عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رعوية النور حمد تدهش عبد الله علي إبراهيم
نشر في الراكوبة يوم 03 - 10 - 2016

في هذا المقال التوضيحي , والذي لم يخرج نهائيا عن خطة المقال السابق , فضح الكاتب نفسه بصورة أوضح من ذي قبل , لأن النقد والنقاد لمصطلحه ( الرعوية ) مهدوا له سبيل العمل وجهزوا له اتجاهاته فكان في موقف المدافع والمكرر لما سبق.
مازال الكاتب يقع في نفس أخطاء المقال الأول , فهو هنا كما كان في مقاله السابق يتجه لفظيا وليس تخطيطا ويتجه إلى السرد التاريخي وليس إلى الوصف , وصف مصطلحه وعمله وتأثيراته في المجتمع والسياسة والتاريخ .
مشكلة مصطلحه الأساسية أنه يقحمه في ما يحلو له , وهذا ما نبهه إليه من قرؤوا مقاله السابق , والمشكلة كذلك ليس في تطبيقات المصطلح بوجه عام , وإن كانت هناك إشكالية كبيرة نبهه إليها عبد الله علي إبراهيم في اتجاه المصطلح لتشخيص " أزمتنا بما يشبه نظرية ابن خلدون في التعاقب الدوري " , وإنما كذلك في لفظ رعوي الذي يستخدمه كدليل على التخلف والعنف أو كعبارة " استهجان " واستقباح لما يرفضه من سياسات حكومية ومواقف تاريخية كما يقول عبد الله علي إبراهيم مترددا في فهمه بين وصف مظاهر أو توظيف لعنات وسباب لما يعتبره انحرافا تاريخيا أو حضاريا ,فهو يستقي رعوي من الرعاة وهم بحسب الدراسات الكثيرة " طلال الأسد ( الكبابيش ) " كما أورد عنهم عبد الله من أكثر البشر مسالمة وإنتاجا واستصلاحا للأرض " الضحضح "وقبولا للنظام والقانون لو حُدثت بيئتهم وعملهم وأدواتهم كما سنورد لاحقا .
المصطلح مقحم في ما لا ضرورة له وليس تفسيريا تفسر به الظواهر على اختلاف فتراتها التاريخية وشخوصها مما يمكن من إضاءة الحلقات المفقودة وكشف المعلومات المختبئة وراء الدراسات والتسجيلات وهو المعادل لكلمة تخلف بما يشبه السباب أو " الاستهجان " كما لاحظ عبدالله وليست له القدرة في المساعدة على التحليل العقلي فلا يستطيع الكاتب بالتالي إلا أن يستبدله بسرد تاريخي لأحداث معروفة بحثت ودرست أسبابها تاريخيا وأنثربولوجيا كما يفعل النور حمد بجدارة يحسد عليها .
مازال الكاتب مصرا على إسباغ كلمة أو ( مصطلح ) رعوي على كثير من الظواهر والسلوكيات بل ويجعل مصطلحه يحل محل تعريفات مستقرة ذات تصورات ذهنية محددة , فتراه يعرف الرعوية مرة بأنها " المسلك المناهض أو المعاكس للحداثة وقيمها ولاحترام القوانين والنظام " وتحت هذا المعنى يمكن لك أن تدخل الكثير من الظواهر التي لا تختلف عنها ويمكن لك أن تصف ما بعد الحداثة بأنها أيضا ( رعوية ) ويمكن لك أن تصف الذين يثورون على القوانين الجائرة التي تعدل في مكان ووسط عنصر ما وتظلم في مكان آخر بأنهم أيضا رعويون وكل ثورة هي رعوية حتى الثورة الفرنسية التي جعلت روبسبير ( الرعوي ) يقود أنصاره ورفاقه إلى المقصلة وكذلك الثورة الروسية التي قادها فلاديمير لينين أيضا رعوية أطاحت بمجتمع مستقر آمن وتسببت في قتل القيصر نيقولا الثاني وأسرته وأزهقت الملايين من الأرواح البريئة في حروبا ( ولما انهار الاتحاد السوفيتي وجد الرعوية والقبلية في مكانها فكانت سببا في تمزيقه ) كما يقول الكاتب . أما منشأ هذا المسلك المناهض للحداثة فهو كما يقول " حالة البداوة , وبنية المجتمعات التي تشكلت حول نشاط رعوي . ويثور السؤال ما هي هذه المجتمعات التي لا يحددها النور حمد بأوصاف قاطعة مانعة ( وهي قطعا في السودان ) ؟ وما هي بنيتها الهيكلية الاجتماعية وبنية الوعي فيها وأوصاف سلوكها وكيف صارت بهذه الحالة العصية على التطور سببا لمناهضة الحداثة ؟ ولكنك لن تجد إجابة لأن الكاتب مشغول برؤيته الدورية المتعاقبة بين حداثة تركية وهبة رعوية مهدوية مثلا كما فعل ابن خلدون . ولأنه كما لاحظ عبد الله علي إبراهيم في مقاله " النور حمد : نطاح الحداثة والرعوية " يضع صراعه بين الرعوية والحداثة في " فضاءين منقطعين " ليس بينهما جامع أو رابط يجعلهما في جدل مستمر وفي تولد تاريخي أحدهما من الآخر . ولذلك عجز عن رؤية التداخل بينهما فلا تجد تفسيرا لما يدور في المراحل التاريخية المتناقضة بل لم يستطع تتبع أنواع وأشكال التداخلات بين الرعوي والحداثي في الفترة التاريخية الواحدة على إختلاف الأزمنة فالتجاور بين الرعوي والحديث كان من آخر التيمات التي تثير اهتمامه وتلفت انتباهه .
مرة أخري يعاجلنا الكاتب بقوله إن الرعوية هي " المسلك المعادي للتغيير , وللانسجام مع مؤسسة الدولة " . ونحن رأينا في تاريخ السودان كيف أن العمد كانوا على وفاق مع كل حكومة , وكانوا يعاونونها على استتباب الأمن وتحقيق السلام المجتمعي , وكانت القبائل على وفاق تام مع ضرورات الحكومات فكانت أحيانا تحارب في صفها كما حدث في الثورة المهدية وكما حدث في غزو كتشنر الذي تابعته فصائل من قبائل سودانية , ثم وكيف نعادي التغيير ونحن قد خرجنا من اقتصاد القطاع العام إلى القطاع الخاص ؟ ومن اقتصاد اشتراكي يقوم على الدعم بلا حدود إلى اقتصاد السوق الحر والاستثمارات والمبادرة الفردية ؟ الانتفاضات التي تحدث هنا وهناك بسبب السدود والأراضي هي انتفاضات طبيعية تقوم على مطالب نفعية أكثر من كونها هبات رعوية تريد أن تفتك بالحداثة بل في الحقيقة تريد الاستفادة القصوى منها بكل ما تيسر . ففي كل مجتمع يوجد قطاع مندفع مع الحداثة وقطاع آخر أبطأ وهذه كلها مكنيزمات اجتماعية لحماية النسيج الاجتماعي وتمميز الغث من السمين أثناء التطور والتقدم والتغيرات المتسارعة .
يعود الكاتب المضطرب في فهمه للرعوية ليقول لنا أنها هي " القبلية " ثم يقول لنا إن يوغسلافيا حينما تفككت عادت إليها فوجدتها في حالتها الخام دون أن يتجرأ ليقول إن الرعوية / القبلية كانت السبب في تفكيك يوغسلافيا أو الاتحاد السوفيتي فيما بعد فالرعوية عنده شيء ساكن خامد لا حول له ولا قوة لا يحرك ولا يؤثر ولا يصنع التبدلات الأممية الكبرى ومع ذلك يعتبره مصطلحا قابلا للتنوير و" تشخيص أزمتنا , ولكنه لا يعدم منطقا حينما يقول إنها السبب في عدم احترام القوانين والنظام كمظهر حداثي عصري . فالرعوية / القبلية ظهرت في يوغسلافيا ولم تكن بالطبع رعوية بتعريفاته السابقة الافتراضية المجانبة للبحث والأخذ من موضوعات ومادة محددتين ثم وهو يواصل اضطرابه فالرعوية هنا هي أيضا " العنصرية والعقيدة الدينية " التي تفرقت على أساسها يوغسلافيا وكذلك الاتحاد السوفيتي بعد انتهاء لوثته الشيوعية . ثم في منحن آخر نجد أن الاضطراب الذهني وصل مداه حينما يقول لنا الكاتب أن الرعوية هي" بنى تاريخية قديمة " دون أن يضع أصبعه في هياكل هذه البنى , وإنما فقط ليؤسس مسلكه في انتقاء الأحداث التاريخية التي يحاول أن يعزز بها فرضياته فإننا نفترض أيضا معه ونقول إن الفراعنه بناة الأهرامات الذين كانوا يضحون بالبشر من أجل فيضان النيل هم رعويون أيضا والإغريق بحروبهم في إسبارطا وأثينا وطروادة والجزر المجاورة لهم وهم بناة المعابد والمسارح هم أيضا رعويون وليس ذلك بحسبان حروبهم الإمبراطورية والمحلية ولكن تبعا لبناهم التاريخية القديمة والسياسية .
من ناحية أخرى يعتقد الكاتب وبجرأة لا تليق بالباحثين الأمينين وبتجشم لا يليق بالبحث المتأني المتشكك وهذا أيضا ما لاحظه عبد الله علي إبراهيم حينما قال " لم يستأن لتعريف الرعوية " يعتقد أنه وسع من مصطلحه وأدخل فيه بعضا من التجليات الحضرية والحديثة عندما يتحدث عن النازية والفاشية اللتين هما من أبعد التكوينات عن القبلية والرعوية وكانت هذه الهبات المنعزلة نتيجة لظروف عالمية أحدثت حربا كونية شاملة وهزيمة شنيعة لبعض الأطراف واقتطاع أراض شاسعة وفرض غرامات حربية استدعت دولا مثل فرنسا أن تفكك المصانع في بعض المقاطعات الألمانية نظير أموالها التي صرفتها في الحرب . ويندهش عبد الله علي إبراهيم ويفغر فمه كما في صورته في سودانايل عندما يقول النور حمد الذي لا يخاف في الله لومة لائم إن (( العلمانية )) ذاتها قد تكون (( رعوية )) ثم يخصص المعنى بحياء متردد بقصره على محاولة " إسقاط الإنقاذ " وهنا يكتشف عبد الله علي إبراهيم زئبقية مصطلح النور الذي يشبه سهم الرمي في لوحة غائمة الرسوم فيصيح قائلا : " الرعوية كما هي عند النور حمد حالة ( لبس تكسب ) اكثر منها مصطلحا منضبط سائغ " ولكن النور لا يرعوي لمثل هذه الآراء وقد نضجت انفعالاته ونجحت تعسفاته في ما مضى فيواصل معتقدا أن العنصرية التي كانت ملمحا نازيا هي أيضا ملمحا رعويا مع أن الرعاة حسب تعريفه ( للكاوبوي ) من أكثر الناس تقربا لبعضهم البعض على اختلاف عناصرهم وسحناتهم لهجراتهم الطويلة واحتياجهم في البقاء لبعضهم البعض ولتعرفهم في تلك الرحلات على التنوع الذي يفيدهم في معاشهم وتبادل بضائعهم وهم من أكثر الناس كرما فعندما يمر البقارة أو الأبالة ( مثل أولاد راشد ) في الغرب السوداني ببعض المناطق الزراعية فإنهم يمنحونهم الألبان مجانا خاصة في فصل الخريف وتصل رحلاتهم إلى تشاد وإلى منطقة أبكر وبيضة وارارا وخوربرنقا في حدود السودان وتشاد . وأحيانا تصل بهم الرحلات الطويلة إلى جنوب كردفان . فكيف يكون هذا ( الكاوبوي ) الكريم الشهم عنصريا وهو يتجول في أراضي مختلف القبائل بحرية تامة وبأمان تام وكيف يختلق النور حمد صفة رعوية من عنده ويملأها بكل غث وخبيث ومرفوض دون بحث مدقق حتى يلصقها بعنصرية النازية والفاشية ذات الأسباب التاريخية و الظرفية ؟
القضية كما نرى وكما رأى عبد الله علي إبراهيم ليس في عدم اتساق المصطلح أو تضاربه وإن كان هذا الأمر شنيعا ولا علميا وإنما في سذاجته التي تصل به إلى حد لبس تكسب السطحية المنافية للعلمية والقصد والنية . فالكاتب لا يفرق بين الرعوية كعلة والرعوية كمظهر ولا يفرق بينها كلفظ وكمصطلح , فيخلق مفهوما لا يتجاوز معناه لفظه حيث يأخذ كل معنى ممكن ويحركه في تفكيره وإسقاطاته التاريخية واستعمالاته في المراحل الممكنة في كل اتجاه فكلما وجد خرقا لنظام أو قانون أو دولة أو ثورة فهذا نذير رعوية . والمصطلح ليس مصطلحا تفسيريا أو منهاج دراسة أو نظرية قابلة للتطبيق وإنما هو إسقاط شيء بدائي غير واضح نبت في ذهن الكاتب من تراكمات تاريخية وشخصية بل ومحلية و قام بإسقاطه على كل شيء يعتقد أنه غير عقلاني وغير حديث و " استهجاني " .
ومن هذه المنطلق يرمي سهمه فيقول " العنصرية النازية ليست سوى حالة قبلية " وهنا يخرج عن معنى القبيلة كلفظ وكمصطلح , معنى القبيلة المتعارف عليه في المعنى العامي وفي المعنى التخصصي فتبدو عبارته كعبارة أدبية محملة بالتداعيات والإسقاطات , فالقبيلة لا تعرف الآن في ألمانيا , كما عرفت ولاحظها الكاتب في يوغسلافيا , ولا توجد صفات محددة للقبائل الألمانية إذا وجدت في عالم اليوم , فمن أين وصف العنصرية النازية بأنها قبلية , وأي قبيلة يقصد ؟ هل يقصد القبائل السودانية التي تسرح شمالا وجنوبا بابقارها وبهائمها ؟ العالم المدقق لابد أن يعرف ما يدور في ذهنه أولا وأن يقوم بتوضيحه ومعرفة معالمه وعوالمه قبل أن يستعمله وهذا ما يفرط فيه النور حمد وهو يحاول أن يمد مصطلحه إلى النازية والفاشية .
ثم نجد تعريفا جديدا قد لا يخرج عن التعريفات السابقة ولكنه يطبقه في مجال آخر , وهو السعودية ودول الخليج , التي تعيش قبائلها في الصحراء أو في السهول , ويقول إن الرعوية هي النظام القبلي الرعوي أو العقلية التي لا تحب التقيد بالنظم وتقوم على عقلية الوهابية ........... الرعوية . ومن ناحية أخرى نعرف جميعنا أن القبائل الصحراوية ( الرعوية ) هي التي حاربت مع آل سعود وأعادت سلطتهم على كل نجد ثم مدتها إلى الحجاز وأنها تخضع الآن للقوانين السعودية حتى آخر رمق وتؤيد التحديث في الطرق والمستشفيات والصناعة والبني التحتية والتنظيم القانوني وحفظ الأمن , وأن الذين يحكمون الدولة السعودية هم أبناء تجار أو رعاة ولا يوجد أمير واحد لا يمتلك مجموعة من الإبل والحيوانات وبرغم رعويته هذه يذهب ليصيف في جنوب فرنسا وهو يلبس (المايوه ) .
المشكلة الرئيسية التي يقع فيها النور حمد أنه يصر على كلمة صغيرة ليس لها أي مضمون ذهني أو تصوري أو نظري فيلصقها كما يحب ويشاء بأي حادثة تاريخية في مجرى التطور التاريخي العام مرت به ,فالنازيون استطاعوا بأحدث الطائرات في الحرب العالمية الثانية أن يقصفوا لندن فهل استطاع ذلك الإغريق الرعويون أو القبائل السودانية التي ترعى في السهول ؟ فكيف ينتقي النور حمد كلمة عنصرية بهذه الجرأة ليحدثنا عن رعوية النازيين ويقفل عن صناعة الطائرات في عهدهم وإنشاء مصنع سيارت الفولكس فاجن ومد خطوط السكك الحديدية والمصانع الجديدة التي مكنتهم من مكافحة العطالة ؟ فالرعوية لو دقق الكاتب قليلا في ما يستقيه من معلومات ليست جوهرا في ظاهرة النازية وذلك لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وتنازل غليوم الثاني عن الحكم وانتشار البطالة وانهيار العملة والعقوبات الناتجة عن الهزيمة ولذلك تشجع النازيون في بعث الروح الوطنية الاشتراكية التي قادتهم إلى الحروب وبعث الروح القومية لأمة مهزومة كانوا يحاولون بشتى السبل ومنها السبل العنصرية بأن يقولوا لها " أنتِ خير أمة أخرجت للناس " فلذلك العنصرية لم تكن إلا وسيلة نفسية للخروج من وطأة نتائج الحرب العالمية الأولى الكارثية على روح الشعب الألماني . فهي كانت افتعالا مرحليا قاد إلى حرب أخرى أكثر تدميرا . ولكن النور كما ألمعنا في البداية لا يرى أن الحالة التي يتأملها قد تكون حسب مصطلحه رعوية من جانب وحديثة أيضا من جانب آخر وذلك لفصله بين فضاءين مختلفين لا يعتقد بتداخلهما وتأثيرهما على بعضهما البعض . بل وكما سنورد لاحقا لا يرى أن تعاقب الدورات ليس منتظما .
مصطلح الرعوية يخلو من أي صورة ذهنية ويركز فقط على الدلالة اللفظية وهذا ما دعا النور حمد إلى ( تلصيقه ) بأي حدث تاريخي يخطر له , ولذلك رأى في حملة المرشح ترمب ظاهرة رعوية , فخطابه العنصري كما يقول " أيقظ العقل الرعوي في الحياة الأمريكية – أو الكاوبوي كما يقول , وهنا نتعرف على معنى جديد لا سابقة له في تعريفات الرعوية الكثيرة التي تكاد تبلغ الستة فالرعوية هنا هي " معاداة الأقليات والمهاجرين " مع أن هذه المعاداة قديمة قدم الجنس البشري وأن هناك أسبابا حديثة وسياسية أتت بها العولمة جعلت من قضية الهجرة أم القضايا العالمية بعد هجرة رأس المال والخبرات التي قادتها الشركات العابرة للقارات والجنسيات , فالنور حمد يرى الظاهرة ولا يتعمق أسبابها ولا يربطها بما حولها من مستجدات أو ضرورات فيطلق عليها على الفور رعوية مستفيدا من فراغ المصطلح المضموني , وبذلك سينهار التاريخ السياسي تحت سنابك الرعوية و ستجد بعض أو كل تصرفات جورج بوش الابن رعوية وبعض أو كل تصرفات وسلوكيات أوباما رعوية وهكذا جورج بوش الأب وبيل كلينتون صاحب مونيكا لوينسكي وجونسون وستصبح الرعوية موضة دون النظر في جذور الآراء والتفاصيل المختفية وراء ظواهر الأشياء , ولذلك ظن النور حمد برؤيته الإطلاقية ذات الفضاءات المنفصلة أن الرعوية تخرج من الحداثة في دورة منتظمة محددة كدورة القمر حول الأرض ولم يستطع وهي يجري وراء مصطلحه المجافي للمنطق التاريخي والمصطلحي أن الحداثة إنما تخرج من الحداثة ولو بأشكال مختلفة يرفضها بعضنا الآخر ويقبلها بعضنا الآخر .
ثم نأتي لتفصيلة أخرى اختلفت عن كل هفواته السابقة عندما أبلغنا بأن بنية العقل الرعوي - الذي يرفضه عبد الله علي إبراهيم تماما بوصفه حيلة البرجوازية الصغيرة لتتملص به من الخراب الذي أحدثته في الوطن برغم كثرة المنادين به من أمثال كمال الجزولي ومنصور خالد ومنى أبو زيد - تجعلنا نكره الحداثة وذلك حينما يقول النور حمد " السودان يكره الحداثة لأنه يقعد على بنية عقل رعوي فنرى الاستهزاء بالقانون والنظم والتمدن " أي لا نناهضها أو نعاكسها كما زعم في بداية مقاله , وهنا يفتح لنا باب علم النفس , وعلم الكراهية والضغينة , والعقل الباطن الطفولي الذي تحدث عنه فرويد , ولكن هل رأينا في السودان من يرفض المستشفيات الحديثة المجهزة بكل الأجهزة الضرورية لإنقاذ المرضى ؟ وهل رأينا من يرفض أن يسكن في بيت ذي طوابق مجهز بكل أدوات الراحة والإنسانية ؟ وهل رأينا من يرفض أن يرسل أولاده للمدارس المتخصصة ذات الطراز الحديث في التعليم والتأثيث ؟ وهل رأينا الناس تضرب عن الذهاب إلى المحاكم لحل قضاياها ؟ كيف نكره الحداثة ونحن نلهث خلفها ونلهج بذكرها ليل نهار ؟ ولكن ليعلمنا أولا بمعنى الحداثة التي يقصدها إن كانت تختلف عما سبق وأوردته , ليعلمنا بها كما أعلمنا عن معانى الرعوية المتعددة كالصورة داخل المرآة التي تنعكس عليها مرآة أخرى فترى الصور بلا نهاية . هل الحداثة هي كتب ميشل فوكو أو كتب فرانسوا ليوتار أو جيل دولوز .....؟
في رد النور حمد على عبد الله علي إبراهيم تحدث أولا عن عدم رغبته في السجال معه فحمدنا الله على نعمة العافية ولكنه تراجع سريعا إلى الوراء وعاد كأنما اجتاحته وسوسة ما ليتحدث عن عدم استساغة عبد الله علي إبراهيم لرعويته ولأفكاره حولها والتقط أول ملمح طبع حياة عبد الله السياسية فعلل ذلك لانغماس عبد الله في تربة التحليل الماركسي المعتمد على الديلاكتيك في الجدل وأن الوعي انعكاس للمادة وقال كلاما كثيرا استعراضيا أكثر منه متفقا مع طبيعة الحال والنقاش ثم التفت إليه مهددا عندما قال : " التحليل الماركسي لم يعد صالحا ( تماما ) فقد انقصم عظمه منذ وقت طويل " . وكل من قرأ رد عبد الله علي إبراهيم سيلاحظ انه كان أبعد ما يكون عن الماركسية وتحليلاتها لأن رعوية النور حمد كانت من البساطة المخلة والتعسف المختلق وعدم التعمق في الحياة الاجتماعية بحيث لا يحتاج الرد عليها أي نوع من المادية العلمية أو احتذاء مراكس أو إنجلز أو بليخانوف أو اللجوء إلى المذاهب الفلسفية من اجل الاستنارة بها استقواء عليه بل كان الرجل في إيهاب المفكر الحر الذي يلبس لكل حالة لبوسها والأنثربولوجي المدعم بالدراسات العلمية والملاحظات الأكاديمية والاقتباسات مذكورة المصدر والصفحة والسطر بل ربما كان هيغليا أكثر من كونه ماركسيا في حديثه عن الثنائية التي تجعل الحداثة تتعايش جنبا إلى جنب مع سلبياتها وتجعل الرعاة الأفظاظ يتعايشون في بيئة تقبل القانون والفوضى معا .
لم يحاول النور حمد وهو يحاول أن يفرض على المشهد السياسي السوداني والفكري أن يفسر برعويته البسيطة كيف ولماذا تتعدد السلوكيات القديمة بعد أزمان طويلة من نشوئها ولم يحاول بأدنى مجهود توظيف المصطلح ( إن كان مصطلحا بحق ) في المعرفة التاريخية ولا في أي تشريح بنيوي اجتماعي وسياسي و قبلي ولا في الحفر في الظواهر السياسية التي عطلت النمو الاجتماعي والسياسي في بلد كالسودان وإضاءة ظواهر التطرف والاستبداد .
لأول مرة أجد أحدا من المحسوبين على التفكير والعقل يستمد مفهوما من لفظة وحيدة ثم لا يستطيع برغم تأهيله العلمي أن يتجاوز مفهوم اللفظ القاموسي نفسه فيكون المعنى المصطلحي واللفظي شيئا واحدا فإذا فهمت اللفظ فهمت المصطلح والعكس صحيح , فالصلاة تعني الدعاء ولكن الصلاة المعروفة كمفهوم تحتوي على صورة ذهنية متكاملة من وضوء وحركات وقراءة ... إلخ تمكننا من جعلها مصطلحا وغالبا ما يعبر المفكرون عن مصطلحاتهم بلفظ أو أكثر ولكنك إذا أردت فهمها فلابد أن ترجع إلى قواميس المصطلحات الفنية أو العلمية ولا تكتفي بمدلولات الألفاظ الظاهرة والمعتادة , فمصطلح النشوء والارتقاء مثلا هو صورة ذهنية متكاملة لها نتائجها وتعريفها الواضح الذي يتجاوز الكلمتين ولها قدرتها التفسيرية التي توضح لنا ما نراه الآن بأعيننا بعد أن مرت عليه آلاف الأعوام بل يمكن لهذا المصطلح أن يطبق في علوم أخرى كعلم النفس وبقاء الأفكار .. .. ونستطيع أن نفسر به حدوث الشيء الآن أو في الماضي أو نعرف طريقة عمله أو كيفية سلوكه فهي ترينا كيف حدث التطور ولا تشرح لنا الظاهرة بطريقة فوقيه بعد أن حدثت كما يفعل النور حمد بمصطلح الرعوية الذي كان لفظه ومصطلحه متطابقان لا يختلفان في شيء بتاتا .
كيف تخرج البداوة و الرعوية من الحداثة ؟ التفسير في التاريخ الظرفي نفسه وليس في رعوية بلا معايير ولا مفهومات ولا قوة في الإضاءة والتنوير . بل كيف خرج الإسلام من النظام الرعوي القبلي حسب أحد تعريفات النور حمد ؟ وكيف حمل هؤلاء الرعويون رسالة إلى كل الأمم من حولهم ؟ وهل يمكن أن تخرج الحداثة من الرعاة ( الكاوبوي ) وأيضا حسب فهم النور حمد ؟ من الرعوية العربية ( الجاهلية ) خرجت الثقافة الإسلامية بقرآنها وحديثها وتعاليمها . ولكن النور حمد صاحب النظرية لا يعرف ولا يقول لنا كيف حدث ذلك . النظرة الاطلاقية للحداثة وليس النظرة النسبية هي التي تسول للنور حمد تلك الثنائية المفتعلة بين حداثة وعنصرية وحداثة وكراهية أقليات ولا تدعه يرى الظروف والأسباب التاريخية التي تجعل من الحداثة غير ما يريد ويظن .
الرعوية مصطلح نفسي توهمي أو تراكمي استقاه النور حمد من استعمالات البيئة المحلية التي جاء منها كأحاسيس مختلطة غير واضحة المعالم عن شيء اسمه الرعوية مثلما نقول إن هذه العقلية عقلية ( خلاء ) أو ( عربوتي ) ولا نجد كلمة تتطابق مع فهم النور حمد للرعوية سوى كلمة إقليمي فهل هذا هو ما يقصده ؟
في المقالة الثانية التي بحثنا فيها عن سوء فهمنا له , وجدنا أنه لم يستطع تعميقها برغم من أن النقد طرح أسئلة , ووضع عقبات , ولم يستطع جعلها أكثر تجريدا بحكم تعامله مع مصطلح جعله نورا يمشي على هديه , ويبحث به عن طريقه بين الأبنية الاجتماعية والتاريخية المعقدة , ولم يستطع إيجاد روابط جديدة على كثرتها في هذه المباحث التاريخية أو حلقات مفقودة أو ثغرات معلوماتية , يمكن أن تنعش خياله الإبداعي في رؤية البدائل الفكرية والتفسيرية والرؤيوية وبالتالي إيجاد مداخل جديدة تقوى مزاعمه .
كان النور حمد في المقال الأخير كما في المقال الأول أيضا عاجزا تماما عن رؤية الكل , مما سبب له اضطرابا قاده بين تفاصيل متناقضة يختارها من فترات مختلفة وبيئات لا رابط لها ويحاول المقاربة بينها بتعريفات من عنده يفترضها فرضا لكلمة رعوية ( مثل عنصرية – فرد العضلات – الكاوبوي ... ) التي لا تأخذ معنى محددا أو مضمونا ثابتا من البداية ولذلك لم يستطع على كثرة الأمثلة التي ضربها أن يخلق ترابطات منطقية بين التقليدي / الحداثي / ما بعد حداثي لأن كل تفصيلة لم تكن جزءا حقيقيا من الكل . بحسبان أن التفكير شيء مائع وهلامي وهي الصفة التي استفاد منها كثيرا إلا أنه مازال مثل ما فعل في مقالته الأولى يركز على العمل الذهني الاعتسافي دون الاكتشافات التاريخية فكان الربط بين رعوي وما يسرده من حوادث مختلقا ومصطنعا . وخير دليل على ذلك وفي مقالتيه معا أنه لم يحاول كعادة الباحثين في محاولاتهم الإقناع بأطروحات جديدة لم يحاول أن يطرح أسئلة ولم يحاول العثور على إجابات وهذا ما يقدح في علمية تناوله لمعنى الرعوية وتأثيرها . كثيرا ما يربط الرعوية بالمعاني السلبية فلذلك يقترب بها من معنى اللاأخلاقية التي لا يعرفها الرعاة السذج المؤمنون بكل خرافات الدين وبتفاسيره وتصوراته القرووسطية . ومن جهة أخرى وفي عالم يفسر فيه كل شيء نسبيا ومن زوايا متعددة فإنه ينظر إلى الحداثة ( كمطلق ) لا شائبة فيه فيتجنى عليها بإخراج سلبياتها ورعونتها وعنفها وعنصريتها .
وأقول للكاتب في الختام مثل ما قلت له سابقا أن مقالته هشة وتبسيطية ومليئة بالخداع اللفظي وليست علمية وتنكر الثنائية الباعثة على التطور والتخلق من جديد.
خالد بابكر أبوعاقلة
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.