اختلف الفقهاءُ في التعريفِ اللغوي لكلمة " الجِبْت" 2 وهي قد تعني الكاهن أو الساحر ، وأشار بعضهم أن مصدر الكلمة غير عربي وفي الغالب ترجع أصولها لبلاد الحبشة والسودان حيث تستخدم لوصف الشخص الذي يقوم بالطقوس الروحية و الكهانة لعبادة الأصنام والطواغيت . والجبْتُ السياسي هو المثقف الذي يستخدمه طاغوت السلطة الشمولية والاستبدادية لتمرير أهدافه مقابل عائد مادي ومعنوي في علاقة تاريخية استخدمت منذ القدم لتبادل المنفعة بين المثقف و السلطة . عقب جولة المفاوضات الأخيرة بجنيف لحكومة السودان حول ملف حقوق الإنسان في البلاد ، كتب الدكتور حسن عابدين : الأستاذ الجامعي السابق ، السفير ووكيل وزارة الخارجية الأسبق في لحظة صدق مع النفس مقالأ ناقداً عنوانه: " خداع النفس الديبلوماسية " وفيه انتقد مسيرة الدبلوماسية السودانية خلال حقبة الإنقاذ واحتفائها الكاذب بالنصر بتغيير الوضع من الأسوأ للسيئ ، وعرّض فيه صراحة بإيدلوجية الدبلوماسية الرسالية التي أوردت البلاد مورد الهلاك . ففي المطلع ذكر " ظلّ السودان لنحو ربع قرن على قائمة الدول الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان ، والأسوأ سمعة وصيتاً بين الدول في هذا المجال " وأضاف : " ظللت أعجب ُ أن كبار ساسِتنا ودبلوماسيينا الرساليين وبعض إعلاميينا يهنئون أنفسهم عاماً بعد عام بانتصارات ونجاحات متوهمة ". لا شك أن خُلاصة ما وصل إليه السفير في الساعةِ الخامسةِ والعشرين يعْلمُه معظم المتعلمين والمثقفين يضمّهم عدد مقدر ممن يعدون من موالي النظام ، وإن أتى كلامه متأخراً خيراً من ألا يأتي فهي شهادة ممن كانوا في أضابير السلطة ومراكز صنع القرار ، فقد شهِد شاهدٌ ممن حضروا الذبحَ والسلخ . لكن أُسُ المعضلة ِ يبقى أنه كان جزءاً من هذا الفشل لما يفوق العشرين عاماً منذ تعيينه تعييناً سياسياً فوقياً وهو من خارج الوزارة في مطلع التسعينيات حتى تقاعده قبل حوالى عقد من الزمان وهو على قمة الجهاز التنفيذي ! ليس هذا فحسب ، بل كان يزُودُ عن سِجلِ حقوق الإنسان في البلاد أمام المجتمع الدولي عبر مواقع شتى . جرّ عليه ذلك الموقف المتناقض غضبةً مضرية ً من زملائه الدبلوماسيين "الرساليين" الذين أخذوا عليه نقض العهد والميثاق ، وسكوته دهراً عن رأيه عندما كان في مطبخ الدبلوماسية ، وجهره كفراً عندما انقطع عنه علو المناصب ومورد الرواتب. يقتضي الحياد أن نقر إنصافاً وعدلاً أن تقْرِيعهم له أيضاً ما يبرره ، فلو أردنا البحث عن الحقيقة و جذور الخلاف وأسبابه ، فلا يتثنَ ذلك دون الرجوع للتاريخ لبحث جذور أسباب علاقة الجبتِ بالطاغوت. في محاولةٍ لاتخاذ المنهج الصحيح في البحث، نستقصي أثر الطبيب الماهر الذي يشخص المرض العَصِي بالنظر إلى أعراضه ودلائله ، فالأمراضُ دوماً ما تأخذ نفس الطريقِ و المنهج ، و نقتدي بفراسة ضابط المباحث الحاذق الذي يفك طلاسم الجريمة بفحص الموقع والدلائل وتتبع تاريخ الطريقة والمنهج . لا أظن أن أصل الخلاف والصراع بمستغرب فهو متجذر و متكرر ، فعندما تستنفذ السلطة الشمولية أغراضها من المثقف ، أو يشعر المثقف بنضب معين الفائدة أو تأنيب الضمير من دوره الصوري غير المحوري ، يخرج الخلاف والصراع للعلن ، ويتم الطلاق البائن بين المثقف والسلطة ، ولنا في قصةِ أبي الطيب المتنبئ وكافور الإخشيدي أبلغ المثل . في معرض بحثي وتحليلي أود أن أشير أنني لا تربطني أدنى علاقة بالطرفين ، بل متابع كالآخرين للشأن العام السوداني حيث اعتدنا أن تتقاذفنا الإحن والمحن في وطننا المنكوب ، كما أود أن أشير ألا قداسة مع السياسة ، فالموقف السياسي وتحليله متاح لكل من لديه القدرة على فهم دوافعه دون التقيّد بقيود المجتمع . نفعل ذلك بتقديم الحجة والدليل الدامغ ، ونقرعُ الجهل والتعميم بالحجا ، عزاؤنا أن يكون لنا أجر التنوير لأجيال تعيش في زمن التغريب والتزييف . في العام 2013م، أصدر الدكتور حسن عابدين كتابه "حياة في الدبلوماسية والسياسة" عن مركز عبد الكريم ميرغني مقتدياً بنهج جديد محمود لتوثيق التجربة السياسية لمن هم في صدارة العمل العام . رغم سلحفائية التوثيق عموماً في السودان إلا أننا نناشد السياسيين والتنفيذيين لتوثيق تجاربهم السياسية ، و أن يتركوا أمر تقييمها للأجيال من بعدهم فهي أمانة في تطور السودان السياسي والاجتماعي . ولأهمية الموضوع نشير إلي أن العديد من الأسرار المهمة في الشأن السوداني ظلت طي الصدور، فكم من مواقف مفصلية في تاريخنا السياسي تركت لضاربي رمل التخمين والتفسير دون أن تروي غِلة الصادِي. رغم احتفاء الكاتب بكتابه الآنف ذكره في مساجلاته إلا أنني أصبت بخيبة أمل كبيرة وقت مطالعته قبل سنوات في منهج ومحتوى الكتاب وأحسبه بين أضعف تراجم وتوثيق الدبلوماسيين السودانيين من الصف الأول ، فالدكتور حسن عابدين رغم عمله السابق كأستاذ جامعي و غالباً كمشرفٍ بحثي ، إلا أنه أخفق في الأهداف والوسائل ، فالكتابُ غاب عنه وضوح الهدف فلم يكن هدفه الأساسي السيرة الذاتية ، التوثيق ، التعليق أو التحليل بل جمع مزيجاً من الكل بطريقة "سمك ، لبن ، تمرهندي" وكانت أبوابه غير مترابطة ربما كتبت منفردة على عجل دون تجويد وتمحيص ، فالسِفرُ الرصين يكون جيّد السبكِ مترابطاً كما العِقْد ، وكما هو معلوم إذا لم يلتزم الكاتب بالأهداف والوسائل ، أبحر من غير هدىً فضلّ الطريق . وحتي لا أجني عليه ، أقارنُ تجربته المماثلة لسبق كتاب السفير أبوبكر عثمان محمد صالح : " في بلاط السلطة والدبلوماسية " الذي أستنَّ سُنّةً حميدةً للجيل الثاني من الدبلوماسيين فتحت شهية زملائه فكتب بمهنية احترافية عن تجربته وأدواره في سُلْطةِ مايو ، وحتي إن اختلفت معه إلا أنك تشعر بدوره الوطني المهني وهو يخدم بلاده لا السلطة والنظام . رغم أن السفير أبوبكر عثمان عند قيام ثورة أبريل في 1985 م كان بدرجة وزير يُعنَى بملف التكامل بين مصر والسودان إلا أنك تشعر بأسفه المخلص لا لاندثار حكومة مايو، بل لفقدان الجهد الذي بُذل لتنفيذ مُخْرَجاتِ التكاملِ الاقتصادي لمصلحة البلدين الشقيقين. في الجانبِ الأخر ، نقف على تجربة " محطات دبلوماسية " في مجال الكتابة الاحترافية للسفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله الذي ضرب مثالاً لأهمية المبادئ قبل التقدم المهني ، فعندما أحس بتقاطع مهنيته و مبادئه الدبلوماسية التي نشأ عليها مع أهداف الدبلوماسية "الرسالية" ، فضّل مختاراً أن يفارق حظوة المنصب الرحيب إلي مستقبل المجهول في دهاليز مهمات الأممالمتحدة القارية ، فالتحف الثرى وواجه الموت في برنامج البعثة في العراق وربوع إفريقيا بينما زوجه تربي أبناءه من على البعد . ورغم قساوة التجربة إلا أنك لا تستطيع إلا أن تشعر بالأسى ثم تكِن له كل الاحترام والتقدير، فقد شرّدت حكومة الإنقاذ أُسود كفاءاتنا البشرية في شتى البقاع ، ثم طرْحت لحمَ التمكين والترغيب الطرِي للضباع، في أكبر جريمة لتشريد الموارد البشرية المهنية التي كان يعوّل عليها أن تشارك في مستقبل البناء والتعمير في البلاد . بعدما يقارب من الثلاثين عاماً من التجربة المؤلمة ، أدرك أهل النظام في مخرجات عشاء الحوار الأخير، أن الكفاءة والأداء يجب أن تسبق الحزبية والولاء ! في كتابه بيّن السفير حسن عابدين أنه وُلد ونشأ في كردفان، وتلقى تعليمه العام في مدارسها المختلفة ، ثم عبر عن طريق مدرسة خورطقت التاريخية إلي رحابِ كلية الآداب بجامعة الخرطوم في مطلع الستينيات من القرن الماضي ، فشارك في حياتها السياسية الصاخبة ، ثمّ أختطّ موقفاً مستقلاً بين اليمين واليسار ، وحاول أن يجدّد في الفهم الاشتراكي الذي كان فاكهة ذلك الزمان ، وكان قائداً طلابياً مكّنه من ارتياد اتحاد طلابها الذي كان يزلزل السلطات فمثله في الداخل والخارج . وقد لا يعلم الكثيرون إن اتحاد جامعة الخرطوم الذي نافح الشمولية و فجّر الثورات المجيدة ، كان سعادة السفير يجلس علي قِمةِ مجلسه الأربعيني الفخيم، فجر أكتوبر العظيم! متشرباً بكل هذا الإرث النضالي الجليل، قَبْرَ السفير حسن عابدين ماضيه النضالي التليد وراءه ولم يلتفت له من بعد تخرجه كما سنبيّن. في ظرف سنوات تمّ إبتعاثه لنيل درجة الماجستير والدكتوراه في الولاياتالمتحدة فشاءتِ الأقدار أن قامت ثورة مايو في عام 1969م وهو في المِهْجر. رغم أن الديمقراطية التي أعقبت ثورة أكتوبر لم تكن مبرأة من العيوب فأحبطت معظم النخب السياسية فانتاشتها سهام المتعلمين والمثقفين من كل الجهات، إلا أن الموقف السوّي ممن حاربوا النُظم الشمولية أن يكونوا وفيين لمنهجهم وعهدهم. خلافاً لذلك لم يجدْ السفير حسن عابدين حرجاً أن يضمّن في كتابه إنه اجتمع ونفرٌ قليل ( لفائدة التوثيق : كانوا ثلاثةً كما ذكر) من أصدقائه المبتعثين في أول أيام الثورة "الظافرة"، وقرروا إرسال برقية مؤازرة للانقلاب العسكري الوليد يرشدونه في علاقاته الداخلية والخارجية ، طالبين منه أن يضرب "بيد من حديد" علي قوى الرجعية والطائفية ! ليس من المستغربِ أن يشتّتَ تغرير وطيش الشبابِ الفكر والموقف في ذاك الزمان ، لكن المستغرب بعد أن جرت كل تلك المياه الآسنة تحت جسر ثورة مايو حتى دكّها الشعبُ في إبريل، وبعد أن تركت التجربة الدبلوماسية الطويلة أثرها في العقل ِ والجسد، أن تجد من يحتفي بتلك اللحظة بدلاً من أن يتناساها، بل ويضمّن الخطاب "المجيد" في نرجسية لفوائد التوثيق للأجيال القادمة! تلك محنُ النخب السودانية الفاشلة التي لا ينفع معها الدواءُ المرير حتى وإن كان بعض الكَيّ . بعد عودته من الإبتعاث والتحاقه محاضراً بجامعة الخرطوم تكشّف للسفير خطلَ مايو، و تدخلها السافرَ في شئون جامعة الخرطوم (ما أشبهُ الليلة َ بالبارحة ، فالحكومات الشمولية تقتفي أثر بعضها حذو النعل بالنعل)، فقلب لها تِرْسَ المجنّ، وأعلن صراحة عدم تأييده لها لكنه لم يلبثْ أن قبل بعدها بسنوات قليلة منصباً رفيعاً في الاتحاد الاشتراكي: الحزب الواحد الذي كان سدنة مايو يبنون عليه الآمال أن يكرر التجربة الاشتراكية العالمية في السودان. كل من عاش في ذلك الزمان يعلم أن من سبّحوا بحمد الاتحاد الاشتراكي، كانوا يعيشون في بروج عاجية وهمية تجتذبهم حلاوة ورغد المنصب، يرجون العائد السريع كالمنْبتْ فلا قطعوا أرض التنمية والتعمير الواسعة ولا أبقوا ظهر البلاد سليمة لمن أتوا من بعدهم، يحدث هذا بينما كان عامة الشعب مغيّبين عن أثر النعيم حتى أتاهم اليقين. رغم أهمية تقييم مايو من الناحية التاريخية التوثيقية للأجيال القادمة، فضّل سعادة السفير أن يمر على تلك الفترة مرورِ الكِرام، ولم يشأ أن يقيّم دور الاتحاد الاشتراكي أو أماناته المختلفة التي كان يرأس إحداها وأثرها في الحياة السياسية السودانية وبُعدُ الشقةِ بين أمل النظرية الكذوب وشوك التطبيق الصعوب، ولا أن يراجع مشاركته في ضوء معطيات الحاضر. رغم أنه لم يُسهب، فالسبب لا شك واضحٌ وجلي، فمن أراد إخفاء تنقيب ما لا يروقه، دسّ المحافير. بعد فراقه لنظام مايو عاد الدكتور حسن عابدين لرحاب جامعة الخرطوم محاضراً مرة أخرى حتى قيام انقلاب الحركة الإسلامية في 1989م، رغم أن قيادة الانقلاب حاولت ما بوسعها أن تخفي صبغتها الإسلامية في أيامها الأولى، إلا أن ذلك لم يخف َ على الكثير من السياسيين لا سيما طلاب وأساتذة جامعة الخرطوم المعقل الأساسي للنخب الإسلامية في ذاك الزمان، فالصحف الحائطية في مقهي النشاط ذكرت ذلك صراحة، والكثير من الأساتذة اليساريين توجسوا خيفة وبعضهم آثر درب السلامة قبل أن تطالهم مقصلة الحيف و الظلم . سقنا هذه المقدمة لنؤكد أن الدكتور حسن عابدين عندما تم استدعاؤه لمقابلة العميد عثمان حسن، عضو مجلس قيادة الثورة في مكتبه بالمجلس الوطني وعُرض عليه منصب السفير في وزارة الخارجية في العام 1990م لم يكن بخافٍ عليه تبعات ذلك وكما ذكر في كتابه أنه تردد و شاور زملائه حتى امتثل لحكمة زميله الشمالية: " سوْ وأندمْ ولا تخلي تندمْ "، أي إفعل الشئ واندم عليه خير من أن تتركه فتندم، ومنها جاء تخريج أصول البيع والتجارة "بِعْ واندمْ ولا تخلي تندمْ". مقتدياً بالمَثْل، آثر الدكتور حسن عابدين بعدها البيع السريع لاغتنام الفرصة وتأمين سبل كسب العيش رغم أنه كانت له حرية الاختيار خلافاً للدبلوماسيين المهنيين الذين فُرِضَ عليهم أن يتعاملوا مع الواقع الجديد دون بدائل. . وإذا حسبت أنه سها أو تغافل عن تقييم الأوضاع، فقد تمّ تنويره من قبل الراحل الشيخ حسن الترابي عرّاب النظام في ذاك الوقت عن أهمية مهامه الرسالية التي أنكرها من بعد، و بعدها تعرض لمحنة من العيار الثقيل في أولى محطاته الخارجية عندما زار قياديان من الحركة الإسلامية الجزائر في زيارة غير رسمية لمؤازرة جبهة الإنقاذ، فتحدثا في مخاطبةِ جماهيرية ضاربين بالأعراف الدبلوماسية عرض الحائط ، فانتهى بهم الأمر في السجون، فاسْتُنْفر السفير على عجل ليقيل عثرتهم. وإذا لم تكفِ كل هذه الأجراس الكاذبة فلا بد أن الجواز الدبلوماسي السوداني المخصوص للشيخ راشد الغنوشي التونسي الجنسية أتياً عبر الحقيبة الدبلوماسية دون علم السفير كانت القشةُ التي قصمت ظهر البعير، فكَتْمها لأكثر من عقدين ونيف من الزمان ليصرّح بعدها أن ذلك لا يتماشى والأعراف الدبلوماسية العريقة المتعارف عليها! المستغرب في الأمر بعد كل هذه السنون وكل ما تكشّف من أسرار يعرفها القاصي والداني وليس من تبوّؤا قمة سلم السياسة والدبلوماسية، تجد سعادة السفير حسن عابدين ما زال مؤمناً أن تعيينه تمّ لكفاءته التنفيذية والمهنية! فهو يقول في مساجلاته: " من قال لك (يخاطب السفير عبد الله الأزرق) أنني سعيت "للإنقاذ" واستصرختها لتعينني سفيراً ؟ أعلم بأن الإنقاذ هي التي سعت إليّ في عريني الأكاديمي - جامعة الخرطوم – وطلبت من مدير الجامعة آنذاك أن يوافق على ندبي للعمل بوزارة الخارجية، فالفوا موافقته بخطاب بتوقيعه قال فيه أن جامعة الخرطوم لتفتخر بأن أحد أبنائها الأساتذة يكلف بهذه المهمة الوطنية" واسترجع مقابلته للعميد عثمان حسن الذي قال له بالحرف الواحد:" لقد قرر مجلس قيادة الثورة (يادكتور) دعم وزارة الخارجية بعدد من الشخصيات من أهل الكفاءة والتجربة فوقع الاختيار عليك ضمن آخرين". كل من يفك خط السياسة في بلادي يعلم أن ثورة الإنقاذ في سنى أيامها الأولي جنحت نحو التمويه وتشتيت كُرةِ السياسة خارج الملعب الإسلامي فاختارت بعناية بعض الشخصيات " المستقلة" لمهام مختلفة ، تمّ هذا الاختيار بعناية فائقة و دراسة متأنية وليس هناك أدنى شك أن هنالك تقارير و"بروفايل" لهذه الشخصيات التي لا تعبأ بالمبادئ على حساب المصلحة الشخصية، إن لم يكن هذا التفسير المنطقي هو ما يلقي الضوء على ضبابية التعيين فكيف يُفسر سعادة السفير أسباب التخلي من عشرات الدبلوماسيين المهنيين في وزارة الخارجية الذين فصلوا للصالح العام وتعيينه وهو من خارجها ؟ لابد أن الذين أمسكوا بأطراف الخيوط في ذاك الوقت، تتملكهم الدهشة الآن لتفسيره المِعْوّج، الدليل على صحة هذا المنحى أن الدكتور حسن عابدين لم يخيب ظنّ من رشّحوه ففعل ما يؤمر به طوال مدة خدمته الدبلوماسية حتى تقاعده، وسَكْتَ عن كل منكر مرّ من أمامه بما في ذلك سجلِ حقوق الإنسان المتسخ الذي يتباكى عليه، وعمل على تبييض صحائف النظام السوداء وهو يعلم في دواخله أنه على باطل. لم يمنّ الله عليه باعتراض حتى فارق الكرسي الوثير! تلك أسبابُ ضُعْفنا وخيبة أملنا في نخبتنا السياسية فهل لنا من خلاص من وهدتنا؟ كانت آخر محطات السفير حسن عابدين الخارجية في المملكة المتحدة حيث تركت فيه أثراً وإعجاباً لن ينمحي، فانبهر بالحكم الديمقراطي الرشيد، سيادة القانون و فصل السلطات التنفيذية و التشريعية. لا شك أن التجربة قد زعزعت ثقته في الحكم الشمولي الذي قضى معظم سنواته المهنية في رحابه و يزود عن حياضه، ولا بد أنه قارن أولويات الحكومة لخدمة قضايا المجتمع وتوفير الخدمات معبراً للبقاء في السلطة عبر صناديق الاقتراع لا الوعود الجوفاء والبروق الخُلب، ولا بد أنه شاهد عن قرب دور السياسة واتخاذ القرار وقارنها بحالنا البائس الذي يحيّر العقل والمنطق. رغم أن السفير خصص باباً كاملاً لتجربته في المملكة المتحدة، تجده أغفل توثيق أهم أحداث المحطات الخارجية في أوروبا، حيث كانت تتقاطر بكثرة جموع السياسيين من الخرطوم، وحيث تتواجد معارضة شرسة للنظام بمتابعة أمنية لصيقة، وحيث نمت وترعرعت قضية دارفور المعقدة: جنوب السودان الجديد، وحيث شارك في نقاش الوجود المسلح في دارفور، وحيث اختلفت الروايات حول أصول ممتلكات حكومة السودان التي ذهبت أدراج الرياح. تلك هي أهداف الكتابة التوثيقية لا التحليل وإبداء الرأي في ما هو معلوم. يقيني أن سعادة السفير فضّل أن يترك الباب موارباً فجعل يده مغلولة ولم يبسط قلمه بحرية نحو الأوراق لتسطّر أحداث التاريخ والسِير بمصداقية حتى لا يقعد بعدها ملوماً محسورا، الكرماء من الدبلوماسيين المهنيين اختاروا عن مبادئ جانب صدق النفس لا تبعات الموقف. بعد كل ما سلفَ، يبدو جليّاً غرابة الوضع عندما نرى الدكتور حسن عابدين أصبح الآن يبكي بعد حين على اللبنِ المسكوب، الحقُ المضيع والوضع المشرفُ على الغرق، بعد أن أبحر مختاراً لسنوات عديدة في سفينة الإنقاذ -التي لا تبالي بالرياح- لتعصمه من رياح الخوف، فأصلح ألواحها وشدّ دُسْرُها وعندما أرزمت وأرعدت فتلاطمت أمواجها، حاول خَرْقها ليعيبها! إلام الخلفُ والصراع إلاما وهو قد امتلك الخيار من قبل؟ إن يديه قد أوكتا و فوه قد نفخ3 . حُق َ لجيلنا الوسيط أن يبكي على حال سوداننا المنكوب، فقد رابَهُ الدهرُ بنخبٍ كررت إدمان الفشل فأوردت البلاد مورد الهلاك ، ليس من جانب النظام الحاكم فحسب، بل وفي المعارضة ومن يتأرجحون بين المنزلتين، فلو وضعت هذه النخب مصلحة البلاد العليا فوق مصالحها الذاتية، وفوق مبادئهم الحزبية الضيّقة لأوصلت البلاد إلى برِّ السلام، التنمية والرخاء. فقد أورثتنا هذه النخب عبر الحقب وضعاً مأساوياً أصبح الحل معه من ضرب المستحيل، وبدل أن تتحمل هذه النخب بصدق نتيجة أفعالها ومواقفها السياسية لتلزم جادة طريق الصلح والغفران، تجنح لشماعة التبرير التي لا تسمن ولا تغني من جوع فتسلم الراية لمن يلونهم وهكذا دواليك ، إن كان هذا الطريق والمسار فسنفقد الوطن بمن حمل. +++ 1- ليس من المستحسن التعريض بالسيرة الذاتية للأفراد والشخصيات في العلن ولكن تبوّؤ المناصب القومية والسياسية وثم المواقف المترتبة على ذلك تكشف ظهور أصحابها وتجعلهم عرضة للنقد والتجريح. 2- يرجع الفضل لإدخال الكلمة للقاموس السياسي السوداني للمفكر بابكر فيصل بابكر 3- يديك أوْكتا وفُوك قد نفخ : يضرب المثل لمجابهة عواقب ما صنعت يداك ، فعند محاولة عبور مجرىً مائياً كانت الأعراب تشد حبل الرباط (الإيكاء) على جلد الدواب (القِربة) ثم تنفخه بالفم (الفوه) لتستخدمه وسيلة للعبور ، فلو لم تفلح الوسيلة لتنفس الهواء المنفوخ فتلك صنيعة يداك. +++ [email protected]