هذه ليست حقيقة الشعب السودانى عبدالمنعم عثمان شكرا للدكتور حيدر والاستاذ عسكورى على اثارة هذه القضية الهامة ، التى يمكن تلخيصها بما جاء فى مقال الاستاذ عسكورى تعليقا على مقال الدكتور حيدر بعنوان " تلك هى حقيقتنا يا د. حيدر "، حيث يقول انه كان مقتنعا ببرنامج الحركة الشعبية للسودان الجديد ، ولكنه لاحظ ( ان الفكرة تجاهلت لسبب أو آخر حقيقة ان المجتمع السودانى مجتمع مريض يعانى من مرض عضال يتجسد فى الجهل والشوفينية ، النفاق والكذب والتدليس وخداع الذات وحالة الانكار للواقع والادعاءات الجوفاء والاعتقاد فى الخرافات والاوهام . هذه الصفات مشتركة بين " المركز والهامش " وبين " اليسار واليمين ". غير ان الاستاذ ، ولحسن الحظ ، كان قد ذكر قبلها تعليقا على د. حيدر ، انه ( لم يفهم ما هو غير الواقعى فى السودان حاليا . فالترهات والخرافات واساطير الاولين التى يهرف بها بعض مؤتفكة حسن الترابى ، ظلت لقرون تشكل الوعى العام ) مثلما جاء فى كتاب "طبقات ودضيف الله ". ويبدو ان الثلاثة عقود التى مرت والانقاذ يجثم على صدر الشعب السودانى من غير ان يظهر للناس مايدل على قرب النهاية ، بل هم ربما يرون ان النظام يكسب ارضا جديدة كل يوم والمعارضة فى حالة تشتت وعدم كفاءة وفعالية ، يبدو ان هذه الحالة هى التى جعلتنا نبحث عن سبب لهذا الوضع القاسى والمستمر . وارجو ان يسمح لى الاساتذة بالاختلاف الذى لايفسد الود ، بل ربما يجعلنا جميعا نجتهد فى العثور على سبيل للانقاذ من الانقاذ ! بدء اتفق على ان هذه الصفات الذميمة المذكورة قد تكون موجودة – حاليا – ولكن ليس بالتعميم المذكور على كل المجتمع السودانى وسادلل على ذلك لاحقا ، والاهم من ذلك فهى ليست وقفا على الشعب السودانى وانما على كثير من الشعوب من حولنا ، بل واكثر من ذلك انها كانت موجودة لدى الشعوب المتقدمة حاليا فى وقت ما من تاريخها , وذلك لانها مرتبطة بالتخلف الاقتصادى والاجتماعى " underdevelopment " . وهى تحدث ايضا فى المجتمعات المتقدمة فى مرحلة الافول ! ولو عدنا فقط لتاريخ السودان الحديث جدا ، منذ الاستقلال وحتى اليوم ، لوجدنا اننا كنا نسير القهقرى فى كل عام من ناحية التطور الاقتصادى ، ومعه يتقهقر التطور الاجتماعى وتظهر الآفات التى ذكرها الاستاذ عسكورى . فقد ترك لنا المستعمر خدمة مدنية على مستوى عال من الكفاءة ، وبعض الاسس للتطور الزراعى والصناعى التى كانت مهندسة لخدمة مصالحه ، وكذلك فى مجالات التعليم والصحة . فماذا فعلنا بهذه الاسس بعد الاستقلال؟ حكومتنا الاولى كان شعارها تحرير لا تعمير ! ومع ذلك فقد قامت بعض المشاريع الزراعية الحديثة وبعض الصناعات فى العهود المختلفة التى مرت بالسودان ، ديموقراطية وعسكرية ، الى ان بدأت الطامة الكبرى على العهد الاخير لحكم نميرى وذلك تحت تأثير جماعة الانقاذ بقيادة الترابى . عادت الحرب الاهلية باقسى مماكانت ، وبدأ تدمير الصناعات المحلية ، والمؤامرة على مشروع الجزيرة وتخريب السكة حديد ، وقبل كل هذا تدمير التراث الحزبى الديموقراطى بفرض نظرية الحزب الواحد ..الخ .ثم تقدمت الجماعة كثيرا بعد انتفاضة ابريل وذلك بمعاونة المجلس العسكرى والحكومة الانتقالية ، ثم بالمواقف المهزوزة لحكومة الصادق المهدى من الجماعة : قوانين سبتمبر لاتساوى الحبر الذى كتبت به ! عشرة اسباب لعدم التعاون مع الجبهة الاسلامية ! ثم التحالف معها فى حكومات مشتركة ! واخيرا ترك الحبل لها على الغارب لتحضر لانقلابها " على عينك ياتاجر ! فماذا فعلت الانقاذ؟ التفاصيل معروفة للجميع ولاضرورة لتكرارها ، ولكنى سأركز هنا فقط على ما اعتقد انه قد ادى الى ظهور كل ماذكره الاستاذ عسكورى ،وذلك للتدليل على انه ليس اصلا من اصول صفات المجتمع وانما هو ناتج للتخلف الذى جرتنا اليه الانقاذ جرا : - انتهت كل الصناعات الاساسية : الزيوت والصابون ، الغزل والنسيج ، الصناعات الغذائية ..الخ - قضت على ماابقاه نميرى من السكة حديد والنقل النهرى والمخازن والمهمات ..الخ - قضت على مشروع الجزيرة وغيره من المشروعات المروية - التعليم وما ادراك .. - الصحة ، بالاضافة الى ماهو معروف ، عادت امراض كانت منظمة الصحة العالمية قد اعلنت نهايتها فى ستينات القرن الماضى مثل الملاريا . وكانت النتيجة لكل هذا على المجتمع السودانى : الرجوع الى القبيلة كبديل للحزب والنقابة ومنظمات المجتمع المدنى الحقيقية . اصبح التنافس بين الناس للحصول على الوظيفة او العمل الحر او حتى السفر للحج يقوم على اساس الانتماء القبلى او الحزبى الذى لاشريك له ! اصبح الشباب يجد سلواه فى المخدرات واشكال تغييب العقل الاخرى او الانضمام الى داعش وبوكو حرام ! اصبح اكل العيش غير ممكن الا بتلك الانتماءات او بالفعل الحرام ! فاذا كان الامر كذلك ، وهو فى الحقيقة أسوا من ذلك ، فماذا ينتظر اساتذتنا من ذلك الجزء من المجتمع ، وليس كل المجتمع ؟! يقول الاستاذ عسكورى :( جماعة الترابى لم تهبط من السماء ، وانما خرجت من بين ظهرانينا ، ولذلك علينا ان ندرس لماذا تخرج من مجتمعنا تلك النفوس والعقول المشوهة ؟) الرد : هذا لايحدث عندنا فقط ، بل يحدث لدى كثير ،ان لم اقل كل شعوب المجتمعات المتخلفة اقتصاديا . وهنا اطلب من اساتذتنا ولو مثال واحد لشعب متخلف اقتصاديا ولاتوجد فيه مثل تلك الصفات المنسوبة الى الشعب السودانى على وجه الخصوص ؟ غير ان هناك من يستغل جهل الشعوب أو ايمانهم ليمرر اجندته حتى فى حالة بعض الشعوب المتقدمة اقتصاديا ، مثلماحدث فى حالة المانيا الهتلريه وما يحدث امام اعيننا فى حالة امريكا الترامبية ! ولعلكم سمعتم تصريات السيد ترامب عن البترول العراقى ، حيث يقول : العراقيون لايستحقون بترولهم ولذلك نحن سنأخذ ماقيمته تريليونات من الدولارات من البترول مقابل تقديم الحماية لهم ! وهو مبدا قد طبق بالفعل على البعض . اما فى حالة جماعة الترابى فهى لم تخرج من بين ظهرانى المجتمع السودانى ، ولكنها خرجت من بين ظهرانى الفهم المغلوط للاسلام من الشيخ الترابى ومن سبقه من جماعة الاسلام السياسى من امثال سيد قطب . ذلك الفهم الذى يمكن تلخيصه فى الجملة القرآنية الكريمة : يقولون ملايفعلون . ولعل الدكتور حيدر يذكر المناقشة التى تمت فى العام 1992 بعد فطور رمضانى عند السيد محمد الحسن يس – طيب الله ثراه – حول اجهاض انقلاب الاسلاميين فى الجزائر ، والتى كان رايى فيها انه كان من الافضل ان يتركوا ليمارسوا الحكم ، لانه عندها فقط سيتضح للعالم : انهم يقولون مالايفعلون . ولعل التجربة القاسية التى مر بها المجتمع السودانى مع جماعة الاسلام السياسى تكون نبراسا لكل شعوب العالم فى المنافحة وهى تقدم قوائم الفضح لهؤلاء الجماعة، وهى فى نفس الوقت تمثل شرفا للشعب السودانى الذى لم يستكين منذ اليوم الثانى للانقلاب ، والادلة على ذلك ستتوفر فى مقالى القادم باذن الله . عبدالمنعم عثمان