كان الناس فى صلاة العيد.وكُنْتُ جالساً أمام فُندُق السلام بوسط الخرطوم.لم يكُن العيد يعنى لي شيئاً.العيد رائع لكنَّهُ فوق مُستواي المادِّي.لذا كُنْتُ صارفاً عنه النظر.كان وسط الخرطوم صامتاً صمت القبور.خالياً من البشر.نزل رجل من الفندق بكامل زينته , حيَّيْتُهُ بحركة من رأسي حتى أُعفيه من تهنئتي بالعيد.كل شئ فى يومي هذا يجب أن يكون بأقلَّ ما يُمكن من الكلام.بُؤْسِي بدا لي مُغْرِياً بالحياة وبالموت.فكَّرْتُ أنَّ الإنسان فى مثل هذا البُؤس إمَّا أن يسْمُو إلى مُنْتهى العقل ,أو يسْقُط فى مُنتهى الجُنُون. :=ظلَلْتُ ماشِياً إلى أن وصلْتُ مدرسة على عبد اللطيف.خلف المدرسة هناك راكوبة تسكن بها أُسرة من النازحين.دخلتُ فى الراكوبة وجلستُ على بَنْبَر وطلبْتُ نُص عَرَقِي.ملامح الجالسين فاقدة لحيويتها , هيئاتُهُم مُنْهَكة ,ينظرون إلى بعضهم البعض ولا يتكلَّمُون.وضعت أمامي النُص.التفتت إليَّ كما لو أنِّي تكلَّمتُ معها جهراً.رُبَّما أحسَّتْ من خلال نظراتي لها أنِّي أُفكِّر فيها بسُوء.حوَّلْتُ نظراتي عنها.بدأتُ أنظُرُ إليها بحذر حتى لا أُثير إنتباهها.لا أُريدُ مشاكلاً معها.الدُنيا عيد.ستيانُها أصغر من نهديها الضخمين.عرقُها يكشف عن قذارة بلوزتها البيضاء.شفتها السفلى ممتلئة أكثر من شفتها العليا.شاربُها لا ينسجم مع وجهها المُدَوَّر.إنَّها مثل تُونةٍ ضخمة. -كان في الراكوبة طفلان.أحدهما فى حوالي الثالثة والآخر فى الخامسة تقريباً.شعرْتُ بوخْز من الحُزْن أنّي لم أحمل لهما بعض الحلْوى وليس في إمكاني أن أعطيهما عيدية ولو جنيهاً واحداً.قال الأصغر للأكبر :ح نمشى متين ناس خالتي عشان العيد. قال له الأكبر: بعدما ننوم ونصحا.ويلّا تانى ننوم ونصحا.ويَلا تانى نمشي ناس خالتي في الحاج يوسف. --يعنى , بعد يومين.--- -خرجتُ من الراكوبة وسرتُ حتى وصلْتُ شارع الغابة.عند مدخل الشارع كان هناك رجُل يقف لفت إنتباهي ساعةٌ فاخرة كان يلبسها.سألْتُه :ياخينا لو سمحْتَ ,عليك الله الساعة كم بالله لو سمحْتَ ياخينا..? قال : ما عندي ساعة والله.معليش ياخينا..!!.لقد كانت هيْئتي معقولة نوعاً ما.كُنتُ ألبس بنطلون جينز وفانيلة بيضاء كط رائعة.المشكلة أنّ نعالي كانت كل فردة من بلد. مضيْتُ ماشياً داخل الغابة.لم أجد هناك سوى ثلاثة شُبَّان منفوشي الشعر يجلسون.طنين الحشرات يتعالى من كل مكان.زوج من الطيور طار على مقربة منّٓي.السراب فى عيني.قفلْتُ راجعاً.عندما مررتُ من هنا لم يكن هناك شئ.هذه المرَّة هناك سيارة واقفة.لم يكن داخلها أحد.دمدمات رجُل وإمرأة تصلُني من بين الأشجار.صوت المرأة قال بإنزعاج :انْتظِرْ , اسْتَنَّى ياخي لمّا يفُوت.أشجار السُنُط الصغيرة كثيفة.إنَّهُما يريانني من حيثُ لا أراهُما.فى السماء طائران أسودان يحومان وينسابان فى هاوية السماء.يصعدان ويتقاطعان , يُحلِّقان فى إتّجاه واحد.يتماسَّان ثُمَّ يتقاطعان. رُبَّما الآن بعد أن إبْتَعَدْتُ عن مكانهما يكون بإمكانهما إكمال برنامجهما بإطمئنان.ستفُوحُ رائحتُهُما فى هذا الهواء الساكن.الإنسانُ للإنسان ,والطَّيْرُ لِلْطَيْر . "شُكْرِى عبد القيوم"