لن تمر حادثة العصيان المدني الذي نفذته قطاعات عريضة من الشعب السوداني في ال 27 من نوفمبر الماضي على أدبيّات وتاريخ العمل السياسي مرور الكرام؛ فقطعًا سيضاف إلى قائمة نضالات الشعب السوداني - معلم الشعوب- الذي فجّر من قبل ثورة أكتوبر عام 1964 أول ثورة شعبية في العالم العربي بعد حقبة الاستعمار، وكررها تارة أخرى في أبريل حين اقتلع نظام المشير جعفر نميري القوي عام 1985. وجدت الخرطوم نفسها هذا العام تغرق في وحل من الاحتجاجات الناعمة بدءًا بإضرابات الصيادلة ثم الأطباء ومؤخرا موجة العصيان والمقاومة الصبورة؛ رغم مراهنتها على عدم التفات الشعب لدعوات العصيان التي أطلقها ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجًا على موجة الغلاء ورفع الدعم عن الدواء قبل أن يرفع العاصون سقف مطالبهم إلى رحيل النظام بأكمله وعلى رأسه عمر البشير.. كما تفاجأت الحكومة بالاستجابة غير المعهودة لدعوات ملازمة البيوت والعصيان الذي حقق في يومه الأول 27 نوفمبر وبغض النظر عن نتائج اليومين التاليين له نجاحًا ملحوظًا قُدّر بنحو 70%. لعبت فيه مواقع فيسبوك وتويتر وغيرها دور المنصة التي خاطب عبرها المنفذون الشعب، بعد أن غفلت الحكومة عن اتساع رقعة المظلة الرقمية في السودان لنحو 11 مليون شخص وفق آخر إحصائية حكوميّة. بنظرة أشمل وبعيدًا عن جدلية نجاح العصيان الذي يرى كثير من المراقبين أنه أرهق النظام الحاكم نفسيًا واقتصاديًا إلا أنّ الحقيقة الماثلة أمامنا الآن أنّ هناك واقعًا سياسيًا جديدًا بدأت تتشكّل ملامحه في سماء الخرطوم؛ فحين تخرج طالبات المرحلة الثانوية ذوات البضعة عشر ربيعا منددات بالأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلاد تنتج سنويا 100 طن من الذهب؛ فهذا يعني أنّ هناك جيلا قد أنضجته الظروف قبل أوانه، وأنّه يعي تمامًا مطالبه الحياتية، ويعرف على أي أرضية اقتصادية تقف دولته.. جيل تعلم كيف يجري معادلة حسابية يضع فيها البرسيم مقابلا للبترول، ويحسب بمنتهى السهولة كيف أنّ خروفًا واحدًا في سهول كردفان الخصيبة من جملة 150 مليون رأس ماشية يعادل قيمة برميل نفط في الأسواق العالميّة الآن.. ورغم إنكار الحكومة على لسان البشير ووصمها العصيان بالفشل إلا أن جولة على "تصريحات الحكومة" الأسبوع الماضي ومواقع التواصل الاجتماعي وعناوين الصحف تكشف لك بوضوح كيف أنّ الحكومة حتى الآن لم تتعاف من أثر الصدمة، بل باتت تنازع وتنازع حتى تفشل دعوة العصيان القادمة التي اختار لها الناشطون تاريخ ال 19 من ديسمبر الجاري -والذي يصادف ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان- بعد أن آتى تمرين ال 27 من نوفمبر المنصرم أكله وأرسل رسالة واضحة عن حاجة البلاد إلى تغيير جذري وهيكلي يعيدها إلى موقعها الصحيح في الخارطة الإقليمية والدولة. وأنّ الشعب قادر على التنظيم والحشد والفاعلية وأنّه قادر على تجاوز سائر القوى التقليدية السياسية في الساحة، لاسيّما الأحزاب السياسية التي لم تعد تملك زمام المبادرة في تحريك الشارع كما السابق. اللافت في مشهد عصيان الأسبوع القادم أنّ حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) لم يتعامل هذه المرة باستخفاف كما هي عادته، إذ أبدى شباب الحزب الحاكم استعدادهم للحوار مع دعاة العصيان المدني، وناشد بيان آخر للحزب المواطنين بعدم الاستجابة لدعوات العصيان؛ الأمر الذي يمكن اعتباره تنازلاً واعترافاً من النظام بنجاح عصيان 27 نوفمبر الماضي رغم إنكاره، أيضا الأحزاب السودانية التقليدية التي "ترددت" ولحقت بدعوة العصيان السابق قبل يوم واحد من تنفيذه سارعت هذه المرة إلى تفعيل وجودها أكثر بمخاطبة منتسبيها وحثهم على المشاركة في عصيان 19 ديسمبر، لاسيما السيّد الصادق المهدي الذي صرح أنّه أول من دعا للعصيان المدني في وقت سابق. بل إنّ هناك تكّهنات بثورة كوبرنيكية تماما تغير المشهد السياسي القائم في السودان يكون بطلها الجيش السوداني ورجال التكنوقراط وبعض رجالات الحزب الحاكم التي تحاول إحراج البشير أو القفز من المركب قبل أن تغرق؛ ومن ذاك لقاء الساحة الخضراء في الثالث من ديسمبر حيث لم يتجاوز حضور المليونيّة التي دعا لها الحزب الحاكم لتدشين مشروعات صناعيّة وللسخرية من العصيان المدني وكيل الشتائم لمناضلي الكيبورد ووصمهم بدعاة التخريب؛ لم يتجاوز أكثر من 300 نسمة، مما يشي بأنّ هناك عملية تعرية وضرب تحت الحزام قد تمت؛ فالذئب العجوز لم يعد مخيفًا كما السابق بعد توالي السنون وتتابع الفشل في إدارة الدولة الغنية الموارد بسبب المحسوبية والفساد الذي أزكمت رائحته الأنوف.. فهل ستعي الخرطوم درس العصيان السابق أم أنّها لن تستبين النصح إلا ضحى ال 19 من ديسمبر الجاري؟! الأيام بيننا.. جريدة الإخبارية المصرية [email protected]