بسم الله الرحمن الرحيم عاشق أرقين وشاعرها ..محمد سليمان حسين..مظلوم حياً وميتاً لو أن فضلاً واحداً يمكن ان ينسب للشاعر والملحن والفنان الراحل محمد سليمان حسين.. لكان إحياؤه ضرباً من الغناء النوبي كاد ينسى لولا بقاء الأغنية الشهيرة ( ملكة دارية)عصية على النسيان..لكفاه ذلك مجداً..فقبل أن تستقر أغنية الطار على شكلها الأحدث على يد ولولي ومن خلفه..ساد نوعان من الغناء ..هما (مسلي ) وهي أقرب نطقا للكلمة الدارجة (ليه ) حيث كل حروفها مكسورة بتخفيف..وهي أقرب إلى المسدار إن لم تكنه ..واسمر اللونا..الأقرب إلى شعر المرابيع.. وهكذا لم تعرف أغنية أخرى وتشتهر ..قبل أن ينفض عنها الراحل الغبار..في أغنيتين جسد فيهما عشقه لأرقين.. تبدأ إحداها بأروع ما يمكن وصفه..بسؤال من أتى إلى خاطره في لمحة من الزمن ( من أي فج اهتديت إلى بالي..لتحيي أرقين من موتها ؟) ويبدأ في تجواله على تفاصيلها..وغرامه الأول فيها..ولا ينسى أن يعبر النهر شرقاً( للصحابة )ويصعد جبلها ويصلي بآذان داؤود طموش..أشهر مجاذيبها ..الذي لم يتوان تلميذ منها على الإجابة في امتحان الدين عن مؤذن الصحابة باسمه لا بلال. لكن إلياذته إن جازت التسمية .. هي ال(مسلي) التي اسماها باسمها فيما يربو عن الثلاثمائة بيت ..ورددها مع فرقة القريه (5) بحلفا الجديدة في سبعينيات القرن الماضي إن دق التاريخ..وفيها لم ينح نحو من تغنوا ببكائياتهم على وادي حلفا بعد إغراقها..فقد عاد إليها بوعي من حدد خطه الفكري ..لكن بذاكرة الصبي الذي يسجل تفاصيل صباه..ليسجل معاناة الذين لم تسعهم الأرض وهاجروا إلى مصر الملك فاروق وقبله..وحرمان الأهل منهم ..والمفارقة بين الفقر والغنى..ليحدد في أول مقطع بعد المقدمة التي يؤكد فيها بصيغة التساؤل ..هل يمكنني أن أنسى أرقين حتى في الممات ..أُم الفقير والغني ..وأم الجميع ؟ يحدد موقفه قائلاً ( بعد أن علمنا كيف يزداد الأثرياء ثراءً ..والفقراء فقراً ..دخلنا الطريق الذي اخترناه)..ويبدع في المقطع الذي يليه مباشرة..في المقابلة بين الحقل والمائدة..والمقارنة بين المزارع الفقير وكده وجوعه..والموسر المستغل ومائدته العامرة..ولم يستخدم كلمة (كوس) التي تعني القدح ..بل تفنن في الجناس غير التام بين ..كلمتي (فا) وتعني حوض أو حقل الزراعة و(فاله) وهي تعني المائدة العامرة.. ليدلف بعدها إلى أرقين ..وليس المقام مقام تناول لكل الأغنية..فلنتناول استخدامه لشخوص أسرته في التعبير عن فكرته..الصبي ..أمه ..أبيه..جدته لأمه على النحو التالي: الصبي ..الذي صقلته التجربة..والحرمان من وجود أبيه قربهم..وعجزه مع ذلك عن الإيفاء بمصروفاتهم فيسبق عمره بالإصرار على تلقيح نخيلهم رغم خوف الوالدة عليه..ليوفر سبيطة اللقاح على الأسرة..وتعبيره عن سعادته بخطاب عليه إسمه مع صورة الملك..وزف بشرى قدوم الوالد لأمه..ويسجل فرح أمه وتعبيرها عن حبها بالسماح للصبي بالذهاب لمقابلة والده سعيداً.. قائلة ..لو استطعت لذهبت لمقابلة (سلوم)..وحميمية الصبي مع والدته التي تجعله يسجل معابثته لها عند اختلاء الوالد وتفرق الضيوف قائلاً إلى أين ستذهبين يا أماه !!؟( يويو إر فسلانقي واللا !!؟). الوالدة..(شريفة) وتسجيل مدى سعادنها بالخبر ..ونفير النساء للياسة البيت الطيني كما كانت العادة..وفرش الأطفال فناء المنزل بالرمال الذهبية..وسقوط دمعتها عليها رغم محاولة إخفائها في (الديواني) حيث يختلي الرجل بزوجته..وتجديدها لكل شئ حتى (خرتاية) ضروع الماعز!! وخفة حركتها في استقبال الضيوف بقلب يرد على غمزات أعين رصيفاتها المباركات وآخر في ( الديواني)..وعتابها قائلة ..لم تسأل عما نأكل ونشرب ..لتعذره وتعلن تمسكها به كأب لأبنائها رغم كل شئ الوالد..الذي يقالد أبنه باكياً فيسارع إلى إسكات ولده الباكي ورحلتهما عبر المركب لأرقين..وأمتعته القليلة..والسؤال عن متبرع بحماره ..والسلام يميناً ويساراً حتى الوصول إلى المنزل..والهدايا له ولأمه ولجدته..وشكواه من حاله في مصر..التي يعمل فيها خادماً..والمفارقة بين ما في باله وبين راتبه الذي بالكاد يسدد ديونه رغم عمله طوال اليوم حتى لو كان مريضاً..فماذا سيأكل ..وما الذي سيستبقيه لأسرته في أرقين ؟ جدته لأمه(اسيا)..التي تزورهم وتصر على القيلولة تحت النخل الذي لقحه الحفيد..وتطلب منه قطف الرطب لها مما لقحه وسعادتها بخفة ارتقائه ودعاؤها له بأقصى ما تدعو به جدة( ابرأ الله ذمتك)..ثم سؤالها لنسيبها عن ابنه الذي يدرس في الأزهر وأطال البقاء في مصر حتى تكاد تبوح بدعائها على مصر.. والمفاجأة السعيدة بخبر عودته بعد عام للعمل في السودان في الحكومة ..والسعادة الكبرى قبل الثوب الجديد(شقة) هدية النسيب ..بمبلغ الخمسة وعشرين قرشاً الذي وصى ابنه نسيبها بأن يسلم عليها به في يدها..وكيف رقصت ورقصت فرحة حتى انهارت باكية. لم يكن صوته ملفتاً ..لكن شعره وألحانه أوصلت أغنياته..والتحية للفنان شاكر ياسين أفضل من تغنى بهذه الرائعة ..حين أفسدها الآخرون وفصل من الفقر والمعاناة لتوفير ثمن تذكرة العودة..وكيف باعوا جريد النخل لرفض التجار إقراضه ..وهو ما كان يمكن ادخاره لأيام أخرى..لتبلغ المأساة قمتها عند وصول خبر وفاة أبيه ..لتتحزم أمه بثوبها الذي أحضره مولولة لقد سبق الراحل كل المعاصرين.. في إحياء هذا الضرب ..إذ لم يسجل بعده عمل ذو بال..حتى جاء الراحل المبدع وردي متأخراً برائعته علي سليم. وله قصيدة طويلة بالنوبية لطالب من شندي مات ليلة حفل العاجكو..وعاطق فيات كثر. فكيف لا يخلد ذكر هذا المبدع من النوبيين وجمعياتهم وكياناتهم ؟ ولا من حزبه الذي انتمى إليه؟ إنها دعوة لإنصافه ..فهل من ملتقط للقفاز..لنكون له عوناً ؟ آمل ذلك. [email protected]