خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الولايات المتّحدة الأمريكية وإعادة ترتيب الأوراق في جنوب السودان– رؤية تحليليّة (1)
نشر في الراكوبة يوم 25 - 09 - 2016


رياك مشار والخروج المُبكّر
تتسارع وتيرة الأحداث في جمهورية جنوب السودان بصورة دراميّة تُنبئ معها بأن المسرح السياسي هناك سيشهد تحوُّلات كبيرةهي في طريق إعادة ترتيب في صفوف القيادة السياسية وبنية السلطة خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية صراحةً رفضها لعودة رياك مشار لمنصب النائب الأول وصدور عدّة تصريحات وتقارير دولية تفيد بوقوع انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان قامت بها الأطراف المتنازعة في البلاد، أُتهم بارتكابها عدد من كبار المسئولين الواغلين في عمليات فساد مالي كبيرة هناك، وهذا في مجمله يُثير السؤال: هل يُمكن أن يكون المجتمع الدولي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة الأمريكية، قد اتخذ قراره بضرورة إزاحة سلفاكير ومشار وعدد من القياديين عن السلطة واحلال آخرين مكانهم، بل ويعمل بجدٍّ في اتجاه تنفيذ ذلك؟
محمّد أحمد شقيلة
أكاديمي وباحث في العلوم السياسية
(1)
هنالك مثلٌ أفريقيٌ قديمٌ يقول: "عندما تتصارع الأفيال تتضرر الحشائش"، وهذا بالضبط هو الضرر الذي تعرّض له شعب جنوب السودان نتيجة للصراع الدائر بين الرئيس سلفا كير ونائبه الأول السابق رياك مشار، حيث انزلقت البلاد، جراء هذا الصراع، في دوامة من النزاع المسلح العنيف راحت ضحية له الكثير من أرواح أبنائها وبناتها من الجانبين ومن عامة الشعب. جرت جهود دولية وإقليمية كثيرة لإنهاء النزاع سيما من قِبل دولة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر نفسها الراعي الرسمي للدولة الوليدة وداعم أساسي لحكومتها، ولكن لم تُكلّل هذه الجهود بنجاح يُذكر في فض النزاع وتحقيق السلام والاستقرار بالبلاد، وفي مقدّمتها بالطبع جهود الولايات المتحدة. إذ إن حتى اتفاق السلام الذي "فُرِض" على الجانبين التوقيع عليه لم يصمد طويلاً، حيث تعرّض للانهيار بصورة شبه كاملة منذ الشروع في تنفيذ خطواته "الأولية"، والذي يعكسه عزل الرئيس لنائبه الأول بعد فترة وجيزة من منصبه الذي تقلّده ب "نص الاتفاقية"، وقام بتعيين تعبان دينق قاي مكانه، والذي يُعرف بكونه ويُعتبر أبرز القادة السياسيين والعسكريين وكبير المفاوضين في صفوف المعارضة المسلحة التي يقودها مشار.
كان من ضمن نتائج ذلك كله هو أن أخذت تبرز في الأيام الفائتة عدّة تحرُّكات ومناورات أمريكية رسمية وغير رسمية من غير تلك المعهودة أو المألوفة لها حول الأوضاع في جنوب السودان بصفةٍ عامة، وحول حكومته ورئيسها بصفةٍ خاصة، وذلك منذ الفترة الانتقالية السابقة لتأسيسه ككيان سياسي مستقلّ (دولة) وطوال الخمس سنوات التالية لاستقلاله، وحتى الأشهر الماضية، وهو الأمر الذي يستطيع ملاحظته، بكل سهولةٍ ووضوح، أي مراقبٍ للأوضاع السياسية هناك.
(2)
يأتي في مُقدّمة المواقف الأمريكية الجديدة تجاه جنوب السودان وحكومته ما صرّح به دونالد بوث المبعوث الأمريكي للسودان وجنوب السودان أمام اللجنة الفرعية لأفريقيا المنبثقة عن لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب في الكونغرس،حيث قال أن:"بلاده تعتقد أنه ينبغي ألا يعود مشار إلى منصبه السابق في الحكومة، في ضوء استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد".كما وكان أن جاء تصريح بوث هذا متزامناً مع محتوى تقرير يُوصف ب "السري" جرى تسريبه، ويُزعم بأنه صادر عن لجنة خبراء الأمم المتحدة، يكشف عن ضلوع سلفا كير رئيس جنوب السودان في الاشتباكات أو المعارك التي وقعت في يوليو الماضي بالعاصمة جوبا بين القوات الحكومية التابعة له وقوات تابعة لنائبه الأول مشار قبلأن يعزله، حيث أفصح التقرير "المزعوم" مُبيّناً أن الأحداث اندلعت بتوجيه من القيادة العليا للجيش الشعبي (الجيش الحكومي) بموافقة الرئيس. وبداهةً ما كان يُمكن لهذا التقرير أن يصدر، ناهيك عن أن يجري تسريبه، حال لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية راضية عن محتواه سيما مع المعروف عن حجم نفوذه او هيمنتها داخل كل أجهزة المنظمة الأُمميّة. لكن قد يكون أهم، وربما أخطر، ما أورده التقرير هو ذكره:"إن الممارسات غير المسبوقة التي صاحبت هذه المعارك من أعمال نهب وجرائم واغتصاب جماعي لعاملات في منظمات دولية لم يرتكبها متمردون فقط"، وذلك في إشارة واضحة منه إلى الدور الذي لعبته أو قامت به كذلك قوات الحكومة التي تخضع لإمرة الرئيس سلفا كير في ذلك.
بعدها صدر تقرير عن منظمة أو مجموعة "ذي سنتري"الأمريكية غير الحكومية، والتي يُعتبر الممثل الأمريكي جورج كلوني من مؤسسيها وأحد أهم الفاعلين الذين يتربعون على قمة إدارتها ويُوجهون ويُديرون أنشطتها، بجانب مديرها جون برندرغاست، وهو التقرير الذي يحمل اسم "جرائم الحرب يجب ألاّ تكون مُجزية مالياً"، والذي يدور موضوعه الأساسي حول الفساد في جنوب السودان. جاء التقرير مُفصحاً، دون تحفُّظ ،بأن "زعماء طرفي الحرب الأهلية في جنوب السودان وعائلاتهم تربحوا من الصراع، وجنوا ثروات من خلال صلات مع أصحاب بنوك وتجار سلاح وشركات نفطية". كما وأشار التقرير صراحةً في هذا الاتجاه إلى أن"كلا من سلفا كير رئيس جنوب السودان ونائبه السابق ريك مشار والجنرالات العسكريين سرقوا المال العام واشتروا منازل وسيارات فاخرة وجنوا ثروات لأنفسهم ولأفراد عائلاتهم من خلال حصص في مشروعات نفطية وأخرى تجارية". وكما هو مُتوقّع، فقد سارع المتحدّثين باسم سلفا كير ومشار إلى نفي هذه المزاعممن أن يكون لهما ممتلكات في كينيا أو فيأي دولة أفريقية أخرى،وحسبما ورد في التقرير. بل وأكثر من ذلك، فقد تعرّض التقرير لهجوم عنيف من قِبل أتينج ويك أتينج الناطق باسم الرئاسة في جنوب السودان أو/ و السكرتير الصحفي للرئيس سلفا كير في المؤتمر الصحفي الذي عقده، إذ قال:"هذا التقرير هو حماقة مطلقة"، وأضاف بأن"التقرير خادع وله دوافع سياسية لتشويه صورة الرئيس سلفاكيرو(صورة) الجنرال (بول) مالونغ (رئيس أركان الجيش الحكومي) والجنرالات الذين يناضلون من أجل خير جنوب السودان"، بل وأنه ذهب لأبد من ذلك باتهامهلمُعِدّي التقرير ب "السعي لتغيير النظام". وأعلن أتينج للصحفيين كذلك عن عزمحكومة جنوب السودان مقاضاة منظمة "كفاية" أو "ذي سنتري"، حيثقال: "إن الحكومة ستقيم دعوى قضائية ضد "كفاية" بتهمة الإساءة لسمعة رئيس البلاد"،وأضاف قائلاً:"سنقوم بتكليف محامٍ لأخذ جورج كلوني وجون برندرغاست إلى المحكمة"، ولكن دون أن يُحدّد متى ستقوم حكومة بلاده بهذه الخطوة القضائية.
لكن لعلّ يكون أهم ما ورد ذكره في التقرير هو ما ورد على لسان جورج كلوني أثناء المؤتمر الصحفي المخصص لعرضه من قوله: "تورط زعماء جنوب السودان خلال السنوات الخمس الماضية في ارتكاب ... فظائع هائلة ضد مواطنيهم وتجويع واغتصاب بينما ينهبون موارد الدولة ويحققون ثراء لأنفسهم ولعائلاتهم"، وأكمل كلوني حديثه قائلاً: "الحقيقة البسيطة هي أنهم يسرقون الأموال لتمويل أفراد ميليشياتهم الذين يهاجمون ويقتلون بعضهم البعض".
لكن، فإن الأهم من ذلك كله هو أن كلوني وبرندرغاست قد قاما،في اليوم التالي من عقدهما لمؤتمرهما الصحفي،بمقابلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في البيت الأبيض،وأعربا له عن قلقهما حيال ما تضمّنه تقرير منظمتهما حول جنوب السودان. وقد كان موقف حكومة الولايات المتحدة واضحاً في تأييده لما أورده التقرير، إذ قامت وزارة الخارجية الأمريكية في اليوم الثاني من اللقاء بتوجيه الاتهام صراحةً للمسئولين في جنوب السودان ب "نهب خزائن الدولة"، وحذرت من أن حكومة دولتها ستتخذ إجراءات، والذي كان قد ورد في ثنايا التصريح الذي أطلقه المتحدث باسم الوزارة مارك تونر في هذا الشأن، والذي قال فيه:"إن وزارة الخارجية تدرس إجراءات يُمكن أن تتخذها لكف مسؤولين في جنوب السودان عن الفساد"، وتابع تونر مُضيفاً:"نحن نعمل بشكل وثيق مع مجموعة ذي سنتري لضمان استخدام المعلومات التي جمعتها للغاية المنشودة لذلك". ولكن يبقى أهم ما ذكره تونر هو قوله: "لقد خاب أملنا جدًا بأن زعماءهم فشلوا في أن يضعوا صراعاتهم الشخصية وسعيهم لكسب الثروات جانبًا من أجل خير شعبهم".
يُرافق ذلك، أنه وفي غضون نفس يوم عقد كلوني وفي معيته دون تشيدل لمؤتمرهما الصحفي المختص بنشر تقرير منظمتها، أن هددت الحكومة الأمريكية بالسعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يفرض حظراً دولياً على تصدير الأسلحة إلى جنوب السودان إذا لم توافق حكومته على انتشار قوة حماية إقليمية على أراضيه واستمرت في تقييد أنشطة الأمم المتحدة هناك، حيث صرّحت سفيرة دولة الولايات المتحدة الأمريكية لدى منظمة الأمم المتحدة سامنتا بور في مؤتمر صحفي حول ذلك بقولها: "يجب على الرئيس سلفا كير أن يفي سريعاً بوعده السماح بأن تنتشر في جوبا هذه القوة الجديدة وقوامها أربعة ألفجندي". كما واضافت للصحافيين قبيل مشاركتها في جلسة مشاورات لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول جنوب السودان:"إذا لم تسمح الحكومة لقوة الحماية الاقليمية بالانتشار أو لم تسمح للأمم المتحدة بالتحرُّك كما ترغب لحماية المدنيين، فإن الولايات المتحدة ستدعم حتماً فرض حظر على الأسلحة" (وهو الحظر الذي تعتقد بريطانيا وفرنسا في ضرورة فرضه)، وتابعت:"نحن نعرف أن الوعود التي قُطِعت لا يمكن الوفاء بها بين عشيّة وضحاها ولكن لا يُمكننا أن ننتظر أياماً وأياما".
الجدير بالذكر هنا هو أن تصريحات بور هذه أتت في إطار القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي خلال الفترة القصيرة الماضية، والقاضي بنشر قوات إقليمية في جنوب السودان لتعمل سوياً بجانب قوات بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان UNMISS القابعة هناك أصلاً منذ العام 2011، والبالغ عددها اثنا عشر ألف جندي، ولتتحول مهمتها لقوات حفظ سلام، ولها أن تتحرك بحرية في إرجاء البلاد في سبيل تنفيذها لمهمتها الجديدة في حماية المدنيين دون عراقيل، وكما التزمت حكومة جوبا سابقاً بذلك لمجلس الأمن.
وفي خطوةٍ مُتقدّمةٍ في هذا الاتجاه، وفي سبيل ممارسة المزيد من الضغوط على حكومة سلفا كير للرضوخ لقرار نشر القوات الإقليمية وعدم وضع العراقيل أمام أنشطة المنظمة الدولية وقواتها الموجودة هناك، أصدر مجلس الأمن بعدها بيومين من ذلك تقريباً بياناً يدعو أعضاؤه فيه حكومة جنوب السودان إلى الالتزام بالتعهدات التي قدّمتها وأن تترجمها إلى خطواتٍ ملموسة"على الفور". كما أعرب المجلس في بيانه عن "قلقه" إزاء عدد من التصريحات التي أدلى بها أعضاء بعينهم في الحكومة، والتي يرى أنها تتناقض على ما يبدو مع الالتزام أمام المجلس بالموافقة على نشر قوة حماية إقليمية، وهو الذي عبّر عنه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام إيرفيه لادسو في مؤتمر صحفي بقوله:"إن حكومة جنوب السودان لم تتخذ أي خطوات لتنفيذ تعهدها بالتعاون في نشر المزيد من الجنود التابعين للمنظمة الدولية في مسعى لتفادي احتمال فرض حظر على الأسلحة". كما وأضاف لادسو قائلاً:"لم يتم اتخاذ أي إجراء بشأن الاتفاق على الإطلاق".
يتماشى ما ورد ذكره في بيان مجلس الأمن وما قاله لادسو ويتّسقان مع ما أبدته، من بعد، رئيسة لجنة لحقوق الإنسان تابعة للأمم المتحدة في جنوب السودان ياسمين سوكا من مخاوف بشأن القيود على بعثة الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة والتي تمنعهم من الوصول إلى المحتاجين للمساعدة. كذلك أعربت سوكا عن قلقها إزاء ما تراه من ترويع يطال نشطاء المجتمع المدني والتضييق على الصحفيين والعنف الجنسي وغيرها من الانتهاكات الحقوقية في جنوب السودان.
(3)
يتّضح جليّاً، من خلال كل هذه المواقف والتصريحات، أن الولايات المتحدة الأمريكية قدأخذت تُعيد ترتيب أوراقها في جنوب السودان، ويبدو ظاهراً أنها قد أضحت زاهدة في استمرار سلفا كير ورياك مشار على رأس السلطة في البلاد، ويبدو أنها كذلك قد أخذت تعدّ العدّة لإزاحتهما منها، وذلك في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على الإعداد لإحلال قيادة جديدة للبلاد مكانهما، وهي يبدو الآن أنها في مرحلة جمع كروت الضغط على الرَجُلين في حالة محاولة مقاومة أيٍّ منهما لمسألة إبعاده، وهي جدّ كروت يصعب صمودهما حيالها إن لوّحت لأيٍّ منهما بها الولايات المتحدة، والتي يأتي في مقدّمتها مواجهتهما معاً لِتُهمٍ تتعلّق ب "جرائم الحرب" و"انتهاكات حقوق الانسان" بصورة سافرة وخطيرة وأُخرى تتصل ب "الفساد المالي"، وسيواجه سلفا كير وعدد من رجاله المُقرّبين بالإضافة لذلك تُهم ترتبط ب "التطهير العرقي" و"الإبادة الجماعية" و"عدم التعاون مع أجهزة المنظمة الأممية" وفي مُقدّمتها مجلس الأمن وعدم الانصياع لقراراته، وهي التُهم التي إن وجد أيّ قائد سياسي نفسه في مواجهتها، فإنه من المؤكّد يكون في موقفٍ ووضعٍ لا يُحسد عليهما، وهو حال إن كان "عاقلاً"، فإنه يكون على أتمّ استعداد لفعل أي شيء وتقديم أي تنازلات مُقابل أن لا يجد نفسه يقف أمام هكذا موقف أو وضعية.
ويبدو في هذا الصدد أن الولايات المتحدة قد حزمت أمرها مبكراً في إقصاء مشار عن السلطة بعد الخدمة الكبيرة التي قدّمها لها سلفا كير في ذلك بإقالته له من منصبه، وهذا بجانب عدد من العوامل الأُخرى التي يأتي في مقدّمتها ليس عدم تأثّر أو اضطراب الأوضاع الأمنية في البلاد بعد عزله وحسب، بل وكذلك ما تشهده نوعاً ما من الهدوء في الأحوال الأمنية منذ تولى تعبان دينق لمنصب النائب الأول للرئيس وحتى اللحظة على الأقل، وهو الذي كان من ضمن ما شجّع الحكومة الأمريكية على التعبير صراحةً عن عدم ترحيبها بعودة مشار لمنصبه مُجدداً، وذلك رغم أحقيته به بنص الاتفاقية التي وقعها مع سلفاكير، ويجد فوق ذلك الاعتراف الإقليمي والدولي بشرعيته.
عامل آخر ساعد الولايات المتحدة على اتخاذ القرار بعدم عودة مشار هو أن الأمريكان لما كانوا "براغماتيين" أو "عمليين"، فإنهم أدركوا أن القوة العسكرية التي يمتلكها تعبان دينق، وكذلك نفوذه الذي يتمتع بهأواسط أفراد قبيلة النوير، هما أكبر بكثيرٍ ممّا يملكهما مشار، والذي ظهر بوضوح بعدما غادر تعبان صفوف الحكومة مُغاضباً بعد عدم مقدرته على تحمُّل ما كانت تقوم به قواتها تجاه بني جلدته من قبيلة النوير خلال الأيام الأولى من اندلاع القتال في ديسمبر 2013، وذلك في الوقت الذي لم يكن بيده شيء ليفعله لإيقاف ذلك، مما اضطره نتيجة لذلك للانضمام لصفوف المعارضة بقيادة مشار، ورغم ما هو معروف عن الخلافات السياسية الكبيرةبين الرجلين.
قبل انضمام تعبان دينق لصفوف المعارضة كان ميزان الحرب يُرجّح لصالح قوات سلفا كير، حيث كانت تمتلك زمام المبادرةوكثيراً ما كانت تلحق الهزائم بالقوات المُساندة لمشار في المعارك سيما أنه كانت تُقاتل إلى جانبها قوات يوغندية وقوات تابعة لعدد من حركات المعارضة المسلحة السودانية. لكن بعد تولّي تعبان للقيادة الميدانية لقوات المعارضة، وأهمهما القوات التابعة له شخصياً، استطاع وبخبرته وحنكته العسكرية من استعادة التوازن لميزان الحرب في زمنٍ وجيز، إذ تمكّن منتحويل الحرب لتكون سجال بين الطرفين، وذلك على الرغم من مقاتلته لتحالف يضم ثلاث قوات كبيرة، وقد استطاع الحفاظ على هذا الوضع العسكري أو الميداني متعادلاً حتى لحظات توقيع اتفاق سلام بين الطرفين المُتقاتلين في أغسطس 2015، والذي مثّل فيه هو نفسه كبير مفاوضيّ وفد المعارضة، وذلك بالإضافة لقيادته، من بعد، لوفد مُقدّمة المعارضة لجوبا في إبريل 2016 في إطار الترتيبات لتنفيذ الاتفاق.
بجانب ذلك، ولما كان معروفاً عن تعبان دينق، بجانب حنكته وشراسته العسكرية، بكونه سياسيٌّ مُخضرم ورجل دولة حقيقي، حيث يتّصف بقدرٍ كبيرٍ من الحكمة والمرونة، وذلك بالإضافة لمصداقيته في مُعظم مواقفه السياسية التي يتمتع والمشهود له بها ، وأنه فوق ذلك"مهضوم" لدى سلفا كير ومُرحّبٌ به لديه، وذلك للدرجة التي يُمكن معها القول إنه إذا كان لسلفا كير أبناء، مثلما يُقال عن قرنق، فإن تعبان يُمكن اعتباره من أكبر أبناء سلفا كير، وهو الأمر الذي ربما يكون قادراً على أن يُفسّر السبب الذي يقف وراء ذلك التناغم في الأداء بين الرجلين منذ تولّي تعبان لمنصب النائب الأول للرئيس، وأن يجد من سلفا كير كل التقدير، وذلك علىالعكس ممّا كان يحظى به مشار من كونه ليس غير مرحب به فقط عند سلفا كير، بل والذي"لا يستذيقه" أصلاً،وكما تعكس ذلك الكثير من المواقف، ولعلّ يكون طموح مشار الجامح لتولى القيادة مكان سلفا كير هو أهم الأسباب التي تقف وراء ذلك.
هكذا كان أن حزمت الولايات المتحدة الأمريكية أمرها بإبعاد مشار والإبقاء على تعبان دينق، حيث أنه هو المُقاتل والمُفاوض الحقيقي، وصاحب النفوذ الأكبر أوساط قبيلة النوير، وليس مشار. كما وأنه يتمتّع بصفات رجل دولة وسياسة ومسئول حكومي من الوزن الثقيل، وفوق ذلك أنه مقبول لدى سلفا كير وله الاستعداد النفسي، قبل السياسي، للتعامل والتعاون معه سيما مع ما يُوجد بين الرجلين من تفاهماتٍ كبيرة، وفوق ذلك جميعه أن تعبان قادرٌ، وربما مُستعدٌ، للوقوف في وجه مشار سياسياً وعسكرياً إن استدعى الأمر خاصةً وأن العلاقات بين الرجلين هي في حقيقتها غير جيدة ومنذ أمدّ، بل وأنها تبلغ مرحلة التأزم، وذلك منذ أن كانت قدأصرّت السيدة أنجلينا تينج زوجة مشار، ومن خلفها زوجها بالطبع، على منازلة تعبان ومنافسته ك "مُرشّحٍ مُستقِّل" على منصب حاكم الولاية في الانتخابات العامة التي جرت في العام 2010 رغم أنهما من حزب واحد هو الحركة الشعبية لتحرير السودان، والذي كان قد اختار وقتها تعبان ليخوض انتخابات منصب الحاكم باسمه في ولاية الوحدة، بل وساءت العلاقة بين الرجلين أكثر،وبشكلٍ حادٍّ وعميق، في الآونة الأخيرة، وذلك منذ أن عبّر تعبان ضمناً عن إحساسه بالإحباط من زعيمه مشار بعد توزيع المعارضة لنصيبها من المناصب الدستوريةالذي أقرّته لها الاتفاقية، حيث لم يرضي المنصب الذي ناله طموحه وأنه أدنى بكثيرٍ ممّا قدّمه للمعارضة، وهو ما جعل العلاقة بين الرجلين أن تصبح قمّة في التوتر فوقاً على سوئها، وذلك حتى يوم عزل مشار من منصبه من قِبل سلفا كير، والذي يُعتقد بأنه كان ذكياً بما يكفي في اختياره لتعبان لتقلّد المنصب في ظل كل هذه المُعطيات، وكما أنه عمل بذلك على تقديم خدمة كبيرة الأمريكان، وهو الأمر الأهم.
(4)
الواضح من جانبٍ آخر، وبما لا يدعو مجالاً للشكّ، أن مشار وجناح المعارضة الذي تبقّى معه قد أحسوا، إن لم يكن قد تيقّنوا، من أن الموقف الأمريكي يسير حقيقةً في اتجاه الإبقاء على مسألة إبعاد رياك مشار والحيلولة دون عودته مرة أخرى لظهر السلطة،وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد شرعت عمليّاً في القيام بعملية إبعاد الرجل، ونتيجة لذلك فقد أخذوا يتحرّكون ويطلقون التصريحات من تلك التي تُندّد بالموقف الأمريكي وتُهدّد بالعودة للقتال مرّة أُخرى، فها هو ذاجيمس قديت داك المتحدث باسم رياك مشارباعتباره زعيم لأحد أجنحة المعارضة المسلحة يُصرح للإعلام في إطار تعقيبه على حديث دونالد بوث بقوله: "إن عدم عودة رياك مشار إلي منصبه كنائب أول لرئيس الجمهورية في العاصمة جوبا سيعيق تنفيذ اتفاقية السلام". كما وأطلق ويريالفو كبالونق القيادي بصفوف المعارضة،في هذا السياق أيضاً، تصريحاً أكثر ناريةً من تصريح سابقه، حيث قال حسب قناة "تمازج" الإذاعية: "إن تصريحات المسئول الأمريكي غير منطقية"، وأضاف كذلك قائلاً: "إن إبعاد مشار من تنفيذ الاتفاقية يعني استمرار الحرب في جنوب السودان"، بل وأنه ذهب لأبعد من ذلك من خلال اعتقاده بأنه لكن تكون هناك دولة في جنوب السودان حال تم إبعاد مشار من السلطة، والذي عبّر عنه بقوله: "يجب أن تقال الحقيقة، إذا تم إبعاد مشار من السلطة في جنوب السودان يعني ذلك أن هنالك عدم وجود لدولة في جنوب السودان"!! كذلك ما أدلى به مناوا بيترقاتكوث أحد المتحدّثين باسم جناح المعارضة الذي يقوده مشار من ذلك التصريح، والذي أشار فيه "ضمناً" إلى فهمهم لما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من عمليةٍ تهدف بها لإبعاد مشار، وذلك خلال حديثهعمّا سيناقشه اجتماع المعارضة الذي يجري الترتيب لعقده، حيث قال: "أنهم سيبحثون أيضاً مواقف بعض (الأطراف الدولية) الساعية لإعطاء شرعية زائفة للنائب الأول الجديد تعبان دينق". إذ إن الواضح أن هذه الأطراف الدولية التي ذكرها مناوا لا يعني بها غير الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي جانب التحرُّكات التي اعتزم جناح المعارضة الذي يقوده مشار القيام بها، فقد عزم مكتبه القيادي علىعقد اجتماع لها في الأيام المُقبلة، وهو الاجتماع الذي يظهر أن السبب الأساسي الذي يقف وراء عقده هو الخروج بقرارٍ يقضي بعزل تعبان دينق من صفوف المعارضة، وذلك حتى لا تكون له صفة تنظيمية لتمثيل المعارضة في منصب النائب الأول الذي يشغله مكان مشار، وحتى يقدح ذلك بصورةٍ أكبرٍ في عدم شرعيته في تقلّد المنصب، ويظهر هذا في ثنايا التصريح الذي أطلقه مناوا في ذات المناسبة، والذي قال فيه: "أن الحركة الشعبية (في المعارضة) تسعى للقاء مجموعة الترويكا، وذلك لشرح موقفها من الاشتباكات التي اندلعت في العاصمة جوبا في يوليو الماضي، و(خطورة الخطوات التي اتخذتها الحكومة بتعيين تعبان دينق قاي) بديلاً لمشار".
(5)
هكذا يظهر أن جناح المعارضة الذي يقوده مشار قد قرر التحرُّك للقيام بعددٍ من الخطوات أو المناورات السياسية المُتمثّلة في الدخول في "مواجهة" سياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية حول موقفها السياسي "الصريح" من مشار، والذي تعتبر فيه أن دور الرجل قد انتهى، والتحرّك دوليّاً خاصة صوب دول الترويكا لحثّها على التحرّك لإعادة مشار لمنصبه، بدلاً عن وقوفها طويلاً موقف المُتفرّج، وذلك مع التلميح لها بإمكانية اندلاع القتال والعودة للحرب مُجدداً إن لم تفعل شيء من أجل عودته لمنصبه نائباً أول لرئيس جنوب السودان بنص الاتفاقية التي قامت بهندستها دول الترويكا نفسها. كما قررت المعارضة جناح مشار عقد اجتماع لها، والواضح أن الغرض الأساسي منه هو إصدار قرارٍ يقضي بعزل تعبان دينق من صفوفها وتجريده من صفته التنظيمية، وذلك بجانب التأكيد على زعامة مشار لها، بيْد أن ذلك كله لن يأتي لها، في الغالب، بالنتيجة المرجوة التي تبتغيها بعودته لمنصبه. في ذلك، وأولاً ذي بدء، فإنه ليس من الحكمة في شيء أن تسعى المعارضة جناح مشار للدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فلن يخسر سواها أحد، فالوعول التي تُناطح الصخر لا تُوهي إلا قرنيها،وكما يقول المثل. أما سعيها للتحرّك صوب دول الترويكا لتفعل شيء يصُبُّ في اتجاه عودة مشار لمنصبه، فالمعروف أن أهم هذه الدول وأكبرها نفوذاً أو تأثيراً هي ذات الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت إبعاد مشار، لذا تكون الاستعانة بمجموعة هذه الدول أمر غير مُجدي، إذ ليس بيدها شيء لتفعله سوى ما تريده الولايات المتحدة أو كان مكان قبول عندها أو موافقة على الأقل، والذي يتمثّل لها، وفق الأوضاع الراهنة، في ضرورة عدم عودة مشارمرةً أخرى لمنصبه الذي أُقيل منه والقبول في نفس الوقت بتعبان دينق خلفاً له، واعتباره من ضمن القيادات التي ينبغي أن تقود جنوب السودان في مُقبل السنوات.
كذلك إن عملت المعارضة جناح مشار يوماً على تنفيذ تهديداتها بالعودة للحرب مرة أخرى ما لم يتحقق مبتغاها، فستكون هي الخاسر الأكبر، وربما الأوحد، في الحرب هذه المرة، فهي ستخوضها بجناحٍ واحد، بل وأن الجناح الآخر والذي يقوده تعبان، والذي كان قد حقق لها صمودها في السابق سيكون هذه المرّة، بالضرورة، يُقاتل في معيّة القوات التابعة لسلفا كير، والتي من المؤكد ستساندها القوات اليوغندية وقوات المعارضة المسلحة السودانية، وذلك بجانب وجود ستة عشر ألف جندي أممي على الأرض هذه المرّة،وجاهزون لردع كل من يتعرّض للمناطق التي يتواجدون بها بغية حماية المدنيين و"العاصمة جوبا"، التي تُعتبر حمايتها هي مهمتها الرئيسية وهدفها الأساسي غير المُعلن عنهما.
عموماً، إن كان للمعارضة جناح مشار ما يُمكن أن تفعله في ظل هذه الأوضاع، فهو أن يقتنع مشار أولاً بأن دوره قد انتهى وأن يقبل بذلك بعد أن يتحصّل على الضمانات الدولية اللازمة من أن لن تتعرّض أيّ جهةٍ قانونيةٍ ما يوماًله ولقادة المعارضة، وخاصةً العسكريين، بتقديمها أي نوعٍ من الاتهامات لأيٍّ منهم من تلك المرتبطة ب "انتهاكات حقوق الانسان" و"جرائم الحرب" و"الفساد المالي" المرتبط بالثراء على حساب الشعب وبلده، وهي الضمانات التي يُمكنه أن يتحصل عليها بكل سهولة ويسر في هذه الأيام إن وافق على التنحيّ. من ثمّ ينبغي ثانياً أن يندغم فصيله المعارض بشقّيه السياسي والعسكري مع فصيل تعبان دينق مُتّحدين من جديد، وهو أمر يُمكن أن تحققه بكل سلاسة حال أن قبلوا بتعبان قائداً جديداً للمعارضة، وهو الذي في مجمله يُمكن أن يُمثّل مخرجاً لفصيل المعارضة الموالي لمشار من "الورطة" الحالية التي هو واقعٌ فيها، وليس من دون خسائر فحسب، بل وخروجه بمكاسب سياسية مقبولة مقارنة مع الوضع الذي لا يُحسد عليه الذي هو فيه الآن.
أكثر من ذلك،فإنه قد يكون من باب الحكمة أن تتخلّى قيادات المعارضة التي يقودها مشار عنه حال إصراره وعدم اقتناعه بأن دوره قد انتهى وألاّ مجال لعودته لمنصبه، ويتركوه وحيداً يُواجه مصيره الذي سينتظره من المطاردات الدولية بقية عمره باعتباره مطلوب للمثول أمام العدالة الدولية في العديد من قضايا الجرائم ضد الإنسانية والفساد التي سيكون أحد المُتّهمين الأساسيين بالضلوع فيها. هذا إن هم كانوا حقيقةً حريصين على مصلحة بلدهم في المقام الأول ويريدون رؤيته يوماً يسير إلى الأمام بخُطىً ثابتة، وكانوا حريصين كذلك على المصلحة الحقيقة لشعبه وعلى مصلحتهم هم ذات نفسهم من بعد سيما تلك القيادات الشابة منهم التي ما يزال بيدها الكثير الذي يُمكنها تقديمه والقيام به مستقبلاً لمصلحة وطنها وشعبه والأجيال القادمة.
وبالمقابل، إن أصرت قيادات المعارضة على موالاة مشار والمُضيّ قُدماً في موقفها الحالي المُتمثّل في الإصرار على عودته لمنصبه أو الرجوع للحرب والقتال من جديد، فأولاً يصعب أن يتحقق لهم مبتغاهم هذا بعد أن حسم الأمريكان الأمر صراحةً بألاّ مجال لعودة الرجل مُجدداً، كما وسيجد العديدون منهم أنهم أصبحوا في أنفسهم، وبلا شكّ، مطلوبون معه ومطاردون للمثول أمام عدد من منصّات العدالة الدولية بذات تلك الاتهامات التي ستطاله، وهذا ثانياً.
(6)
هذا هو ما بشأن الولايات المتحدة الأمريكية وموقفها في إبعاد مشار عن السلطة في جنوب السودان وقبولها بأن يحلّ تعبان دينق بديلاً في مكانه، وذلك في إطار إعادة ترتيبها لأوراقها هناك. أما فيما يتعلّق بتحوّل الولايات المتحدة من شعار "سلفا كير للتغيير" إلى شعار "تغيير سلفا كير" والبديل المُحتمل الذي تضعه له، فهو الموضوع الذي يتناوله الجزء الثاني من هذا المقال التحليلي.
الجريدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.