النشيد الأول : نشيد " الزين " (1) ....... الشوارع شرايين المدينة ، أذرعتها الحانية ، تمدها لتداعب العوالم التى ترقد خارج تخومها ، مثلما تمد أم كفيفة يديها لتتحسس وجه ابنها العائد من سفر طويل. الشوارع ذواكر المدينة ، تضم في دهاليزها القصية أقاصيص عشاقها ، نضالات بنيها ضد قراصنة اليابسة ، أفراحهم حين يهل قمر الخلاص ، و صمود أكواخهم في وجه الشمس والزمهرير . الشوارع متاحف المدينة ، تحفظ تماثيل خطاها ، و مشاويرها ، وأحلامها وصبرها الجميل . الشوارع دفاتر ترصد نبض المدينة من بواكير صباها و حتى استدارة نهديها بالخيول ، و أغنياتها التى تخلد شهقات العقود بين النهدين ، و تثاؤب النجوم عند منابت الشعر . الشوارع كائنات حية ، تتنفس وجيبا ، تحمر كخدى صبية لحظة البوح ، ترقص حين يبكى عاشق على كتفى منديل محبوبته ، وتضحك دما حين تذبح قصة حب على معبد الشهوات . الشوارع تتسكع مع الباعة " على الشوارع" منتصف النهار ، تقاسمهم عشمهم وضجرهم ولعناتهم ، وتربت على أكتافهم حين يكتشفون أن " مسرورا " حز رأس الخبز . الشوارع تناغى سيارات سكارى آخر الليل ، تؤنس وحشة حراس المدينة النبلاء و هم يحادثون ظهور خيولهم ،و تتشارك المواويل مع السيارات القادمة فجرا محملة بما جادت به أرحام الجروف . الشوارع تبصق حين يقرأ جنرال ما بيانه الأول فى المذياع ، و تجأر بالثورة حين يتصبب العرق . الشوارع ضفائر المدينة حين يلف النهر خاصرتها في شغب لا تراه سوى موجة مراهقة ، أيدى الوردة و هى تلوح للجزيرة بموعد قريب ، و خطاب تحمله المراكب لقاع النهر المتخم بالأسرار من شجرة تتثاءب فى حديقة عامة . الشوارع زهاد المدينة ، تصلى مع المساجد و الكنائس ، ترتل أناشيد السرور البهى ، و تجثو على ركبتيها في خشوع حين يقرأ حاكم المدينة قصيدة عشق للتراب . الشوارع ترقص في باحات الأفراح ، تضع العطور فى حقائب العرسان ، وتبارك للنهار مولوده الأول. الشوارع تعبئ عيونى بالشمس ، و بيادرى بالقمح، و ربوعى بالخيول و رئتى بالمطر . الشوارع الوجود! ....... النشيد الثانى : نشيد " الفريد بروفروك " (2) الشوارع أوراق يابسة تساقطت من شجرة المدينة ، ديدبانات بلهاء ، تثرثر مع الأعمدة الخرصانية ، مثل عجائز يتسلين بسرد الفضائح في صالون أرستقراطى بارد . الشوراع أرقام يكتبها سجين على جدران زنزانته ، أسئلة بليدة تتناثر على ساحات المدينة و آثار سنابك خيول الوجع .الشوارع كائنات بوهيمية ، تعانى ألسنتها من فقدان ذاكرة أبدى ، كائنات لم تمارس النشيد المقدس في منتصف فرح الغاب ، و لا الرقص بعرى تحت سياط المطر الحريرية .الشوارع أقوام لم تشهد تراتيل الحصاد ، لم تسمع لثغة طفلة الشمس وهى تنادى الكون من مهد الشرق ، ولم تصطلى أناملها بوهج لحظة العناق . الشوارع جزء من لوحة منسية خرساء ، تكاد حين أسير علي ترابها الميت أشك في وجود قدمي . الشوارع تفال المدينة فى وجه الكون ، صوت صراخها في وجهه (إثر معركة وهمية ) ، و حمحمة الخيول الهمجية التى تقتلع الأشجار ( فلا يجد العصفور المسافر استراحة يحتسى فيها كوب شاى ) . الشوارع تقطيبة على جبين المدينة الشاحب ، بثور فى جسدها المتغضن رهقا ، و كحتها الفاترة من جراء الجلوس على مقاهى الإنتظار البليد . الشوارع دكانة المدينة التى تختزل في رفوفها صياح السائقين الذين لا تكاد جلابيب حلمهم تبلغ منتصف ساقيه .الشوارع عيون المدينة المفقوءة التى لم تر سوى الظلمة الأبدية ، "كوابيس بيروتها " الليلية النزقة ، صحاريها المتغلغلة فى أحشاءها الميتة وصوت شفتيها المقزز و هما تتلمظان خمرة الصمت !! ...... النشيد الثالث : نشيد مهدى يوسف ! الشوارع ( أعراف ) ، تقبع منتظرة ، بين شوراع خضراء و أخرى حمراء !! ............... جدة 13 مايو 2017 الساعة التاسعة مساء ..... هوامش : (1) الزين : بطل رواية "عرس الزين " للطيب صالح (2)الفريد بروفروك : الشخصية التى ابتكرها "تى اس اليوت " فى قصيدته الشهيرة " The love song of J.Alfred Prufrock " [email protected]