وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«سيِّد نفسك.. مين أسيادك» شاعر .. يفتح قلبه (مساكن شعبية) دون أن تملأ استمارة .. محجوب شريف .. الرجل الذي يعبِّى (النور) في كلماته ..
نشر في الراكوبة يوم 07 - 12 - 2010

أم درمان .. مثل (طفلة) في العيد.. تزهو بلبستها الجديدة.. تقف على الباب، تراجع بين الفينة والأخرى (حلوتها).. تضحك وتفرح وتلعب وتعبث بشرائط (ضفائرها) المسدلة.. تشعر بذلك وأم درمان تحتفي بمحجوب شريف بكل هذا الفرح كأنها (طفلة).
أم درمان تحمل ملامح محجوب في عيون (الشفع) وفي (جبب) أهلي الغبش، وتنمحه تفاصيل رجل أم درماني يوزع (أم درمانيته) على الناس مع شاي الصباح... (في لحى الأشجار كتبتو.. نحتو في صم الحجارة).
أو كأنهم يخرجون للحياة بهذا المقطع: (كم مرة في لحظة خصام.. بينا انقطع حبل الكلام واتمدّ في شاي الصباح).
هذا محجوب شريف تقول بطاقته الشخيصة:
الاسم الكامل: إنسان
الشعب الطيب والديّ
الشعب حبيبي وشرياني
أداني بطاقة شخصية...
ومحجوب شريف ببطاقته تلك دخل لكل القلوب.. أصبح فرداً في أي أسرة سودانية (واحد منهم)... يقدمه حبه للناس... سكن في الحنايا.. وخرج من مساماتنا بوشاح رجل (ملائكي) في زمن تتوقف فيه الحياة في كسلا إذا قفل كوبري النيل الأبيض في الخرطوم.. محجوب مننا وفينا.
المهنة: بناضل وبتعلم
تلميذ في مدرسة الشعب
المدرسة: فاتحة على الشارع
والشارع فاتح في القلب
والقلب: مساكن شعبية
كان ومازال قلب محجوب شريف بهذه المساحة و(المهلة)... يقبل كل الناس دون النظر إلى (الخطة الإسكانية)، أو ملء استمارة سكن.. ان الشعب السوداني كله شماله وجنوبه وغربه وشرقه يسكن هناك في ناصية من نواصي قلبه الأبيض.. أما النواصي الأخرى فهي للحب والخير والحياة والأمل والوحدة والسلام.
أظن أن (نيودلهي) تحسد (أم درمان).. وتحرد (نيويورك) مقاطعها توسلا.. لأنهما لا تتوسدان مثل هذا الشعر... ويبكي الشعب الصيني الملياري (حرقة وغيرة) على هذا الغناء والعز والجاه الذي منحه محجوب شريف للشعب السوداني.
وأديس أبابا تمنح (بُنّها) نكهة (بيني وبينك الضحكة.. ورحيق الشاي وطعم الخبز والسترة.. ومساء النور وعمق الإلفة بين النهر والنخلة وغنا الطمبور).
ما أسعد بساتين النخيل في الشمال .. ورقيص الأبنوس في الجنوب بشاعر مثل (الشمس) يمنح النور ويدخل فى تركيبة (قهوة) الشرق.. و(بوخ) عصيدة الغرب.. ويجعل تداول شعره (الهواية) الاولى والرسمية لأيّ زول في السودان من نمولي لي حلفا.
(1)
في موقف مواصلات الخرطوم.. كان رجل في السبعين.. .يمشي بروح ثلاثينية... ربما كان يدعي بمشيته تلك (شبابا) مزعوما أو ينتحل بها (صبا) قد ولّى.
هل شبابية هذا السبعيني مكتسبة من أن الرجل كان يردد نصّاً لمحجوب شريف فيختزل به مسافات الزمن وفوات السنين.
الرجل كان يردد هذا القول دون أن يتوكأ على عصاه.
مسافر
لا مدن قدامي
غلبي القاسي ينفيني
لا زاداً يكفيني
ولا حضناً يدفيني
أغني وكم جرح فيني
وبحلم كنت بالأيام
تصالحني.. وتصافيني
ولمن شفتك اتوهجت ..
ظنيتك حتلفيني
وتعافيني
حليلو العمر ما انجمّ
رجع للحزن والحمّى
ردد الرجل هذه الكلمات .. ثم ركب إحدى الحافلات واختار أن يكون مقعده على (الشباك).
إنه رجل يعيش حياته.
وفي حلة ما.. تقع في منطقة ما من نواحي السودان الفاترة.. كانت (طفلة) تقف حافية غير مبالية برمضاء الرمال التي كانت تقف عليها.. ربما هذه الطفلة قرحوها بهذا النص.. فكانت بهذا الشغب.
يا حناني ..
ويا زماني..
يا مكاني..
يا صباي الأولاني
لا أنا فلان الفلاني
ولاني فوق ساس جاهي باني
عندي بس حبة أماني
وحزمة ولا اثنين أغاني
بحترق قبال أواني
ولمن يضحكوا لي عيونك
بشتعل من تاني
وهناك في ميدان يقع في أحد الأحياء التي يخرج كل سكانها في العصر للجلوس على «حواف» هذا الميدان.
كان الميدان في ذلك اليوم أكثر احتشادا بالناس .. والصبية ينقلون الكرة بينهم .. من لاعب إلى لاعب .. وبين الفينة والأخرى تسمع صراخ البعض على «الحواف» عندما يسجل لاعب هدفا.
لكن هؤلاء الصبية كانوا يحتفلون بأحد مقاطع محجوب شريف الشعرية أكثر من احتفائهم بالهدف.
كانوا يحتفلون فيما بينهم بهذا المقطع:
لما عرفتك اخترتك سعيد البال ..
وخت شبابي متيقن
عليك آمال
لا جيتك قبيلة...
ولا رجيتك مال
ولا مسحور
ويوم ما كنت في عيني
أجمل من بنات الحور
جيتك عاشق أتعلم
من الايام
ومن سأم الليالي البور
ومن أسْر الولف كتال
لقيتك في طشاشي دليل ..
وفي حر الهجيرة مقيل
ركزت على ضراك عصاي
يصفر الحكم وينتهي (الدافوري) تعادليا... هو في كل مساء ينتهي (تعادل).. قد يكون ذلك ناتج من مساحة الرضا بين الناس.. ومن عدل القسمة بينهم.. .ينصرفون إلى بيوتهم والمساء يرخي سدوله.. وحديثهم (تفصيلاً) عن محجوب شريف.
(2)
منطقة الحصاحيصا في قرية (أبو قدوم) التابعة لمحلية المسلمية والتي تبعد من الخرطوم حوالي 160 كيلومتر.. ولد فيها الشاعر محجوب شريف وكان ذلك في عام 1948م حسب إفادات البعض الذين يرجحون هذا العام مولدا لشاعر الشعب.
ويسكن منطقة أبو قدوم خليط من الجعليين والمسلمية.. ويبلغ تعداد المنطقة حوالي 600 ألف نسمة.. ويحترف سكانها الزراعة.. وتشتهر أسرة محجوب شريف بأسرة (آل نوح) نسبة إلى جده (والد والدته) الذي كان يعرف ب (نوح).
وترجع أصول محجوب شريف للشمالية منطقة (الشايقية) ببطونها المتعددة.
كان والد محجوب تاجرا في بورتسودان .. كما ان خاله كان من كبار تجار أم درمان وقد سكن معه محجوب في الفترة الاولى في حي العرضة بأم درمان قبل ان يتنقل بين الثورات ما بين الحارة الخامسة والسابعة حيث يسكن الآن في منزله بالثورة.
درس محجوب شريف المرحلة الابتدائية في (المدينة عرب) وكذلك المرحلة الوسطى.. وأكمل تعليمه بمعهد المعلمين في أم درمان.
نشأ محجوب شريف في تلك المنطقة وتشبع بأدبها وقيمها النبيلة وسط إخوته.. الخير وأحمد شريف كاتب القصة الشهير وشقيقته الراحلة (نوال)... وكانت تربط الشاعر علاقة قوية بوالدته (مريم) التي سمى عليها ابنته الكبرى التي تزوجت قبل فترة قصيرة من (ألماني) يسكن معهم في أم درمان تشبع بتقاليد السودان وبطباع شعبه.
كذلك لمحجوب شريف ابنة أخرى اسمها (مي) تجرى احتفالات تخرجها من كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان في هذا التوقيت.
المعروف أن محجوب شريف متزوج من (أميرة الجزولي) شقيقة الكاتب والشاعر والمحامي كمال الجزولي.
عمل محجوب شريف في منطقة أبوقدوم وباع (التبش والعجور) وهو صغير، ومن هذه الحرفة اكتسب محجوب بساطته وكان بتلك التلقائية والانسانية التي عرف بها واشتهر.
أما المهنة الاساسية لمحجوب شريف هي احترافه للتدريس ... أحب مهنته وعمل (مدرساً) وكان أستاذا للمناشط.. كما انه كان يدرس كل الحصص.. وكان محبوبا بين طلابه لطريقته المميزة في التدريس ولحبّه للخير والإبداع.
في 14 -8 – 1989 أحيل للصالح العام أي بعد شهر ونصف من مجيء ثورة الانقاذ .. ودخل السجن وبدأ في نضاله ضد الدكتاتوريات وسجن في نضاله ضد الدكتاتوريات في سواكن وبورتسودان والخرطوم... وكان قريبا من التعرض للتصفية لولا تحرك زوجته أميرة الجزولي التي لعبت دورا كبيرا في النضال والثبات على المباديء مع شاعر الشعب محجوب شريف الذي وجد تشجيعا من أسرته الصغيرة للمضي قدما في نضاله.. حتى دموع ابنتيه (مريم ومي) كانت تقوده للمزيد من الثبات وهو يعتقل ويؤخذ من بيته أمام عيون طفلتيه.. وقد كتب محجوب شريف قصائد عن هذا الموقف.. وعن (حمالة التقيلة) أميرة الجزولي.
السلطة حاولت أن تعيد محجوب شريف للعمل ولممارسة هوايته وحرفته في التدريس .. لكنه رفض وطالب أن يعاد كل المفصولين عن العمل بدواعي (الصالح العام).
معاش محجوب شريف لا يتجاوز ال 165 جنيها.. لكن حتى هذا المعاش موقوف منذ ما يقرب من الثلاث سنوات.
(3)
إنساني حدّ أن إنسانيته تتدفق ليشمل بفضله هذا.. الكثير من الفضائيات والمساحات.
محجوب شريف كتب معظم قصائده في السجن .. وهو قد تعرض للكثير من التعذيب حتى أثر ذلك بشكل سلبي على صحته وانعكس عليه الآن.. لكن مقابل ذلك كان هناك كل هذا الابداع الذي يتجسد شعراً ومواقف في حياتنا الآن.
محجوب شريف يرفض أن يذكر السنوات التي حبس فيها .. يعتبر ذلك نوعا من الترويج لنضاله أو المن بما قدمه من أجل الحرية والديمقراطية.
حتى تلك يرفض أبو مريم من أن يذكرها أو يتحدث عنها في ونسة عابرة .. ومحجوب شريف بكل هذه المواقف وكل هذا التاريخ النضالي الكبير .. يرفض أن يحدث صحفياً أو إعلامياً.
يرفض ذلك رفضا باتا رغم احترامه للكثير من الأقلام وإيمانه بما تقدم من (شعاع) في حيز ضيق أو مخنوق.
حاولت أن أخرج منه بشيء.. لكنه كان يرفض .. قال إنه يكره الأسئلة.. لذا كان لي الاستعانة بالأستاذ عزالدين عبدالجليل شقيق الشاعر الراحل سليمان عبدالجليل الذي مدّني بالكثير من المعلومات، كذلك كان هناك دور كبير وعظيم من الاستاذ أمير أحمد السيد وهو من المقربين للشاعر محجوب شريف.
عزالدين عبدالجليل يقول إن (محجوب شريف) شيخه .. وإن الذي يقوم به محجوب شريف من أعمال خير.. وأعمال إنسانية كبيرة وعظيمة.. يرفض أن يذكرها محجوب شريف.. والذي يفعله محجوب في السر... يمحاه حتى من داخله.. هذا رجل بإخلاق الملائكة في زمن عصيب تتوقف فيه الحياة عندما تتعطل حركة المرور في كوبري النيل الأبيض.
محجوب شريف لم يسبق له أن تناول خمرا... رغم شاعريته الفذة.. وتحرره من الكثير من القيود .. وهو أيضا لا يدخن... إنه إنسان يختلف في كل شيء.. يختلف عن الآخرين.
«سيِّد نفسك.. مين أسيادك» شاعر .. يفتح قلبه (مساكن شعبية) دون أن تملأ استمارة
وهو مع ثقافته العالية .. رجل بسيط .. وطيب يفضل ان يكون في الهامش .. وان يكون مع النور أينما وجد.
يفتح بابه لكل الناس .. .يدخلون إلى منزله زرافات ووحدان .. بمختلف ثقافاتهم وألوانهم وأعمارهم .. حتى ألوانهم السياسية لا يأبه بها .. في بيته يكرم كل الناس.
قال أمير أحمد السيد .. مرة كنت أسير في شوارع الثورة مع الشاعر محجوب شريف بحثا عن أنبوبة غاز وأثناء سيرنا وجدنا عمال بناء يأكلون في (فتة بوش).. فما كان من محجوب إلا أن وضع (أنبوبة) الغاز ويجلس ويأكل مع الصبية العمال.. وهم في دهشة من هذا الرجل البسيط.
ويحكي أمير أحمد السيد ويقول مرة كنا في زيارة لأحد الاشخاص وكان يسكن في عمارة وأثناء ذهابنا اليه مررنا بغفير العمارة الذي لم يكن يمتلك غير (دجاجة) وكلب .. ومن باب المزاحة قال ليه محجوب شريف (حمر) لينا الدجاجة دي... فما كان من الخفير وهو من أبناء الجنوب إلا ان يدخل في مطاردة طويلة مع (الدجاجة) حتى قبضها بعد مجهود كبير وجاء بها لمحجوب، وقال ليه: (شيل الدجاجة دي اتعشى بيها إنت ومي بنتك).
بهذا السلوك يتعامل محجوب شريف ويتعامل معه الآخرون.
ويحكي عزالدين عبدالجليل عن مواقف محجوب شريف ويقول: عندما مرض محجوب شريف رفض ان يتعالج بأي دعم يأتي له .. من الداخل أو الخارج إلا لأنه كان من الشعب وكان لا يرفض ما يأتي له من الشعب تفضيلا وحبا له.. قبل بالعلاج عندما كان علاجه على حساب الشعب حيث تجمع الكثيرون وقرروا دعمه ليسافر إلى انجلترا للعلاج.. سافر محجوب وهناك كانت مجموعات سياسية ومنظمات تنتظره.. احتفلوا به وعرضوا له أن يطلب اللجوء السياسي وكان يمكن ان يكون له ذلك خاصة وهو قد تعرض للتعذيب وكانت تصله الرسائل من مختلف الدول وهو في السجن تضامنا معه .. وهي دليل يمكن أن يمنح (حق اللجوء السياسي).
هو لا يقلل من الذين طلبوا حق اللجوء السياسي .. لكن حبه وعاطفته تمنعه حتى من ان يبتعد عن وطن وإن عُذب فيه .. يحترم كل الناس .. ويحفظ الود للذين كرموه في الخارج.. لكنه لا يستطيع ان يبتعد عن أم درمان.
كان محجوب شريف عندما سافر للخارج للعلاج عازما على العودة حتى وإن كانت المشانق تنتظره في مطار الخرطوم.
وهذا ليس غريبا على الشخص الذي وسم حبه للوطن بهذه الكتابات.
وطنا...
الباسمك كتبنا ورطنا
أحبك
مكانك صميم الفؤاد
وباسمك أغني ..
وتغني السواقي
خيوط الطواقي
سلام التلاقي
ودموع الفراق
وأحبك ملاذ
وناسك عزاز
أحبك حقيقة ..
أحبك مجاز
أحبك بتضحك
وأحبك عبوس
بعزة جبالك ترك الشموس
وما بين ظلاك
أفتش واكوس
أفتش طفولتي وملامح صباي
الشيء الغريب أن محجوب شريف رغم الذي تعرض له في وطنه ورغم انهم ضيقوا عليه الخناق إلا انه رفض الابتعاد عن الوطن .. لم يهاجر ولم يتغرب .. وظل باقيا في وطنه كما النيل.
ومحجوب شريف من الذين يجسدون مواقفهم وأشعارهم في حياتهم:
أخاف الطريق ..
اللي ما بودي ليك
وأعاف الصديق ..
اللي ما بهم بيك
معاك انتظاري ولو بالكفاف
وعنك بعيداً
أبيت الرحيل
وبيك اعتزاز الصباح الجميل
جميع الأغاني اتكالن عليك
جميع الأغاني اتكالن عليك
هذا محجوب شريف يربطه بالوطن كل هذا الحب .. وكل تلك الإلفة ... لا يعرف ولا يستطيع ان يعيش خارج الوطن وان كان (سجينا).
مفهوم شريف للسجن .. .هو أن تقل مساحة الحريات.. هذا هو السجن الأكبر.
لكنه مازال يحلق ... مازال بعيداً.
(4)
الكثير من أعمال الخير قام بها الشاعر محجوب شريف وكانوا يدعون لها حتى إن محجوب أصبح يمثل بنفسه (منظمة) خيرية .. يخرج منه الكثير من الخير.
محجوب شريف عندما كان معلما نشط في إنشاء المكتبة المدرسية.. والمكتبة المتحركة.. ومن غرائب هذا الشاعر أنه في سنة 1973 كان يمتلك مكتبة في أم درمان كان يبيع فيها بعض الأدوات المكتبية الصغيرة .. إلا أن هذه المكتبة سريعا ما أُغلقت لأنها خسرت خسائر كبيرة بسبب ان محجوب شريف كان يوزع الكتب والكراسات مجانا للطلاب.
هذا هو محجوب بكل هذا الخير.
كذلك لمحجوب شريف مشروع (الهكر وثقافة العمل اليدوي) وهو مشروع يدعم الاسر الفقيرة ويستقبل كل ما فاض عند الاسر الكبيرة .. كما افتتح أخيرا (الحوش الكبير) في أم درمان وهو يروج ويعمل لثقافة بيسطة فيها التواصل والدعم للبيوتات الصغيرة.
(5)
من تفاصيل شريف المدهشة ... إنه لا يأخذ أجرا أو مقابل على أغنياته... كل الذين غنوا له لم يأخذ منهم مقابل.. وهي فلسفة خاصة به.. يقول عزالدين سليمان عن ذلك ان محجوب شريف لا يريد ان يفرض مواقفه على الآخرين لأن هناك من يرى ان ذلك حقا مشروعا له، ولا يختلف محجوب معهم في ذلك.. لكن إنسانيته الجميلة تمنعه من ذلك.
من الأشياء التي رواها لنا عزالدين أن محجوب شريف رفض حقوقه في إحدى أغنانيه التي يتغنى بها حمد الريح والتي سجلت في قناة الشروق أخيرا وحول عائدها إلى منظمة (رد الجميل).
يحدث هذا من محجوب شريف رغم أنه متوقف عن العمل بسبب (الصالح العام).. ومعاشه متوقف كذلك قرابة ال 3 سنوات.
لكنه عفيف وعزيز.. .تتمثل سعادته في إسعاد الآخرين.
(6)
قصص نصوص محجوب شريف ترجع إلى تفاصيل ممتعة.. وهي مشهودة ومعروفة للكثيرين.
محجوب شريف لا يكتب نصا بالطلب... أغنية (السنبلاية) يقال إن محمد وردي جمعها من نصوص ومقاطع مختلفة.
وتزعلي يوم ..
وأزعل
وننفعل مرات
تقبلي مني
وأتوسد ضراعي سكات
وفينا حنينة
تتشابك مودة..
تشابك الغابات
ونحن إذا اختلفنا سوا..
بنطيع الصاح..
ولو بتنا القوا بنرتاح
إذا تمن الملح والعيش
رضا الشمات
أما قصيدة (عشة كلمينا ميري ذكرينا) فهي قصيدة كتبها محجوب شريف في أم درمان منطقة الخيرات عندما سمع حوار بين عمال من أبناء الجنوب الحبيب ولم يفهم من الحوار إلا كلمة (مسطرينة) فكانت هذه القصيدة.
عشة كلمينا
ميرى .. ذكرينا
كل سونكي أحسن
يبقى.. مسطرينا
....
نحن شعب أسطى
يلا.. جيبو مونا
نبني .. نبني .. نبني
مسرحا .. ونادي
مصنعا .. وبوستة
حرب لا لا لا لا
كبري .. استبالة
صالة للثقافة
تمرح الغزالة
جنبها .. الزرافة
جميلة ومستحيلة قصتها ترجع إلى إحدى حسان جامعة أم درمان الاسلامية التي رحلت من هذه الحياة ... فكان هذا النص
يا جميلة ومستحيلة
إنت دايما زي سحابة ..
الريح تعجل بي رحيلها
عيوني في الدمعات وحيلة
اسمحيلا تشوف عيونك..
اسمحيلا
أنا لا الصبر قادر علي..
ولا عندي حيلة
ويحكى عن هذا النص أن محجوب شريف استعار كلمة (من ضواحي الدنيا جيت) من نقاش في حافلة قادمة من الاستاد عندما خاطب الآخر وقال ليه: (إنت جاي من ضواحي الدنيا).. فكانت جميلة ومستحيلة.
يا مراسي الشوق تعالي
لا الليالي تمر بدونك هي الليالي
من ضواحي الدنيا جيت
وعلي رحالي
لمداين في عيونك يا محالي
ريحيني..
أما نص (يابا مع السلامة) فهي قد كانت رثاء في الراحل المقيم عبدالكريم ميرغني.. ومحجوب شريف أبدع في قصائد الرثاء وله طريقة مختلفة في كتابة هذا الضرب الشعري.
يا تلك الترامس
وين الصوتو هامس
كالمترار يساسق
ويمشي كما الحفيف
وكم في الذهن عالق
ثرثرة المعالق والشاي اللطيف
وتصطف الكبابي
أجمل من صبايا بينات الروابي
والظل الوريف
أحمر زاهي باهي
ويلفت انتباهي
هل سكر زيادة أم سكر خفيف
محجوب شريف منحنا أن نعيش بقيمة.. وبكرامة.. وحررتنا قصائده من مقاعد الملل والروتين المميت.
(7)
الشاعر محجوب شريف من الشعراء الذين تتوافق كلماتهم ومبادئهم مع مواقفهم في الحياة.. وهو يعيش في واقع يحسب البعض (خيالا) في شعره.. لكن كل الذي كتبه محجوب شريف في شعره جسّده في حياته.
أسرته الصغيرة عاشت معه وتشربت بمواقفه .. وكانت عضدا له في مشوار الحياة.
شريف بدأ حياته بموقف رسالي عندما تزوج من الأستاذة الفاضلة أميرة الجزولي وكان مهره في هذه الزيجة مجموعة من الكتب.. وكان ذلك داعي لأن يحتفي اتحاد المعلمين كثيرا بهذه الزيجة .. حيث شهد الحفل الذي لم يرتب له جمهور عريض جاء تلقائيا لمشاركة محجوب شريف زواجه الذي كان مكانه في موقع برج المعلم الحالي.
وكانت ابنته مي خريجة كلية الفنون هي الأخرى صاحبة مواقف اكتسبتها من والدها ووالدتها حيث كان مهرها 5 لوحات تشكيلة كانت تعبيرا لمرامي بعيدة ونبيلة.
ومي مازالت إلى الآن تدفع في فواتير مواقفها النبيلة... والنبل يرافق خطواتها وهي تتخرج من كلية الفنون متفوقة على دفعتها ومحرزة المركز الأول وسط شراكة طلابية جميلة تحكي عن مواقف محجوب شريف الشعريا واقعا ملموسا.
(8)
ذهبت إلى محجوب شريف لأتحدث معه والتمس بعض كلماته في منزله بالثورة الحارة ال 21 .. لكنه وجدته يفضل الصمت.. وكان مبدع غريب يميل إلى أن يسمع.. لا أن يتكلم ... فجمعت بعض المعلومات عنه من عزالدين عبدالجليل وأمير أحمد السيد فكانت هذه الحصيلة.. أما هو فلا يحب أن يتكلم للصحف.. ولا يحب كذلك أن يتكلم عن نفسه.. لأنه يعيش في زمن مختلف عن هذا الزمن الذي نعيش فيه.
حنبنيهو
حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي
وطن شامخ
وطن عاتي
وطن خيِّر ديمقراطي
وطن مالك زمام أمرو
ومتوهج لهب جمرو
وطن غالي
نجومو تلالي في العالي
إرادة.. سيادة.. حرية
مكان الفرد تتقدم
قيادتنا الجماعية
مكان السجن مستشفى
مكان المنفى كلية
مكان الأسرى وردية
مكان الحسرة أغنيَّة
مكان الطلقة عصفورة
تحلق حول نافورة
تمازح شفع الروضة
حنبنيهو
البنحلم بيهو يوماتي
وطن للسلم أجنحتو
ضد الحرب أسلحتو
عدد ما فوقو ما تحتو
مدد للأرضو محتلة
سند للإيدو ملوية
حنبنيهو
البنحلم بيهو يوماتي
وطن حدادي مدادي
ما بنبيهو فرادي
ولا بالضجة في الرادي
ولا الخطب الحماسية
وطن بالفيهو نتساوى
نحلم نقرأ نتداوى
مساكن كهربا ومويه
تحتنا الظلمة تتهاوى
نخت الفجر طاقية
وتطلع شمس مقهورة
بخط الشعب ممهورة
تخلى الدنيا مبهورة
إرادة وحدة شعبية
الاحداث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.