أشرنا في مشاركةٍ سابقة إلى واقعِ انفصالٍ قائمٍ بين الجنسين، متمثِّلاً في وصفِ الطَّيِّب صالح لممارسةِ شعيرةٍ دينية، في قريةٍ بشمال السُّودان؛ وسنحاولُ في هذه المشاركة تسليطَ بعضٍ من الضَّوء على نماذجَ نسائيةٍ ثلاثة، حاولَ كلٌّ منها، في أزمنةٍ متباعدة، وأماكنَ متباينة، أن يخطو خطوةً حاسمة نحو تقريبِ الشُّقة القائمة بين الجنسين أو ردم الهوَّة التَّاريخية التي تفصل بينهما. وتكثُر الأمثلة لرائداتٍ عمِلن ضمن حركةٍ سياسية واسعة، وحقَّقن نتائجَ باهرة باتِّجاه الوصول إلى الهدف، وهو المساواةُ في الحقوقِ بين الجنسين؛ إلَّا أنَّ هناك مَنْ عمِلن ضد التَّيار السَّائد، ولم يلقين عوناً يُذكر سوى عزيمةٍ نابعةٍ من أعماقِ أرواحهن، وإصرارٍ صادرٍ عن قوَّة تكوينهن الفكري؛ وسنسعى في هذه المشاركة إلى أن نُبرِزَ ملمحاً من مساهمتهن في تغييرِ الأوضاع، آملينَ أن ننثرَ بين ثنايا الوقائعِ عبقاً من سيرتهن العطِرة. ما يلفتُ الانتباه في سيرة روزا لوكسمبرج، أنَّها انتبهت باكراً إلى فكرة الهوِّيات الاجتماعية المتقاطعة (أو الإنترسيكشنالتي)، وأنَّها دافعت بشراسة عن حقوق هذه الفئات عبر "رابطة إسبارتاكوس"، ولاحقاً من خلال الأحزاب السِّياسية اليسارية الكبيرة في بولندا وليتوانيا وألمانيا؛ كما أنَّها وقفت ضد اندفاعِ بلدانِ أوروبا الرَّئيسية نحو الحرب (العالمية الأولى)، وانتقدت مساندة بعضِ الأحزابِ اليسارية لحكومة بلدانها التي كانت تمضي معصوبةَ الأعينِ نحو أتونِ حربٍ لا تذر، أولُ ضحاياها همُ الفئاتُ الاجتماعية التي يجمعُها الفقرُ والاضطهادُ العرقيُّ والجنسيُّ في بوتقةٍ واحدة أو مصيرٍ اجتماعيٍّ مشترك. كما أنَّها خِلافاً لقادةٍ كبار في الحركةِ اليسارية العالمية، قد شكَّكت في إمكانية نجاح الثَّورة في بلدٍ أوروبيٍّ منفرد؛ فلا غرابةَ إذاً أن حمَّلها جوزيف ستالين مسؤولية رواج فكرة الثَّورة الدَّائمة. إلَّا أنَّ وقوفها ضد الحرب العالمية هو الذي قاد حكومة فريدريش إيبرت في ألمانيا إلى اغتيالها، ورميِّ جثَّتها في قناة لاندفير. لعلَّ ما تحمله روزا من أفكارٍ راسخة وقوية، موجَّهةً في معظمها ضد التيَّارات السَّائدة أو المهيمنة، قد أكسبها سمعةً يمكن وصفها بالشَّراسة وحِدَّة الطَّبع، حتَّى أنَّ أقرب أصدقائها كان يخشى من التَّقدُّم إليها أو إسماعها كلماتٍ يُمكن تفسيرها بالإطراء الذُّكوريِّ المتعالي أو الغزل البريء. ويحكي أوغست بيبل أنَّه اُضطُرَّ إلى أن يدُسَّ في جيبِ معطفها كلماتِ تشبيبٍ وتغزُّل، حينما تلاقت أكتافُهُما وهُما يدخلانِ عبر ممرٍّ مزدحم إلى اجتماع الكمنتيرن. إلَّا أنَّ كلَّ ذلك لم يكن إلَّا مجردَ مظهرٍ خادع، واستيهامٍ ذكوري، يسعى لتصوير المرأة وفقَ معاييرِ نمذجةٍ سائدةً في مجتمعٍ بعينه؛ فعندما ينكسرُ القالبُ المألوف، يميلُ المرءُ عادةً إلى تصويرِ الوقائعِ المُشاهدة وفقَ ما تهوى مُخيَّلته أو يُصادفُ هواه. ففي حقيقةِ الأمر، كانت روزا امرأةً مشبوبة المشاعر، كرَّست قدراً من عواطفها للعمل العام، إلَّا أنَّ حياتها الخاصَّة كانت مبذولةٌ لأصدقائها من النِّساء (كلارا زيتكن) والرِّجال (كارل ليبنخت)، وزوجها (ليو لوغيخس)؛ كما تشهد رسائلُها التي نُشرت بعد موتها بنزاهتها ودماثة خلقها، مقارنةً مع تدافعها اليوميِّ مع رجالِ عصرِها لانتراعِ الاعترافِ بها كمُنظِّرةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لا يُشقُّ لها غبار؛ فالحريَّةُ عندها هي دائماً "حريَّة من يفكِّر بشكلٍ مختلف". وفي لندن، إبَّان فترة ما بعد الحرب العالمية الثَّانية، في بداية الخمسينات، كانت روزاليند فرانكلين تعملُ باحثةً بكلية كينغ، حيث عُهِدَ إليها بإماطةِ اللِّثام عن تركيبِ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبي منقوصِ الأكسجين (الذي عُرِفَ لاحقاً بمختصر "دي إن إيه"؛ ويُعرفُ اختصاراً بالعربية بالحامض النَّووي، ولو أنَّ ذلك يجعله متماهياً مع مختصر "آر إن إيه"، فهو أيضاً حامضٌ نووي، لكنه غيرُ منقوصِ الأكسجين؛ الأوَّل حاملٌ للرِّسالة الجينية، والثَّاني مترجِمٌ لها)، وقد كانت تتشاركُ حلَّ المسألة المعقَّدة مع موريس ويلكينس، إلَّا أنَّ التَّواصلَ اليوميَّ بينهما كان شبه معدوم. ويُفسَّرُ ذلك من جانبٍ بحرصها على استقلالها المهني، وعضِّها بالنَّواجذ على حريَّتها الأكاديمية؛ ويُفسَّرُ نفسُ الأمرِ، من جانبٍ آخر، بشراستها وحدَّة طبعها وضعف أنوثتها (على حدِّ زعم جيمس واتسون). وكانت التَّقنية التي يستخدِمانِها في الوصولِ إلى حل، هي تقنية تصوير ودراسة البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية، بغرضِ الكشف عن ترتيبها البنيوي، فاختراقُ الأشِعَّة للبلُّوراتِ يؤدِّي إلى انكسارِها أو ميلِها بزوايةٍ محدَّدة، فتتكوَّن عنها صورةٌ ثلاثيةُ الأبعاد، تُمَكِّنُ من التَّنبؤ بكثافةِ الإلكترونات داخل البلُّورة، إضافةً إلى التَّرابط الكيميائي للذَّرَّات. وفي كيمبردج، كان باحثانِ آخرانِ، هُما فرانسيس كريك وواتسون، يهتمَّانِ بنفسِ الموضوعِ البحثي؛ لذلك كان محتَّماً عليهما أن يدخلا في تنافسٍ أو سباقٍ مع كلية كينغ بلندن (هذا إضافةً إلى سباقٍ آخرَ عبر الأطلنطي مع باحثٍ كيميائيٍّ ضليع هو لاينس باولينغ، الذي سبق أن تحدَّثنا عنه في إحدى المشاركاتِ التي خصَّصناها لأسماءٍ بارزةٍ بولاية كاليفورنيا). وبما أنَّ التَّنافسَ كان يجري في إطار العلوم الطَّبيعية، وليس الأسواق التِّجارية، فكان لا بدَّ أن يتمَّ حوارٌ بين الجهتين، وأن تسعى كلُّ مجموعةِ بحثٍ إلى أن تُطلِعَ الأخرى بما تجري من تجاربَ، وبما تُحقِّقُ من نتائجَ، في كلتا حالتَيْ النَّجاحِ والإخفاق. وعبر هذه اللِّقاءاتِ التَّحاورية، الماكوكيَّةِ بين لندن وكيمبردج، بدأت تلوحُ في الأفق ملامحُ خلافٍ، وسوءُ فهمٍ مُتبادلٍ، وتصوُّراتٌ خاطئة، راح ضحيُّتها امرأةٌ باسلة، سعت لأن تحفظ لنفسِها، ولبناتِ جنسِها (أو جندرها)، مكاناً تحت الشَّمس؛ إلَّا أنَّها ظُلِمت في حياتها، مثلما أنَّها تُجوهِلت بعد مماتِها؛ فعسى، إنْ لم نُفلِحْ في رفعِ بعضِ المظالمِ عنها، أن نُزيلَ عن سيرتِها قدراً يسيراً من مرارةِ التَّجاهل. كان كريك وواتسون يشتغلانِ في مختبر كافِندِش بكيمبردج تحت إشراف السِّير ويليام براغ، الذي لم يكن يُحبِّذُ تدخُّلهما في أبحاثِ ال"دي إن إيه"، بعد فشلِ نموذجِهما الأوَّل؛ ولأنَّه كان يرى، من جانبٍ آخر، أنَّ هذا البحث متروكٌ برُمَّته إلى كلية كنغ بلندن، التي يعمل بها ويلكينس وروزا، تحت إشراف السِّير جون راندول. إلَّا أنَّ الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصَ الأكسجين كان أجَلَّ شأناً وأثمنَ قيمةً من أن يُتركَ إلى جهةٍ واحدة، مهما أملى الأوتوكيتُ بغيرِ ذلك. ولكي يبني كريك وواتسون نموذجَهما الثَّاني، الذي كُلِّلَ في نهاية الأمر بالنَّجاح، كان لا بدَّ من الاستعانة بمعلوماتٍ حيوية، تتوفَّر فقط عند مصدرَيْن منافسَيْن لهما أشدَّ التَّنافس. فمن جهةٍ كانا يحتاجانِ إلى معلوماتٍ حول التَّركيب والتَّرابط الذَّرِّيِّ للعناصر الكيمائية؛ وكانا يحصُلانِ على ذلك من كتاب باولينغ المدرسيِّ الأساسيِّ: "طبيعة التَّرابط الكيمائي" (وكانا يحتفظان بنسخةٍ بالية، يضعها واتسون أحياناً تحت وسادته)؛ وكانا يتابعان في نفسِ الوقت سيرَ أبحاثِه وتقدُّمِه عن طريق الرَّسائل التي تصِلُ لابنه بيتر، الذي كان يعملُ معهما في كافِندِش. أمَّا المعلومات الحيوية التي تقودُ إلى بناء نموذجٍ أقرب إلى واقعِ الحال، فقد كان لا بدَّ من وصولِها لهما من لدى روزالِند، التي كانت تعكفُ بنفسِها على تصويرِ مركَّب (أو جزيء) "دي إن إيه" عن طريق اختراق البلُّورات بالأشِعَّة السِّينية. وقد نجحت روزالِند أخيراً في تصويرِ نُسخةٍ، عُرفت بالصُّورة "باء" (فورم بي)؛ وهي قابلةٌ للتَّعرُّفِ من خلالها على بنية الحامض، وذلك خلافاً للصُّورة "ألف" (فورم إيه)، التي لم تكن واضحةً بدرجةٍ كافية. ولكن كيف السَّبيل إلى هذه المعلومة، خصوصاً وأنَّ روزالِند لا تتكلَّم حتَّى مع زميلها ويلكنس؟ ولحداثةِ سِنِّه ولموطنِه غير البريطاني (فهو أمريكيُّ الأصل)، عُهِد لواتسون بهذه المهمَّة العسيرة، ولكن التَّحيُّز السِّلبيِّ الجلي الذي ظهر في كتابه "اللَّولب المزدوج"، هو الذي دفعنا لمناصرة روزاليند، التي كانا (كريك وواتسون) يشبِّهانها بروزا لوكسمبرج؛ إلَّا أنَّ واتسون كان يُكنِّيها بلقب "روزي"، حتَّى يعلِّق على إهاب الاسم المُختلق ما يطفحُ بصدرِه من مشاعرَ سلبيةٍ تجاه امرأةٍ نجحت في أوائلِ الخمسيناتِ من القرن الماضي في أن تجِدَ لها موقعاً للتَّنافسِ الشَّريفِ مع "شقائقها الرِّجال"، فما كان موقف أحدُهما، مُتمثَّلاً في جيمس واتسون، الذي ألَّف كتاباً – من منظورٍ شخصي - عن اكتشافِ بنية الحامض النَّووي الرِّيبي منقوصِ الأكسجين؟ يقولُ واتسون إنَّ "روزي" كانت تعمل تحت إشراف ويلكينس؛ وفي حقيقة الأمر، إنَّ روزالِند وويلكنس كانا يعملانِ سوياً، وعلى قدمِ المساواةِ، تحت إشراف السِّير راندول، مثلما أنَّ كريك وواتسون كانا يعملانِ سوياً تحت إشراف السِّير براغ. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لم تكن تعتقد بأنَّ مركَّب "دي إن إيه" يُمكِنُ أن يُوجَدَ في شكلِ لولب، مع إنَّ روزالِند تقول في مذكرةٍ تُعلِّق فيها على الصُّورة "باء" (فورم بي) إنَّ سلاسلَ ثنائيةً أو ثلاثيةً أو رباعيةً للحامضِ النَّووي مُشترَكةِ المحور يُمكِنُ أن تُوجَدَ في كلِّ وحدةٍ لولبيةٍ للحامض. ويزعم واتسون بأنَّ "روزي" لا تحفل بأنوثتها وترتدي نظَّاراتٍ بعدساتٍ مُكبِّرة مُنفِّرة؛ وفي الواقع، إنَّ روزالِند كانت مليئةً بالحيوية وسط أصدقائها ومعارفها، خارج دائرة العمل في كليَّة كنغ؛ وما النَّظارةُ ذاتُ العدساتِ المكبِّرة، إلَّا لدواعي التَّصوير بالأشِعَّةِ السِّينية. كما يدَّعي واتسون بأنَّ "روزي" هاجمته ذات مرَّةٍ، حتَّى احتمى بويلكنس؛ غير أنَّ من الممكن تصوُّر دوافعِ اِمرءٍ يُمكِنُه التَّجرؤ بالقول عن روزالِند: "إنَّ المرءَ لا يجِدُ مناصاً من الزَّعم أنَّ أفضلَ مكانٍ لامرأةٍ عالِمة هو جلوسها في حضنِ رجلٍ عالم (بالتَّلاعب بكلمة "لاب"، إذ ينوسُ بين "الباء" المجهورة والمهموسة، إذ تعني إحداهما "حِضناً"، بينما تعني الأخرى "مُختبرا"). في عام 1951، نجح فريق كيمبردج في الكشفِ عن تركيبِ الحامضِ المعروف ب"دي إن إيه؛ وفي عام 1962، مُنِحت جائزة نوبل لعلم وظائف الأعضاء أو الطِّب لكلٍّ من فرانسيس كريك، وجيمس واتسون، وموريس ويلكنس؛ وبما أنَّ الجائزة الشَّهيرة لا تُمنح إلَّا لأحياء، وكانت روزالِند قد انتقلت إلى بارئها في عام 1958، فقد رحلت عن 37 عاماً، من غيرِ أن ترى جانباً من التَّقدير الذي تستحِقُّه، لِما بذلت من جهدٍ علميٍّ خارق، فات ملاحظتُه في وقتِه على أقربِ الدَّائرين في محيطِها العلميِّ والعملي. وإنُ فاتتها الجائزةُ المُقدَّرة، فإنَّ أفضلَ جائزةٍ يُمكِنُ أن تنالَها بعد رحيلِها هو إحياءُ سيرتِها وإعادةُ الاعتبارِ لسمعتِها، التي نالت رشاشاً من عالِمٍ أعمته ضلالاتُ الوقتِ عن رؤيةِ الحقيقة العلمية في أجملِ إهابٍ لها، كانت قد ارتدته روزالِند فرانكلين بشجاعةٍ واستقامةٍ عديمتي النَّظير، حتَّى آخرِ رَمَقٍ من حياتها (أو حتَّى قبيل أسبوعينِ من مماتها، بتعبيرِ جيمس واتسون، في ذيلِ كتابه الموسوم "اللَّولب المزدوج"). ولإعطاء واتسون ما يستحقُّ، فالحقُّ يُقال إنَّه اعترفَ في ذيلِ كتابِه بدورِها، بعد أن تحاملَ عليها غاية التَّحامل في صدرِ الكتاب، على المستويَيْن العلميِّ والشَّخصي؛ فقد اتَّضحَ، حسب اعترافه، أنَّ عملها في مجال الأشِعَّة السِّينية كان عملاً مقدَّراً، وتزدادُ أهميَّته بشكلٍ مطَّرد؛ كما أنَّ فرزها للصُّورتين "ألف" و"باء" (فورم إيه و بي) كان كافياً لنيلِها سمعةً علميةً طيِّبة؛ هذا إضافةً إلى برهنتها على أنَّ مجموعة الفوسفات يجب أن تكون محيطةً بتركيبِ ال"دي إن إيه" من الخارج. وكلُّها إنجازاتٌ علمية كانت كافيةً لأن تؤهِّلها للتَّرشُّح للجائزة العلمية الكبرى، وتُجِبرُ القائمين عليها بمنحِها لها؛ مثلما أجبرت واتسون على القولِ إنَّه "بعد سنواتٍ من المشاحناتِ، قد أقررنا باستقامتِها الشَّخصية وكرمِها، بعد أن أدركنا (أنا وكريك) بشكلٍ متأخِّر، بأنَّها كانت امرأةً ذكيَّة تطلبُ اعترافاً من محيطٍ عِلميٍّ يعتبرُ النِّساءَ في الغالبِ الأعمِّ مجرَّد مشاغلَ تصرِفُ المرءَ عن التَّفكيرِ الجاد". في حلقةٍ تكميلية لهذه المشاركة، سنستنشقُ مع القرَّاءِ الأفاضل فوحَ وردةٍ ثالثة؛ ولحسنِ حظِّنا، أو ربَّما لشوفينيةٍ، خبيئةً بين ضلوعنا، فإنَّها وردةٌ ناميةٌ في حقلٍ سوداني.