سِمعتو قصة الدنقلاوي، الذي انتقل، خلال عهدالإنقاذ من حالة (الإكتفاء الذاتي) إلى مرحلة (التصدير)؟ بداية، أرجو أن تطمئن قلوبكم إلى أن ذلك الانتقال، كان سلساً جداً، و(دينياً) أيضاً! كان صاحِبنا من بقايا اليسار، الذي تناثر في الأرياف بعد ضربة هاشم العطا.. شوهد الرجل في مناسبات معدودة بعد تلك الضربة، ولم يظهر عياناً بياناً، إلا عقِب الانتفاضة، ثم تراجع وانطوى في عزلته المجيدة، عندما هبّتْ ثورة الإنقاذ. عندها استكمل إحباطه وتزوج بنت عمه، ضارباً عصفور الجندرة بحجر كبير.. قال أحسن (يغتي قدحو) ويلبِدْ، ويتحول الى منتج للطماطم الحمراء، كتعويض، عن انحسار المدّ الأحمر بعد انهيار سور بريلن.. لكن الإنقاذ لم تتركه وشأنه، إذ أوصلته سياساتها إلى حقيقة، أنو البلد ما بتنقعِد، بينما كان هو، يبدي سخطه، ويقول بين ذويه: بالله شوف العجيبة دا.. الكيزان ديل، ما باقي ليهم، إلا يقولوا أنو (الدّكّاي) حرام! وصل نبأ إحباطاته إلى أهله الدناقلة العاملين في الخليج، فاجتمعوا ذات خميس، وقرروا استقدامه إلى دنيا الإغتراب رأفة به، لعل وعسى يبدأ حياة جديدة، لا علاقة لها بالمؤثرات الفقهية الطاغية. وصل صاحبنا إلى غربته، وانخرط في العمل داخل القصور.. برع في حصد الريال، لكن، ضاع من بين يديه ابنه البِكر، الذي تغلغلت في ذِهنه مفاهيم الفكر السلفي، فأصبح من اللائذين بالمساجد واعِظاً للرعية، مبتدئاً بكبسولة: أوصيكم ونفسي.. ثم يختم فتاويه الجاهزة ب (أقول ما تسمعون)!.. كان الأنداندي اليساري، يرقب تلاعب الأقدار به، من خلال شطحات ابنه.. بعد ظهور تنظيم القاعِدة، كان يحذّره كثيراً، من مغبة الانغماس في ذلك الطريق: يا (زِفتْ التّين)، إنت حتعمل لي بتاع دين، أكتر من حسن بِجّة؟ أنتَ ليش، ما طلعتَ زي الأولاد، اللِّي بيدرسوا الفيزياء والنّحت واللُّغات؟ أنا أتعب فيك عُمري كلّو، تجي في النهاية، تقول لي،(جزاك الله هير)؟ وهكذا، بذل عديد المحاولات لإثناء ابنه عن التشدد، لكنه لم يفلَح.. قال له مِراراً: يا ابني، إحنا جِدّنا الكبير كان بيصلي بالعمّال كلُّهُم، في قصر عابدين، ده مش كفاية؟.. يا ابني إحنا عاوزين دِين، على قدر حالنا، وبس!..كل هذا لم يغير من توجهات ذلك (الكائن الحلوي)..عندما أعيته الحيلة، ركب الدنقلاوي رأسه، وقرر تصدير ابنه إلى الدّاخِل!.. ذهب مباشرة، وسلَّم جوازات سفر أسرته لمكتب الأمير وطلب بإلحاح، خروجاً دون عودة، وعاد يحكي غزوته لدناقلة الغُربة.. قال لهم إنه اتخذ قراراً بترحيل (زِفْت التِّينْ) إلى الداخل، عشان حكومة الكيزان (تعرِف حاجة). في قيدومة الوداع التي أقيمت له، إلتأم الدناقلة على الكابيدة، يتجاذبون أطرف الحديث على سجيّتهم، بحضور الكائن الحلوي.. دخلوا في ونسة صريحة، لا تُحتمل ولا تُقال، إلا عبر شفرات الرطانة.. تطاولت ضحكاتهم إلى حَكايا الليل، والنساء، والعشق الخفي.. كان بوحاً هستيرياً لا تراقبه جماعة الأمر بالمعروف، ولا يقيِّده (اللّوم)، وكلما ارتفعت شفافية السّرد، زاد امتعاض الابن، (زِفْت التِّينْ).. ثم أوغل العواجيز، بين معارج التدخين والتمباك، إلى غزل بلغَ مبلغ :(هوي يا ليلى هوي)، وتمدد فوّاحاً، إلى تلك المنافذ المحظورة! عِندها نفد صبر (زِفْت التِّينْ)، فانفجر في عواجيزه، بجاهزيته الخطابية، صارِخاً فيهم:(يا قوم..)! ثم بهلَ فيهم مواعظه، مذكراً بعذاب الآخرة، ومشيراً إلى أن تلك الونسة (التِّحْتانية) التي يتورطون فيها، تتنافى مع منهاج السلف الصالح.. وختم موعظته الغاضِبة، طالباً منهم الاستعداد للفريضة! دُهش رهط الدناقلة، الذين أدمى قلوبهم الاغتراب، فتساءلوا، واحداً بعد الآخر: مين ده..؟ الوّاد دا، عاِمل فيها نِصف نبي، وإحنا مُش عارفين؟. هو إزاي، عامِل في روحو كِدا..؟ هُنا وقف صاحبنا، وأطلق آهاته المرطونة: يوووه.. كلونوكورريه.. الجّماعة دول في السودان، شبكونا دِين في دِين، قلت نسيب ليهم البلد، ونِغتَرِب عشان نرتاح، يقوم يطلع لي في الغربة (زِفْت التِّينْ) دا..؟ بس أنا مُش حأسيبهُم، أنا راح أرجِّعو ليهُم، عشان حكومة بتاع الإنقاذ يعرف، إنو أنا (دينياً)، وصلت حالة الإكتفاء الذاتي، ودخلت معاهم، مرحلة التصدير!