كان يتمّ بناء خلايا الحزب الطليعي المعارض، وفق توزع الرفاق الجغرافي، على مختلف أحياء القاهرة الغنية والفقيرة، على حد سواء، وقد بدا لزاما، لا سيما بعد ازدهار وضع حامد عثمان المادي، أن يهتم هذا الجائع اللعين، وفي أقرب وقت ممكن، بمسألة الانتقال والعمل، بقلب عاشق احتمل مكائد الفقر وحليفه الحرمان طويلا، إلى جانب مها الخاتم، داخل خليّة حزبيّة واحدة، وهو ما شرع بالفعل في تنفيذه عمليا لحظة أن سعى، بشغفٍ متوقع ومعاونة من قبل أحد مكاتب السمسرة المنتشرة في ضاحية مدينة نصر، إلى الحصول، بتكتم تام وحذر مبالغ فيه، على شقة تقع، في بناية قرب بناية مها الخاتم، أي كما لو أن الأمر يحدث، برمته، ولا أكثر، أو أقل، محض صدفة. ذات مساء، وضوء القمر المكتمل يستحم بلطف في البلكونة المطفأة الأنوار داخل كأس من المارتيني شفّافة ووحيدة على مائدة، هاتفه رفيق يدعى منتصر جيفارا، حيّاه لدهشته باسمه الحركي ذاك، أي من دون أدنى تحفظ قد يليق في الأخير بحزبيّ متكتم، ثم أخبره بما بدا ضجة احتفالية أخرى لا مبرر لها "أنّهم في الواقع" استلموا أخيرا، "هنا" في مدينة نصر أوراق "توصيلتك"، من الخلية السابقة، يا "رفيق مسالم". لما أغلق حامد عثمان السماعة أخيرا، ابتسم وهو ينظر، بما بدا قلقا مبهما وغامضا، إلى ضوء القمر الغاطس لا يزال داخل كأس المارتيني، وقد بدا له لسبب ما، مثل لمعان جوهرة صغيرة تتألق، في نهار قطبي بارد وصاف، على تاج. كان ذلك إذن أول اجتماع حزبي يحضره حامد عثمان، أو الرفيق مسالم، من اجتماعات الخليّة الجديدة. وكما أعد للأمر جيدا وخطط، ارتدى اللعين ملابس، من صنع "تيد لأبيدوس"، خط إنتاج فرنسي عابر للحدود، ووضع عطرا خفيفا، من منتج يُدعى "ليفلي باريس". باختصار، بدا الوغد وقتها، وهو يدلف إلى مكان الاجتماع، على ذلك النحو، لا كعريس، بل كآخر مستجدِ نعمة يمشي، فوق سطح الأرض، على قدمين. قصّ قبلها شعره الخشن نوعا ما. وأخذ حمام ساونا في مكان يطل على شارع جانبي ظليل متفرع من شارع الأديب عباس محمود العقاد. وقد بدا تاليا كما لو أن سؤالا غبيا ما ينفك يدور في أذهان أولئك الرفاق، طوال سير أحداث ذلك الاجتماع اللعين: "من أين لك كل هذا، يا رفيق مسالم؟". كانت مها الخاتم تصغي في الأثناء لحديث حامد عثمان مثل غيرها من شهود الاجتماع ولكن بانتباه. أي كما لو أنّها تراه وتسمعه للمرة الأولى. فتنه ذلك. أشبع غروره قليلا، بل وأثار تلعثمه أكثر من مرة. لكن أكثر ما أثار دهشة أولئك الرفاق المجتمعين حقا وتركهم غارقين أسفل موجة طاغية من التأثّر، بما في ذلك مها الخاتم نفسها، فكان لحظة أن أعلن حامد عثمان في أثناء مناقشة "البند المالي" عن رفع قيمة اشتراكه الشهري لدعم مالية الحزب إلى ما يوازي قيمة إيجار شقته السابقة في حيّ عين شمس الشرقية لمدة شهر. في الواقع، أو الحق يقال، كان حامد عثمان يبدو، وهو يعلن ذلك، مثل أي ابن زانية لعين آخر عرفه العالم في ذلك الوقت، على استعداد تامّ، ومهما بدا الثمن مرتفعا ومكلفا، أن يدفع بنصف عمره، كيما ينال انتباه امرأة لم تكن تراه، حتى عهد قريب. تأمين. بلاغ. مالي. داخلي. سياسي. ثقافي... تلك إذن كانت أجندة اجتماع الخليّة الجديدة وفضاء التشكل الأول لفصول مأساة مها الخاتم اللاحقة. "شرف المرأة في عقلها". كان جمال جعفر ينسج شباكه حولها. "إذا سقط الثوري فانه يسقط عموديا، يقول لينين". كان حامد عثمان قد أخذ ينسج بدوره شباكه حول الفريسة ذاتها، على خلفية إدانة غريمه وسلفه في الغرام جمال جعفر، بدأب ومُكر شيطان عزب له ألف قرن من الوحدة والكبت والظمأ، وقد رسخ في نفسه أن الفرائس عادة ما تكتسب خاصية المناعة ضد الوقوع أسيرة شِراكها السابقة، أو كما لو أن الأنثى لا تعبر نهر التجربة مرتين. [email protected]