((نصر هلال قمة القمم العربية))    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالدة زاهر: قصة إمرأة سودانية رائدة
نشر في الراكوبة يوم 08 - 03 - 2017


نقلها إلى العربية عبد الله الجربندي
أود أن أعرفكم على بعض النساء من حي الموردة في أمدرمان. اختياري لبعض النساء لا يعني بأية حال التقليل من شأن المرأة ومساهمتها سواء في الموردة أو في مدن السودان الأخرى وأريافه. كما أني لا أدعى أن مساهمة هذه المجموعة التي اخترتها هي وحدها الجديرة بالاهتمام. لكني وبالأحرى، أحاول أن أشرككم في بعض القصص التي لم تحكى عن المنطقة التي نشأت فيها والتي احبها أيضاً، عبر عيون هذه المجموعة المختارة من النساء. واحدةُ منهن هي خالدة زاهر وربما حدثتكم بتفصيل اكثر عن خالدة نسبةً للتاريخ الأسرى المشترك بيننا.
ولدت خالدة في حي الموردة في الثامن من يناير عام 1926 كمولود أول لكلٍ من فاطمة عجب أرباب وزاهر سرور الساداتي. بكل تأكيد فان مولدها كان في وقت لم تكن الكثير من الأسر ترحب بأن يكون مولودها الأول بنتاً أو بالمواليد من الإناث بشكل عام وذلك بسبب المفاهيم الذكورية التي كانت سائدة وقتها. على كلٍ، ومنذ ميلادها كان والدها عازماً على إتاحة كل الفرص لها لتبلغ ما تريد. لنتفهم نشأة خالدة اكثر اعتقد انه من الضروري التعرض لبعض التاريخ الشخصي لوالدها.
الراحل زاهر الساداتي ولد في الثاني من سبتمبر عام 1898 وتوفي في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1981 وقد كان ضابطاً في الجيش. كان ميلاده في امدرمان لأسرةٍ هاجرت من دارفور أيام المهدية وصادف أن يكون يوم ميلاده هو نفس اليوم الذي استشهد فيه والده في معركة كرري وقامت والدته بتربيته. في عام 1910 التحق زاهر بالجيش في خانة ولد بالمشاة ثم تدرج في الرتب. وكما ذكر هو، كان قد طُردا من المدرسة الأميرية بامدرمان بعد أن قام مع مجموعه من زملائه بضرب مدرس الجغرافيا المصري لغطرستهِ غير المحتملة.
وقتها أُعتبر ذلك بمثابة عمل عصياني ضدّ السلطة الاستعمارية حديثة التكوين بغض النظر عن صغر سن مقترفيه لذلك فقد تم اعتقالهم وأخذهم إلى مخفر الشرطة. مفتش المركز رأى أن التعليم النظامي لا يناسب زاهر وزملائه، عليه فإن الجيش هو المكان المناسب لتأديبهم. بعد مدة وجيزة من التحاقه بالجيش فقد زاهر والدته، آخر من تبقى من أفراد الأسرة بعد أن استشهد معظمهم في حروبات المهدية.
بالرغم من أن زاهر قد حرم من مواصلة تعليمه النظامي، لكنه كان شديد العزم في البحث عن المعرفة في كل المصادر المتاحة في ذلك الوقت. لذلك كانت القراءة اهتمامه الأساسي، على الأخص كان مأخوذاً بالتاريخ والسياسة التي سرعان ما وجد نفسه مشاركاً فيها بكل نشاط من خلال جمعية اللواء الأبيض السرية في العشرينات من هذا القرن. اكثر من ذلك فإن شغفه للمعرفة قاده إلى تأسيس علاقة صداقة متينة مع واحد من أوائل المؤرخين السودانيين، ذلكم هو الشيخ محمد عبد الرحيم الذي اصبح بمثابة ناصحه الأمين.
لقد كان محمد عبد الرحيم واحد من كتبة الخليفة عبد اللَّه واخذ على نفسه كتابة تاريخ السودان كما رآه وسمعه. إضافةً إلى ذلك فقد كانت له مكتبةٌ ضخمة متاحةً للباحثين عن المعرفة. كما قام بإصدار مجلة "امدرمان" والتي صارت لاحقاً ميداناً لتدريب الكثير من الكتاب والشعراء السودانيين كالتجاني يوسف بشير مثلاً.
إن حرمان زاهر من مواصلة تعليمه النظامي كان الدافع الرئيسي الذي جعل التعليم والمعرفة من قيمه الأساسية في الحياة. في ذلك العمر المبكر نما لديه إحساس قوي بما هو صحيح وما هو خطأ وأهمية أن يكون صاحب تفكير مستقل وان يتعايش مع الظروف الناتجة عن قراراته مهما كانت صعوبتها. إن ظروف نشأته هذه قد شكلت شخصيته الصلبة وقيمه الأساسية وقد عزم على تمليك هذه القيم لابنته خالدة.
في ذلك الوقت كان تعليم المرأة ظاهرة جديدة وكلنا نذكر نضال العم بابكر بدري من اجل جعل حق التعليم للمرأة من الأولويات الأساسية تلك الأيام. مدرسة البنات الوحيدة في الموردة كانت مدرسة "Miss Miller"الابتدائية. حالياً مدرسة الموردة الابتدائية للبنات التي تقع أمام دار الرياضة في شارع الموردة.
بعد أن أكملت خالدة تعليمها الابتدائي ادخلها والدها المدرسة الإرسالية الوسطى التي كانت تديرها الكنيسة الإنجليزية. مباني تلك المدرسة هي مستشفى التجاني الماحي حالياً في شارع الأربعين بالقرب من صينية المرور التي شيدها هدية لمدينة امدرمان رجل الأعمال المعروف الهادي المرسال في عام 1960. أكملت خالدة المدرسة الوسطى في عام 1940 وقد اعتبر ذلك إنجازاً كبيراً لامرأةٍ شابه في ذلك الوقت خصوصاً وان معظم البنات كن يمنعن من مواصلة الدراسة للبقاء في المنزل وانتظار عريس المستقبل. في احسن الأحوال كان يسمح لهن بالعمل في مهنتي التدريس والتمريض، ذلك إذا وجدن المعاضدة الكافية من الأسر. على كل، فقد أبدت خالدة رغبتها في الالتحاق بالمدرسة الثانوية بعد أن شجعها على ذلك بعض مدرسيها.
مدرسة البنات الثانوية الوحيدة في السودان في ذلك الوقت كانت مدرسة الوحدة الثانوية "Unity High school" وهي مدرسة خاصة تديرها الكنيسة والدراسة بها كانت وقفاً على بنات الخواجات وبعض الجاليات الأخرى من أغار يق، أرمن، طليان إضافةً إلى السوريين واللبنانيين. وعندما كانت خالدة على أعتاب التقدم للمدرسة الثانوية كان والدها في ذات الأثناء مع كتيبته في جنوب السودان. ضمنت خالدة مساندة والدتها وأخيها الأصغر أنور. لم يتجرأ شخص آخر سواء من الأسرة المباشرة أو الأقارب على مساندتها. بعد ذلك أرسلت خطاب لوالدها أوضحت فيه رغبتها في الالتحاق بالمدرسة الثانوية وطلبت موافقته إضافةً إلى مصاريف الدراسة. استغرق الأمر بعض الوقت من البداية حتى النهاية. في الحي اعتبر الموضوع خيبة أمل كبيرة والكل كان يتحدث عن أن "خالدة ماشه تقرأ مع بنات الخواجات". بعض رجال الحي كانوا يعقدون الاجتماعات الواحدة تلو الأخرى في نادى الضباط لمناقشة الموضوع.
بدأ البعض الآخر في إطلاق النكات الساخرة قائلين "ها ها زاهر عاوز يطلع بتو مفتشة" وذلك أمر لا يمكن مجرد التفكير فيه حتى لرجل سوداني في ذلك الوقت. بعض الناس أرسل خطابات إلى والدها في الجنوب للتأثير في قراره بينما اقترح عليها آخرون أن تتخلى عن سعيها لمواصلة تعليمها ومن الأفضل أن تعمل مدرسة لأنها "بت فصيحة جداً".
على كل، بعد دراسته للموضوع أرسل والدها خطابين إلى الموردة. واحد لخالدة يثني عليها ويساندها في قرارها والآخر إلى خالها محمد عجب طالباً منه أن يصطحب خالدة إلى مدرسة الوحدة في الخرطوم وتسجيلها للعام الدراسي القادم.
لسنا في حاجة أن نقول أن خالها لم يكن مقتنعاً لكن مع ذلك وعلى مضض وقَّع طلب التسجيل باعتباره ولى أمرها لتبدأ خالدة إجراءات التسجيل. لم يكن الأمر سهلاً لان بين طالبات مدرسة الوحدة لم تكن توجد أية طالبة سودانية وقد بدأ أن إدارة المدرسة تتلكأ في إصدار موافقتها النهائية. لحسن حظ خالدة، فقد وجدت مساندة غير عادية من احمد يوسف هاشم ذلك الصحفي الذي كان يصدر جريدة "السودان الجديد" وعندما كانت خالدة تصارع من اجل التسجيل صادف أن احمد هاشم كان يكتب سلسلة من المقالات حول تعليم المرأة في السودان أو انعدامه. أشار احمد هاشم إلى أن هنالك مدرسة بنات ثانوية واحدة هي مدرسة الوحدة ولا توجد بها طالبة سودانية واحدة. بعد نشر تلك المقالات بمده قصيرة تلقت خالدة القبول من إدارة المدرسة لتبدأ دراستها الثانوية أحرزت نتائج ممتازة. لم يكن ذلك أمر سهلاً لأنه وأثناء سنوات الدراسة كان والدها بعيداً في الكفرة والعلمين يحارب ضمن قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. لذلك كان على خالدة باعتبارها البنت الكبرى وشقيقها أنور الذي يليها أن يتقاسما المسؤولية الأبوية تجاه اخوتهم الذين يصغرونهم.
رغم ذلك ووسط ذهول إدارة المدرسة تخرجت خالدة من المدرسة الثانوية بدرجات عالية جداً في عام 1946. بعض أعضاء إدارة المدرسة لم يصدق أنه من الممكن لطالبة سودانية أن تحقق هذا المستوى الأكاديمي العالي. بتلك الدرجات كان بإمكان خالدة أن تذهب إلى أية مدرسة تختارها لكن خالدة أبدت رغبتها في الالتحاق بالجامعة لدراسة الطب. وعندما أصبح اختيارها معروفاً بات ذلك معركة أخرى.
في ذلك الوقت كانت كلية غردون التذكارية والتي صارت فيما بعد جامعة الخرطوم ليست متاحة لكل السودانيين، خصوصاً النساء منهم. معركة خالدة الأولى كانت حول أن تضمن مساندة أسرتها. والدها كان سريعاً جداً في موافقته على مواصلة تعليمها. كان والدها قد عاد من الجبهة ويقيم في الموردة لذلك لم يكن في استطاعة أفراد الأسرة الآخرين أو كبار السن من الأقارب والجيران أن يكلفوا أنفسهم مشقة اعتراضه في قراره. المعركة الثانية كانت حول الحصول على موافقة الكلية. بعض الأساتذة التقدميين في مدرسة الوحدة استخدموا أداء خالدة الأكاديمي ودرجاتها الممتازة وسيلة للضغط على إدارة الكلية لمنحها القبول.
عندما تم قبولها في 1946 صارت خالدة أول سودانية تدخل كلية غردون التذكارية ومدرسة الطب على الإطلاق. لقد جاء القبول في وقته تماماً لأن والدها كان قد قرر إرسالها إلى مصر في حال رفض طلبها من قبل مدرسة الطب.
عائق آخر كان في مواجهة خالدة وهو كيف تستطيع أن تتعود على جدول الكلية الطويل المرهق من السابعة صباحاً حتى المساء في ذلك الوقت لم يكن بالكلية داخلية طالبات كما أنه لم يكن هنالك كبري يربط بين أمدرمان والخرطوم موقع الكلية.
سرعان ما رتب لها والدها أمر الإقامة مع صديق عمره الأميرلاي حسن الزين وزوجته فاطمة محمد عبد الرحيم ابنة المؤرخ المعروف الذي كان يسكن في إشلاق الجيش في المقرن. كان الاتفاق أن تقيم خالدة معهم أيام الأسبوع وأن تأتي إلى الموردة خلال عطلة نهاية الأسبوع. بذلك الاتفاق وجدت خالدة أن لديها أسرة جديدة واستمرت العلاقة قوية بين الأسرتين إلى اليوم.
عام 1946 كان نقطة تحول في حياة خالدة إضافة إلى أنه هو العام الذي بدأت فيه الدراسة في الكلية فقد صارت نشطة جداً في الحياة السياسية والاجتماعية في الموردة. في تلك الفترة بدأ وعيها النسوي في النمو والتطور ومما يدل على ذلك أنها قامت مع اثنتين من صديقاتها في الحي (فاطمة طالب ومحاسن عبد العال) بتأسيس جمعية الفتيات الثقافية من أجل النهوض بتعليم المرأة وتمكين الفتيات من إثراء حياتهن الاجتماعية.
في ذلك العام أيضاً التقت بأحد أصدقاء شقيقها أنور، عثمان محجوب (الأخ الأكبر لعبد الخالق محجوب السكرتير السابق للحزب الشيوعي السوداني والذي أعدمه النميري في الثامن والعشرين من يوليو عام 1971). بعد ذلك اللقاء عرفّها عثمان بالدكتور عبد الوهاب زين العابدين وفي نفس العام قاما بضمها لعضوية الحركة السودانية للتحرر الوطني والتي صارت فيما بعد الجبهة المعادية للاستعمار ثم الحزب الشيوعي السوداني بذلك صارت خالدة أول امرأة سودانية تنضم إلى منظمة سياسية حديثة.
واصلت خالدة نشاطها السياسي في الكلية وفي الحي. في عام 1948 ونتيجة للضغط المتزايد من مؤتمر الخريجين عرضت الإدارة الاستعمارية فكرة إنشاء جمعية تشريعية لامتصاص تلك الضغوط وقد احتفظ المستعمر بالحق في تعيين أعضاء الجمعية. أدى ذلك إلى تفجير معركة سياسية بين مؤيدي ومعارضي الفكرة الاستعمارية. "الجبهة المعادية للاستعمار" قادت تلك المعركة والتي صارت تعرف في كتب التاريخ "بمعركة الجمعية التشريعية". كان ميدان المعركة نادي الخريجين بامدرمان وقد نظمت فيه عدد من الندوات والاجتماعات. أعلن الحزب الشيوعي السوداني انه سيقدم خالدة كمتحدث أساسي في إحدى ندواته ضد الفكرة الاستعمارية. في ذلك الوقت كان مجرد التفكير في حضور النساء لندوة سياسية أمراً غريباً جداً فما بالك بأن تتحدث شابة في ندوة. كان الجميع في دهشة تامة وفي يوم الندوة تجمع جمهور غفير بنادي الخريجين في ظهيرة قائظة بالرغم من أن العديد من الناس كان في ريبة فقد ألقت خالدة خطبة نارية جعلت الحضور يردد شعارات معادية للاستعمار. نتيجة لذلك إعتُقلت خالدة فوراً بواسطة البوليس وأخذوها إلى مخفر الشرطة. كان ذلك اعتقالها الأول بل كانت هي المرّة الأولى التي يعتقل فيها البوليس امرأة سودانية بسبب آرائها السياسية. انتشر خبر اعتقالها بسرعة في كل امدرمان وبدأ الناس يتحدثون جهراً عن أن البوليس اعتقل "مره" لأنها تحدثت ضد الاستعمار. في ذلك الوقت كان والدها في سجن "بيت اتليت" بالقرب من تل أبيب بعد أن أخذ أسيراً في حرب 1948. عليه كان على عمها عثمان متولي أن يلتقي البوليس لبحث أمر الضمان. خشية من غضب الجماهير فقد أسرع البوليس بإطلاق سراحها بالضمان في نفس الليلة.
الاعتقال الثاني كان في عام 1950 خلال مظاهرة في حرم الكلية. هذه المرة أوضح لها عمها أن عليها أن تكمل دراستها أولاً قبل مواصلة أي نشاط سياسي. على كلٍ، فقد نجحت خالدة في التخرج في مدرسة الطب في عام 1952 كأول طبيبة سودانية. عام 1952 كان نقطة تحول في حياة خالدة الخاصة حيث عرض عليها صديقها وزميلها عثمان محجوب الزواج. مرة أخرى فقد كان عرض الزواج هذا بمثابة معركة أخرى بالنسبة لخالدة لكنها معركة ذات نوع مختلف إذ أنها تتميز بطابع عرقي حاد حيث ينتمي عثمان محجوب إلى أسرة من قبيلة الشايقية.
وكما سبق ذكره فأن مجتمع أمدرمان كان يعاني من انقسام عرقي حاد. لذلك فإن أفراد الأسرتين عارضوا فكرة الزواج بشدة. وكان لكلٍ مبرراته. عدد كبير من أفراد أسرة خالدة كان ضد الزواج لأن عثمان شايقي وهم يودونها لو تتزوج ضابطاً في الجيش أو على الأقل ابن ضابط من أبناء الجيران وليس عثمان المدرس. اعتراض أسرة عثمان كان مبرره أن خالدة مهما تكن فهي في النهاية "فوراوية ساكت". فلكلٍ أجندته الخاصة والتي لم تضع أي اعتبار لأحاسيس ومشاعر خالدة وعثمان.
مرة أخرى فأن والدها الذي كان يكن احتراماً خاصاً لمحجوب عثمان والد العريس، التقى به واتفق معه على ترتيبات الزواج دون اعتبار لمعارضة أفراد الأسرتين.
لم يحضر الزواج أي من أعمام أو أخوال خالدة كما لم يحضر أيضاً عدد كبير من أفراد أسرة عثمان، ليس ذلك وحسب بل أنهم قاطعوا والده وأسرته المباشرة لعدة سنوات لاحقة.
في عام 1952 أحست كلُُ من محاسن عبد العال، فاطمة طالب وخالدة بالحاجة لتأسيس منظمة لتوحيد وتطوير العمل من أجل قضايا المرأة. لذلك قمن بتأسيس "الاتحاد النسائي السوداني" وانتخبت خالدة أول رئيسة له.
حتى ذلك الوقت كان يبدو لخالدة أن أية خطوة اتخذتها في حياتها - والتي قد تبدو من المسلمات اليوم - كانت معركة كبرى. بدأت حياتها العملية كطبيبة بعد أن أتمت فترة الامتياز في مستشفيات امدرمان والخرطوم العامة. في عام 1954 نُقلت الأسرة الشابة إلى مديرية بحر الغزال في جنوب السودان. عمل عثمان مدرساً في مدرسة رمبيك الثانوية المنشأة حديثاً، بينما عملت خالدة مفتش طبي للمديرية وكانت مسئولة عن المساعدين الطبيين في قرى ومدن بحر الغزال.
بعد ذلك بمدة قصيرة بدأت الأسرة في الإنجاب وقد واصلت خالدة العمل بجانب تربية أطفالها. مع مضي الزمن وكامرأة متعلقة بعملها كان عليها أن تتعامل مع ضغوط الوظيفة، التعالي الرجولي من قبل بعض زملائها، إضافة إلى متطلبات أسرتها الكبيرة "والدها، والدتها، زوجة والدها وتسعة أخوان ومثلهم أخوات". هذا بالإضافة إلى الأنشطة السياسية والاجتماعية الأخرى مثل الاجتماعيات، "بيوت البكيات"، "السمايات" المناسبات الاجتماعية الأخرى. زيارة المرضى من الجيران في منازلهم أو في المستشفيات كانت متوقعه منها لأنها هي وببساطة "الدكتورة بت الحلة". مع ذلك فإنها لم تكن تتضجر أبداً بل على العكس فهي كانت ترى أن ذلك واجبها. واصلت خالدة العمل في وزارة الصحة السودانية رافضة كل العروض السخية والوظائف ذات المرتبات المجزية التي عُرضت عليها من قبل منظمات الصحة الإقليمية والعالمية.
في منتصف السبعينات ساعدت في تأسيس "مجمع صحة الأطفال" في امدرمان في المبنى الذي كانت تحتله إدارة مدرستها الإرسالية الوسطى. أخر وظيفة شغلتها كانت رئاسة قسم أمراض الأطفال في وزارة الصحة السودانية. تقاعدت خالدة عن العمل في منتصف الثمانينات. لديها أربعة أبناء "أحمد، خالد، مريم وسعاد" حالياً تعيش متنقلة بين إنجلترا، مصر والسودان.
________________________________________
[1] ظهر هذا المقال في مجلة SSA Newsletter, Volume 17, Issue # 1 1997 الإلكترونية تحت العنوان: Khalda Zahir of Almorada Village (Amir and Caron Zahir) ونسبة للمعلومات القيمة الواردة فيه رأيت أن أنقله إلى العربية لتعميم الفائدة.
التقيت الدكتورة خالدة زاهر مرة واحدة صدفة في الخرطوم في مطلع التسعينات. كان كل منا على موعد لأسباب مختلفة مع ثالث تأخر أكثر من ساعتين. لم أشعر بحالة الانتظار وقد انضم إلينا آخرون. كانت الدكتورة تحكي عن أشياء مختلفة. وقد أسرتني بسلاسة حديثها ومعرفتها الواسعة إضافة إلى تواضعها الجم. لذلك أضيف للمعلومات الواردة في المقال أعلاه أن الدكتورة خالدة زاهر "زولة وناسه جداً". معذرة لأمير وكارون في تغير العنوان أو إن كانت الترجمة دون توقعاتهم فنحن نعيش "مع" بلدٍ أنسانا - إضافة إلى أشياء أخرى - الكثير من الإنجليزية والقليل من العربية أيضاً. (ملاحظة المترجم).
* توفيت الدكتورة خالدة زاهر في 9/6/2015.
*سبق أن نشر هذا المقال في الطريق، مجلة الديموقراطيين السودانيين في جمهورية المانيا الاتحادية، العدد الاول،1997.
* أمير زاهر شقيق الدكتورة خالدة زاهر توفي قبلها بفترة وجيزة.
علي الجربيندي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.