روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طفلٌ في العاشرة يُصبح مستشارا للسيد الرئيس!
نشر في الراكوبة يوم 27 - 06 - 2017

استيقظ السيد الرئيس على صوت جلبة ضاع معها صوت البلبل الأخير الذي بقي من مجموعة البلابل التي كانت تضئ فناء القصر وحديقته بغنائها، قبل أن تكتسحهم احدى العواصف المدارية التي اقتلعت ايضا أشجار اللبخ القديمة في شارع النيل وألقتها في النهر. وتعين استنفار شرطة الانقاذ النهري لانقاذ عشاق الساعة الرابعة بعد الظهر الذين كانوا يجلسون تحت اشجار اللبخ حين إكتسحتهم العاصفة. كلما مضت عمليات الانقاذ كان عدد الموتى في مجزرة الحب يرتفع، حتى وصل الى مائة عاشق. لم ينج سوى عاشق وحيد، تعلق بجذع شجرة لبخ، كان عاشقا محظوظا، أمر السيد الرئيس بمنحه وسام إبن الوطن البار، وإقامة مهرجان سنوي لتأبين ضحايا الحب يحمل إسمه. تساءل أحد المستشارين عن الانجاز الذي حققه الناجي الوحيد من مجزرة الحب المدارية بخلاف بقائه على قيد الحياة، ليستحق الوسام الرفيع. إستفزه السؤال فلم يكتف فقط بتكريمه لبقائه على قيد الحياة، بل أصدر قرارا بتعيينه مستشارا، توجد دائما وظيفة مستشار شاغرة حتى إن بلغ عدد مستشاريه ألف مستشار. كلما إرتفع صوت رصاص الانقلابيين في الخارج، كان يشعر بالارتياح لقراره بتعيين المستشار الجديد، كأنه تميمة ضد الموت، بصموده في مواجهة إعصار إستوائي بسلاح الحب.
وصل المستشار الجديد في اليوم التالي، وفي حفل أداء القسم، إعتقد رجال المراسم أن هناك خطأ ما، فقد جاء صبي صغير، ترافقه والدته. لا يتجاوز عمره العشرة أعوام! أدى له الحرس التحية، كان يرتدي زي الكشّافة، وربطة عنق زرقاء وينتعل حذاء رياضيا خفيفا! أخرج عود حلوى المصاصة من فمه حتى يستطيع ترديد نص القسم خلف أحد رجال المراسم. إنه المستشار الوحيد الذي بلغ الرشد أثناء شغله للوظيفة، بعد أداء القسم تناول الافطار هو ووالدته مع السيد الرئيس، وحكى كيف نجا من الغرق في العاصفة، كان واضحا أنه متاثر ببعض قصص الأطفال، فقد حكى كيف أن طائر الرخ الذي حملته العاصفة هو الذي إختطفه من براثن الأمواج وحمله الى جزيرة بعيدة، وظل طوال أيام يطعمه مع صغاره، في أثناء قصته كان يحكي أيضا بعض حكايات المدرسة والمقالب الصغيرة التي يدبّرها لزملائه.
خارج غرفة نومه وجد أحد رجال الشركة الوطنية، أوضح له أن هناك زوارا سيبقون لبعض الوقت في القصر لتأمين حراسته وحراسة المدينة، حيث بعض حركات التمرد تتجه نحو العاصمة. إعتقد الرئيس ان الحديث يدور حول فرقة تابعة للجيش، لكنه وجد في الخارج عددا مهولا من الرجال الغرباء يملأون كل مكان، نصبوا خيامهم في الحديقة وربطوا جيادهم في فروع اشجار الجهنمية وورد الحمير، كانوا مع نسائهم وأطفالهم تناثرت اسلحتهم في كل مكان، لم يستطع تبين صورة المكان جيدا بسبب دخان الشواء،ورائحة غائط الاطفال. كانوا يتغوطون في البداية تحت اشجار المانجو لكن الشركة الوطنية قامت بتركيب مراحيض متحركة في الحديقة. يمارسون الحب في كل مكان مجرد أن يرخي المساء سدوله وينام الاطفال، تصبح الحديقة مساء عبارة عن أضخم غرفة نوم في العالم. يختلط صوت أجهزة الراديو العالية التي تذيع نشرة اخبار الساعة الثامنة مساء مع أصوات الحب المعلن.المكان عبارة عن مخيم كبير يحوي مئات الخيام، لكن الخيام من قماش خفيف لا يخفي صوتا. نشرة الثامنة مساء يغلب على أخبارها في العادة إذاعة أسماء الاشخاص الذين توفوا على إمتداد الوطن في ذلك اليوم، وبسبب كثرة الكوارث الوطنية تستغرق نشرة اذاعة الموتى وقتا طويلا يمتد أحيانا لعدة ساعات. لكن تأوهات ممارسة الحب في حديقة القصر يكاد يطغى على أخبار الموت، ويشيع في الجو أملا أن كل الموتى سيمكن تعويضهم بأحياء جدد بسبب ضراوة معركة الحب الليلية لهؤلاء المحاربين.
في الصباح ينقسمون الى مجموعات، مجموعة تواصل تدريباتها ومجموعة تحرس القصر والوزارات القريبة ومجموعة تنطلق لشراء إحتياجاتهم من سوق المدينة الرئيسي. الحقيقة انهم كانوا ينهبون إحتياجاتهم، الاشياء المعروضة بمائة جنيه يشترونها بجنيه واحد. يصادرون بعض أنواع البضائع بحجة عدم مطابقتها لمواصفات وزارة الصحة! رغم أنه في الحقيقة لا توجد وزارة للصحة منذ ان إستولت الشركة الوطنية على حكم الوطن سيدي الرئيس! ينتشرون في المطاعم الشعبية يأكلون كل شئ، مثل الجراد، ملاح التقلية بالكسرة، وشواء لحم الضأن، والكمونية. حين يقدم لهم الحساب يقولون سندفع لكم نهاية الشهر حين نتسلم مرتباتنا! لا أحد يعلم متى تحل نهاية الشهر هذه! حين يفرغون من الاكل يجلسون لشرب الشاي تحت أشجار اللبخ والمهوقني العتيقة، يضعون مدافع الكلاشينكوف بجانبهم.
ذهبوا الى الانادي وشربوا جميع الخمور المحلية والمستوردة، ناموا مع العاهرات الوطنيات، والعاهرات الأجنبيات، أظهروا حبهم للوطن من خلال تفضيل معظمهم للعاهرات المحليات على الأجنبيات. الحقيقة أن العاهرات الوطنيات كن يصبرن على عدم الدفع نقدا قبل ممارسة الحب، أما الاجنبيات فكن يشترطن الدفع مقدما، ولا يقبلن الشيكات. لتحاشي الزبائن الذين يمتنعون عن الدفع بعد الحصول على حصتهن اليومية من الحب. ولأن من المستحيل إجبار زبون مسلح ببندقية كلاشنكوف يحتفظ بها على ظهره حتى أثناء ممارسة الحب،على الدفع، قامت معظم العاهرات الأجنبيات بإستخدام بطاقات الدفع المقدم، يقوم العاشق بشحن رصيده من ماكينة صغيرة توجد في مدخل غرفة العاهرة. ثم يضع البطاقة في جهاز صغير بجانب سرير الحب. حين يفرغ الوقت المحدد مع نفاذ رصيد البطاقة، يصدر الجهاز صفيرا متقطعا، فتختفي العاهرة من تحت الزبون. الذي يكتشف اثناء جنون الحب أنه يضاجع الفراش، فيسرع عاريا ساحبا على الأرض عضوه الذكري ليعيد شحن بطاقته في الخارج! إنتهى الأمر بالجنجويد الى الاشادة بصبر العاهرات المحليات، ومثابرتهن في خدمة الزبائن بعيدا عن تعقيدات التكنولوجيا ومهزلة عدادات الحب التي تشفط المال دون رحمة. أعلن أحدهم: دائما يصفّر الجهاز معلنا إنتهاء رصيد الحب في الوقت الخطأ، وكأنني أضاجع جهاز التليفون المحمول، يجب أن أتحدث بحساب، لكن رصيد التليفون حين ينفد لا يكون مؤلما بعكس رصيد الحب! أعلن محارب آخر: سيكون الزواج أرخص من هذه الماكينة الشيطانية التي تبتلع المال، لقد إعتدنا على أن ممارسة الحب هي أرخص شئ أثناء الحرب، الآن في هذه المدينة العجيبة أصبحنا نحارب فقط لكي ندفع تكلفة ممارسة الحب!
حين يدخلون الى الانداية كانوا يأمرون فورا بإغلاق الباب ورفع العلم الأسود: الإنداية كاملة العدد. يشربون كل شئ، حتى تضطر صاحبة الانداية لإضافة الماء لشراب المريسة. لكنهم يكتشفون الغش بسرعة ولا يدفعون ثمن الشراب المغشوش! يطلبون مغنين وفرقة موسيقية، ويغرقون المكان بالنقود! تقول صاحبة الانداية حين ترى فئات العملة الكبيرة التي لم ترها أبدا من زبائنها السكارى الفقراء: هل هذه نقود حقيقية؟ وتطلب من بناتها الحذر: يقولون أن السوق ملئ بالعملة المزورة!
يضحك أحد السكارى الفقراء ويقول: اطمئني لن يجرؤ احدهم على تزوير عملتنا الوطنية ببساطة لأن طباعة ورق مزور سيكلف أكثر من قيمته حتى لو إختار المزور طباعة اعلى فئة من العملة! يوضح لها: إرتفعت أسعار الورق والحبر وتكلفة الطباعة وإنهار سعر العملة!
تفضل صاحبة الانداية أن تعود للتعامل مع زبائنها الفقراء، على الأقل هي تحفظ أوراق العملة الصغيرة التي يحملونها. يلقون بثرواتهم الصغيرة تحت رجليها ، كأس واحدة تكون كافية ليفقد زبائنها القدامى الوعي، يستغرقون بسرعة في النوم، لا تخسر كثيرا في خدمتهم حتى لو لم يدفعوا لها حسابها، يقولون دائما حين توقظهم في آخر الليل ليذهبوا الى بيوتهم: نستمتع بالنوم هنا أكثر من النوم في بيوتنا، نشعر هنا بالأمان أكثر! بينما السكارى المسلحين، يعبون الشراب دون أن تهتز رموش أعينهم، كأنهم يزدادون وعيا كلما غرقوا حتى قاع أجسادهم في الشراب. لا يرتكبون خطأ واحدا، في بعض الأحيان حين يزور بيتها سكير عابر، يفقد وعيه بعد أن يعب عدة أكواب من الشراب، حين يدفع لها يخطئ في الحساب ويدفع لها كثيرا، اذا أخطأ ودفع أقل مما شرب تنبهه صاحبة الانداية بسرعة، لكنه حين يخطئ ويعطيها أكثر لا تنبهه أبدا. اما السكارى المسلّحين فلا يدفعون قرشا واحدا أكثر . ذات مرة دفع أحدهم ثمن الشراب ونسبة لأنه لم يكن معها في تلك اللحظة نقود من فئة أقل لتدفع له بقية نقوده طلبت منه أن يعود فيما بعد. لاحظت بفرح إنه أفرط في الشراب، وخمنّت إنه سينسى بقية حسابه، أشارت لبناتها ليخلصن في خدمته بأقوى نوع موجود في تلك الليلة من الشراب، سيجعله ينسى حتى إسمه وليس فقط بقية حسابه. في نهاية السهرة لاحظت إنه استغرق في النوم، فتأكدت أنّ بقية النقود أصبحت ملكها، أيقظه رفاقه فجرا مع أول خيوط الصباح فقد بدأت وردية حراستهم للقصر الجمهوري، ما أن إستيقظ وفتح عينيه، حتى نادى على صاحبة الانداية قائلا:
اعيدي لي يا امرأة نقودي، سبعة وستون جنيها !
محبوسا في غرفته يستمع الى أصوات غنائهم، وصراخ أطفالهم أمضى السيد الرئيس ليالي الشتاء. الجو معتدل في الخارج لكنه لم يجرؤ على الذهاب وحده الى الحديقة، الا في مرة واحدة أصر فيها قائد الجنجويد على أن يرى الرئيس خيوله الأصيلة. قائد الجنجويد الذي سمع من طبيبه انه كان استاذا جامعيا في إحدى الجامعات الاقليمية. قبل أن يستقيل ويقوم بأنشاء هذه القوة، التي كانت تقوم بحفظ الأمن في القرى البعيدة المعرّضة لضربات حركات التمرد، كما أن القوة كانت تقوم بمحاربة اللصوص وقطاع الطرق وتأمين طرق القوافل التي تنقل الملح من وادي النطرون وتنقل البضائع الى الدول المجاورة، كما تقوم بحل النزاعات القبلية التي تفاقمت بسبب الجفاف، حتى إقتحم على السيد الرئيس غرفته بعد أيام من وصولهم الى القصر، كان يبدو قد شرب كثيرا تلك الليلة، كان يبحث عن أحد رجاله. حين وجد نفسه في غرفة النوم الرئاسية، رفع الرئيس وجهه معتقدا أن حارسه يريد شيئا ما. فرأى رأسا ضخما تطل منه عينان كبيرتان تحدقان فيه، سأل الرجل السيد الرئيس : من أنت وهل لديك تصريح لدخول القصر الجمهوري؟
رفع السيد الرئيس جسده من الفراش وقال مندهشا: هل لا تزال تعمل حتى هذا الوقت المتأخر؟ أم أنك معتاد على إقتحام غرف النوم وسؤال كل نائم عن إسمه وتصريح وجوده في فراشه؟
لم يسمع الرجل كلام السيد الرئيس كله فقد أغلق الباب فجأة وعاد الى البهو، وجده الرئيس نائما على الأرض في البهو أمام غرفته فوق بركة صغيرة من البول والقئ. قام السيد الرئيس بحمله الى الحمام، لحسن الحظ أن الرجل لم يكن ضخم الجثة رغم حجم رأسه الكبير، ساعده في الحمّام على نزع ثيابه وفتح الماء فوقه. أحضر له جلبابا نظيفا ومنشفة ، ثم ذهب لتنظيف البهو، بحث عن أدوات النظافة حتى عثر عليها في المطبخ، إستخدم الممسحة وسائل الكلور لتنظيف الأرض، بعد أن أعاد الأدوات الى مكانها قام بوضع إبريق القهوة فوق الموقد بعد أن وضع مسحوق القهوة والماء. في البهو وجد قائد الجنجويد جالسا في المقعد وقد بدا عليه بعض الانتعاش وإستعاد شيئا من هيبة سلطته. شربا القهوة وأكلا بعض حبات الزلابية، قبل أن يرتفع صوت آذان الفجر في الخارج، لم يعرف السيد الرئيس إن كان الأذان يرفع في الوطن أم في وطن آخر، قال مبتسما: كانت سهرة رائعة!
قال قائد الجنجويد: شربت خمورا أجنبية، ذهبنا كعادتنا الى بيت شراب، كنا نذهب يوميا ونشرب حتى الصباح دون أن يحدث شئ. أمس مساء بعد أن شربنا كمية من الشراب المحلي الردئ، شكوت من رداءة الشراب، كأننا نشرب ماء ملوثا له طعم القئ. أحضر أحدهم زجاجة ويسكي وضعها على المنضدة أمامي وقال: هذا شراب إنجليزي! قلت ما دام شرابا انجليزيا لابد أنه أجود شراب على وجه الأرض، شربت من قبل خمرا إنجليزية لكن إتضح فيما بعد أنها مغشوشة لم تكن سوى خمر حبشية تم إفراغها في زجاجة ويسكي وإغلاقها جيدا. إعتقدت أنه سيكون نفس الشراب وضعت الزجاجة في فمي ولم أعدها الا وهي فارغة، لم أشعر بتغيير سوى أنني شعرت كأن أحدهم وضع شجرة تبلدي فوق رأسي! وفجأة وجدت نفسي هنا، يبدو أن رجالي أحضروني الى خيمتي لكنني لم أستطع النوم بعد ذهابهم فحضرت الى هنا. يا للكارثة إنها خمر إستعمارية حقيقية، يبدو أن هؤلاء الانجليز هزمونا بواسطة هذه الخمر القوية، فلم نستطع مقاومتهم! حين نذهب لإصطياد القرود في الغابات، نضع لها مشروب المريسة في أوعية كبيرة تحت الأشجار ونختبئ، تسكر القرود وتنام في مكانها بجانب الخمر، حين تستيقظ تكون قد أصبحت ملكا لشخص ما. يفعل المستعمرون الشئ نفسه، لكنهم يرسلون لنا خمرا في زجاجات جميلة، والمشكلة نحن لا نشرب قليلا مثلهم، نريد دائما إثبات رجولتنا، كل شئ نقوم به نحوّله الى معركة أخرى، يجب أن ننتصر فيها بأي ثمن.
بدا سعيدا بالعبارة الحكيمة التي قالها، وممتنا لكوب القهوة، حتى أنه طلب من السيد الرئيس كوبا آخر، كأنه شعر أن نبع حكمته الانجليزية سيستمر في التدفق مع المزيد من أكواب القهوة، عاد السيد الرئيس الى المطبخ ليضع إبريق القهوة مرة أخرى فوق الموقد. كان يسمع صوت قائد الجنجويد الذي لم يتوقف عن الحديث وكأنه كان موجودا بجانبه، يبدو أن تأثير الخمر الانجليزية لا يزال قويا.
الأكل الذي نتناوله في هذه المدينة ليس مغذيا بالقدر الكافي، قال قائد الجنجويد بسرعة، قبل أن يعترف دون مجد: حين كنا نسرق الحمير وننهب قطعان البقر والضأن كان حالنا أفضل، كنا لا نبدأ الشراب قبل أن نذبح أضخم خروف سرقناه ونعلقه سالما بعد تنظيف بطنه، فوق النار.
قال السيد الرئيس: لكنك كما سمعت كنت مدرسا..
قاطعه قائد الجنجويد: لا توجد مدرسة في منطقتنا، ذهبت الى مدرسة مرة واحدة في حياتي. حين نهبنا مدرسة في إحدى المدن البعيدة، لم نجد شيئا يستحق النهب. لا توجد ولا حتى مقاعد للتلاميذ، يجلسون فوق حصائر السعف على الأرض. وجدنا كتبا قديمة إهترأت من فرط الاستعمال طوال سنوات، ووجدنا أقلاما من القصب. لو كنا نعلم أنها مدرسة لما أقدمنا على دخولها، كنا نظن إنها إحدى مؤسسات الحكومة التي تجبي أموال الناس، من يريد إضاعة وقته فليذهب الى مدرسة!
وهل صحيح أنكم أحرقتم القرى وهاجمتم المدنيين؟
تردد قائد الجنجويد قليلا، نظر حواليه، ثم نظر الى ساعته، ثم تأكد من وجود سلسلة مفاتيحه ومحفظته في جيبه. كأنه يخشى من شئ ما لا يستطيع تحديده، لكن الخمر الانجليزية كانت لا تزال تعطّل كوابح الحذر والخوف.
قال : أحيانا بسبب الشك في وجود متمرد واحد كنا نشعل النار في قرية كاملة، حين يخرج الناس نستطيع تمييز المتمرد بسهولة. إنها الحرب، طبيعي أن يموت بعض الابرياء، كان بإمكانهم الخروج قبل أن تصلهم نيران الحرب. بإمكانهم ايضا طرد المتمردين من قراهم. أحيانا كنا نحرق المحاصيل الزراعية أيضا، لا يمكنك ضمان أن جزءا من ثمنها لن يذهب لدعم التمرد ضد الدولة. لابد من إجتثاث التمرد من جذوره! لكننا في النهاية ننفذ التعليمات. نحن مجرد جنود!
كيف تكون مجرد جندي وأنت تعمل أو تتوقف من العمل حينما تريد؟
نحن مثل جنود الجيش ننفذ الأوامر، لكننا حين لا نقبض مرتباتنا نتوقف عن العمل. الدولة لم ترسلنا الى الكلية الحربية أو تدربنا على الحرب، تعلّمنا ذلك بأنفسنا. ورغم ذلك نعمل في خدمة الوطن، لكننا لن نستطيع خدمته حين تكون بطوننا خالية وحين لا يوجد في جيوبنا ما نشتري به خبزا أو دواء لأطفالنا.
من رواية الحب في زمن الجنجويد.
صفحتي في الفيس بوك:
https://www.facebook.com/ortoot?ref=aymt_homepage_panel


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.