عندما تنتشر ظواهر مثل العطالة والفقر والتشرد والتسول والجريمة في الدولة، فلا بد أن هناك مشكلة اقتصادية كبيرة تؤكد أن الدولة متوقفة عن الإنتاج، وحين نكتشف أن بلدا مثل السودان قد توقف عن الإنتاج، وأصبحت تلك الظاهرة تشكل كابوسا للدولة فلا شك أن الخلل في الحكومة والقائمين على أمرها؛ إذ ليس هناك سببا آخر؛ فهو بلد معطاء، تتوفر فيه كافة الأسباب التي تجعله آمنا اقتصاديا؛ فهو قادر على ضمان الحياة الكريمة لكل مواطنيه حتى إن كانوا يعيشون بلا حكومة. أمس أعلنت وزيرة الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم أمل البيلي أن ظاهرة التسول أصبحت كابوسا يؤرق العاصمة، بعد أن فشلت كافة الجهود الولائية في القضاء عليها أو الحد منها، وأن 85% من المتسولين أجانب، و90% من خارج الخرطوم، وأن وزارتها اتجهت إلى الاستعانة بالجهود المركزية لمساعدتها. وزيرة الرعاية مثلها مثل كل وزراء الحكومة يعتقدون أن مشاكل ولاياتهم يمكن أن تعالج منفردة عن مشاكل السودان الكلية رغم أن سببها الأساس له علاقة بسياسات الحكومة الكلية تجاه السودان، ولم تستفحل مشكلة التسول إلا بعد أن انهار القطاع الزراعي، الذي كان يعمل فيه أغلب الشعب السوداني، وحين جففت الحكومة كل المشاريع الزراعية، التي كانت توفر الاستقرار لم يبق المواطنون في أماكنهم ينتظرون الموت، بل هاجروا بحثا عن الحياة، وقد كانت الهجرة إلى العاصمة، والبحث عن عمل فيها هو أقرب الحلول ، وحين تضيق الخرطوم- أيضا- عليهم، ويصبح العمل أعز ما يبتغى، مع انعدام الرعاية الحكومية لا بد من امتهان التسول، ومعه مهن أخرى لم تذكرها الوزيرة. الوزيرة أمل البيلي، وكل وزراء حكومتها حين تفشل خططهم الفردية يخرجون إلينا، ويشكون لنا أن المشكلة الفلانية قد أصبحت هاجسا، وفي الحقيقة هم الهاجس؛ لأن تلك المشاكل يمكن حلها في سنوات قليلة، لكن تفكيرهم القاصر لا يرى إلا ما تريد أن تراه نفوسهم حتى لو كان خطأ مدمرا، فيصرفون ملايين الدولارات في برامج لا تشبع، ولا تغني من جوع، فمشاكل التسول والتشرد والفقر والإجرام مشكلة أصلها واحد، وأسبابها قومية، وحلها قومي، إما التنمية، وتحريك عجلة الإنتاج، أو استمرار تفاقمها، فليس هناك أحد يختار أن يكون متسولا، وهو يملك كل أسباب الحياة الكريمة. مثلما امتهن الكثيرون التسول هناك من امتهن السرقة والإجرام بكافة أنواعه، ومهنا أخرى يندى لها الجبين، ولنفس الأسباب التي دفعت الآخرين إلى التسول، لكن الوزيرة لم تشكُ منهم؛ لأنهم لا يوجدون على قارعة الطريق، منهم من في السجون، ومنهم من ينتظر؛ ولذلك لا تتحدث عنهم رغم أنهم هاجس أكبر من المتسولين. التسول مشكلة لها علاقة بالفقر وعدم الاستقرار، وهي مشكلة لا تعالج إلا بسياسات اقتصادية اجتماعية قومية، وعلى إثرها تعالج كل الظواهر الأخرى، وبغير هذا- إن استنجدت أمل البيلي بكل العالم- فلن تجد حلا، وعليها أن تفهم أن المتسولين لا يشكلون هاجسا للدولة بقدر ما تشكله طريقة تفكيرها هي وحكومتها في علاج المشكلة، فهنا الهاجس الحقيقي. اسماء محمد جمعة التيار