يمكن تفادي ذلك إلا بتعديل اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا. ولا يستطيع الحاكم العام، بما منح له من سلطات، وما عليه من مسئوليات تشريعية أمام دولتي الحكم الثنائي أن يسلم سلطاته النهائية / المطلقة لحكومة سودانية. ولا بد من منحه السلطات اللازمة لنقض/ لإبطال أي قرار يصدره المجلس الاستشاري يرى هو (أي الحاكم العام) أنه يخالف اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا.
وكانت من المشاكل التي واجهت مقترح إنشاء جمعية تأسيسية بالبلاد هو تقرير إن كان للجنوبيين الحق في المشاركة فيها. فقد أوصى المؤتمر الإداري بأن يتم إشراك الجنوبيين في تلك الجمعية. غير أن الشكوك حول حكمة تلك التوصية كانت تدور في أذهان كثير من الأوساط. وكانت مشكلة الجنوب، على وجه خاص، هي أهم وأعسر المشاكل التي واجهتني في سنوات عملي كسكرتير إداري. ولا شك عندي في أن تأخير حلها هو الذي أدى في عام 1955م للحرب الأهلية بالجنوب، والتي تواصلت بوتائر مختلفة حتى يناير من عام 1972م.
إن لمشكلة الجنوب تاريخ طويل. فقد نجح الغزو المصري – التركي للسودان عام 1820م في هزيمة النوير والدينكا والشلك بقوته العسكرية المتفوقة، رغم أن تلك القبائل كانت قد قاومت غزوات الشماليين السابقة دون عسر كبير. وظل الجنوب بأكمله في غضون ما تبقى من القرن التاسع عشر (ربما فيما عدا فترات صمويل بيكر وغردون) في حالة مستمرة من عدم الاستقرار والنزاع مع حكومة الخرطوم. ولما جاء الحكم الثنائي وجد الجنوبيين في حالة خوف وتوجس وشك في حكام الخرطوم. واستغرقت عملية إنشاء إدارة مدنية في مديريات الجنوب ما لا يقل عن عشرين إلى ثلاثين عاما. لذا تأخر بدء عمليات التنمية الاجتماعية والتعليمية في الجنوب مقارنة بمثيلاتها في الشمال. أي أن الجنوب ظل في حالة إدارة تعنى بالرعاية والصيانة care and maintenance فحسب، وكان أكبر همها الحفاظ على الأمن والاستقرار، ومحاولة كسب ثقة الأهالي. وكان الجنوب (آنذاك) بلا موارد تستحق الذكر، ويتم الإنفاق عليه من الشمال. ولم يكن للحكومة من حافز كي تستثمر في تنمية وتطوير الجنوب في مجالات الخدمات الاجتماعية والتقدم الاقتصادي، إذ لم تكن تتوقع أن يثمر مثل ذلك الاستثمار عن أي عائد مجز في المستقبل المنظور.
وكانت إدارة الجنوب عسيرة بسبب اتساع رقعته الجغرافية. فلتوفير بعض المال، ضمت مديريتي منقلا وبحر الغزال في مديرية واحدة عام 1937م وسميت المديرية الجديدة ب "أعالي النيل". وفوق ذلك، فقد طلب من مارتن بار، مدير تلك المديرية الجديدة الواسعة المترامية الأطراف، أن يديرها من جوبا! وكانت المواصلات والاتصالات في تلك المناطق في غاية البؤس، ومناطقها الإدارية أكبر من أن تدار بطريقة تامة.
ولكسب ثقة الجنوبيين كانت الحكومة في السابق قد أقرت "قانون المناطق المقفولة" والذي كان يلزم تجار الشمال بالحصول مسبقا على تصريح بالعمل التجاري في الجنوب. وكان الهدف من ذلك القانون هو الحد من أعداد أولئك التجار، ومنع التجار المتجولين pedlars (الجلابة) من التجول في أنحاء الجنوب. ورغم أن ذلك القانون لم يكن ينطبق على الشماليين (العاديين) من غير التجار، إلا أن السلطات لم تكن بالقطع تشجعهم على السفر للجنوب. وكان الهدف (النهائي) من ذلك الحظر هو خلق حاجز يحمي الجنوبيين البسطاء غير المتعلمين من استغلال أناس في غاية المكر والدهاء، ولا يمكن الوثوق بهم، وبالتالي منع استمرار الكراهية بين الجنوب والشمال (هكذا؟! المترجم). وكان يؤمل أن يقوم الجنوبيون في غضون سنوات ذلك الحظر بتطوير أنفسهم حتى "يقفوا على أرجلهم" ويقابلوا الشماليين وهم على قدم المساواة معهم. غير أن الواقع يقول إنه لم يتم إنجاز شيء في مجال التنمية بالجنوب حتى قامت الحرب العالمية الثانية. وظلت شئون الصحة والتعليم في أيدي جمعيات المبشرين. ولم يكن لهؤلاء –رغم صدق نواياهم- ما يكفي من الموارد لخلق تنمية حقيقية في المجالين. ولم تكن الحكومة – حتى بداية عشرينات القرن العشرين- تساعد تلك الجمعيات التبشيرية بشيء. لذا ظل التقدم في الجنوب بطيئا جدا.
ومع بداية الأربعينات، بدأ السودانيون الشماليون والمصريون في إلقاء اللوم في تخلف الجنوب على حكومة السودان، وطفقوا يذكرون "قانون المناطق المقفولة" ومنع الجمعيات الدعوية الإسلامية من دخول الجنوب، وعدم إشراك الجنوبيين في "المجلس الاستشاري"، وعدم السماح لذلك المجلس حتى من مجرد مناقشة مشكلة الجنوب، واستبعاد اللغة العربية في التعليم، وإرسال الجنوبيين لأوغندا لنيل التعليم العالي وعدم إرسالهم لكلية غردون كأسباب مؤكدة على تخلف الجنوب. كذلك أطلق السودانيون الشماليين والمصريون إشاعات بقرب ضم جنوب السودان لأوغندا، وضخموا الأمر بأكثر مما يستحق.
وبعد سنوات طويلة من كل ما سبق عزيت نفسي بكتابة هذه السطور: "إن ظهور طبقة سياسية في أوساط الشعوب المستعمرة، وتنامي الشعور بالوطنية بينهم ليس دليلا على إخفاقنا. وإن ظهور دول مثل الهند والباكستان وسيلان (والتي شارك رؤساء وزرائها مؤخرا في مؤتمر رؤساء الوزارات) لا يعد خسارة لنا ... فهو نتيجة لمجهودات ضخمة بذلها الإداريون والمعلمون والقضاة البريطانيون .... أما في أفريقيا، فقد كنا نسعى لخلق دول أفريقية لها حكومات أفريقية، تتناقص فيها سلطة وإرشاد وتوجيه البريطانيين حتى يندثر تماما. وسيكون ذلك العمل أشد عسرا من إدارة شؤون شعوب متخلفة. ويعتمد مستقبل هؤلاء الناس على هذا العمل الذي يستحق بالفعل أن ينجز، وعلى الطريقة التي ننجزها به، وعلى الوسائل التي نتعامل بها مع القوى المتعاظمة لدعاة الوطنية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.