قبل بضعة أشهر أفردنا هذه المساحة لتلك الطبيبة الجسورة التي كانت قد قدمت مرافعة قوية في حشد من زملائها عن حقوق الأطباء.. كذلك تحدثنا أكثر من مرة عن تقاعس الدولة عن القيام بواجبها تجاه القطاع الصحي عموما وكيف أن الأطباء هم من يدفعون ثمن هذا التقاعس.. لأنهم هم من يقابل المرضى أول ضحايا ذلك التقاعس.. ثم تناولنا في مناسبات مختلفة معاناة الأطباء بمختلف مستوياتهم وتخصصاتهم من كثير من الإجراءات الإدارية التي كنّا نرى فيها ما ينعكس سلبا على الأطباء.. مباشرة أو غير مباشرة.. وتعاطفنا مع المتعاطفين في كل الحالات التي كان فيها الأطباء عرضة للاعتداء سواء من نظاميين أو مواطنين مدنيين.. وقلنا وسنظل نؤكد أن العنف والاعتداء البدني أو حتى اللفظي لم يكن ولن يكون هو الطريقة المثلى لنيل الحقوق.. وأن الطبيب الذي يقوم بواجبه يجب أن يشعر بالطمأنينة والأمن وهو يقوم بدوره..! ولكن.. دعونا نقف اليوم عند نقطة أخرى.. وفي منطقة يقوم بدوره هذه.. ونعالج ظاهرة الاعتداء على الأطباء هذه من زاوية أخرى.. ولنسمها.. دور الطبيب في الاعتداء عليه.. ولعل من المهم التأكيد على أن التناول من هذه الزاوية.. ليس الهدف منه بأي حال من الأحوال النيل من الطبيب.. أو المساس بوضعه المهني والوظيفي.. وحتى الإنساني.. بل العكس هو الصحيح.. الدافع هو الوصول إلى وضع مثالي للطبيب السوداني.. يكون فيه محل احترام المواطن.. وقبل ذلك محل ثقته.. وفي حالة الطبيب فالثقة تتقدم على الاحترام.. فالمريض الذي لا يثق في الطبيب لن يحترمه قط..! ولعل الغريب في موضوع اليوم أننا نستند فيه على اجتهاد شخصي.. ولا حتى على تجارب خاصة.. بل ولا على ما تنشره الصحف.. مما يعده البعض.. بطلانا.. أنها حملة منظمة ضد الأطباء.. بل نستند فيه بشكل أساسي على إفادة اختصاصية نفسية.. فهي بالدرجة الأولى طبيبة.. أي يمسها ما يمس كل منسوبي الحقل الطبي.. ثم هي اختصاصية.. أي أن لها من سنين الخبرة ما يؤهلها لتقديم تقييم موضوعي أقرب للواقع من اجتهاد أي شخص آخر.. ثم الأهم من هذا وذاك أنها اختصاصية نفسية.. وقد ثبتت في إفادتها ابتداء أنها تحمل السلوك الشخصي للطبيب السوداني مسؤولية ما يتعرض له من أزمات..! لن نشتط إن قلنا إن لكل مواطن سوداني تجربة ما في مشفى ما مع طبيب ما.. تتفاوت حدة التجربة ووقعها وبالتالي رد الفعل المترتب عليها من مواطن إلى آخر.. لذلك ما يعنيني هنا القول بأنه لا بد من الأخذ في الاعتبار السلوك الشخصي للأطباء كجزء لا يتجزأ من أية ترتيبات هدفها تأمين الأطباء.. فعلى سبيل المثال لا يعقل أن يكون سلوك مجموعة من الأطباء اللامبالاة وعدم الاهتمام وعدم التفاعل مع حالة مريض.. ثم يكون في ذات الوقت مطلوبا من المواطن أن يكون حضاريا تجاه ذلك الموقف.. أو مطلوبا من الدولة توفير الحماية لطبيب لم يجتهد هو في حماية نفسه بالسلوك القويم..! خبيرتنا النفسية تحدثت عن شيء كهذا.. ثم تناولت جانبا آخر.. أشارت لأن الطبيب السوداني يتعامل مع المريض كمجرد حالة مرت أمامه سبقتها مئات الحالات وستعقبها مئات الحالات إيضا.. لا كإنسان يستحق الاهتمام.. وهذا الاهتمام يتمثل في مناقشة المريض عن تاريخه الصحي.. ثم إسداء بعض النصح إن استدعى الأمر.. بل ومناقشة المريض في حالته الراهنة.. تقول هذه الخبيرة إن العديد من المرضى يغادرون المشافي وحتى عيادات الأطباء وهم يحملون روشتات للعلاج من أمراض لا يعرفونها أصلا وإن عرفوها لم يحدثهم الطبيب عن كنهها وعن أسبابها وعن طرق الوقاية منها..! خبيرتنا التي تؤكد على ضرورة تدريب الأطباء على السلوك الشخصي الذي يعلي من قيمة المريض كإنسان لا كمجرد حالة، نفهم منها أنها تريد أن تقول إن المريض وذويه يجب أن يشعروا.. بل ويروا رأي العين.. أن هذا الطبيب الذي أمامهم قد تعاطف مع مريضهم.. ثم إنه قد بذل أقصى ما يستطيع من جهد في سبيل تقديم المساعدة المطلوبة لذلك الإنسان الذي كان بين يديه. اليوم التالي