لأ أعتقد أنّ مثل هذه المادة يمكن أن تضيف شيئا لقيمة فنية عالية السمو مثل (برعي) بقدر ما هي مساحة لبث قدر وافر من الإعجاب بهذا الإنسان الرائع الذي جمّل حياتنا الفنية بالروائع وألبس أغانينا أثوابا وغلائل في غاية الجمال والرقة والعذوبة بما لم نعهده من أي ملحن أخر لدرجة تبدو فيها الأغنية السودانية الحديثة من غير ألحان (برعي) مثل بطة عرجاء أو كثمرة من غير لحاء . إن عبقرية وموهبة (برعي) تستثيرنا في الواقع لمعرفة مصدر إلهامه والمنهل الذي كان يغترف منه ليمنحنا هذا الكمّ الهائل من الألحان العذبة . البعض يقول أنه ربما كانت للخلفية الصوفية التي غرف منها برعي في نشأته أثر في ذلك ، لكن هذا لا يكفي فمن الواضح أن (برعي) كان يمتلك رادارا حساسا يعرف كيف يلتقط به الثيمات والمقاطع الموسيقية والألحان ويختزنها في الذاكرة ثم ليمزجها معا ويقدم لنا منتوجا سائغ سماعه. إن عظمة برعي لا تكمن في ألحانه البديعة فقط بل في إرتقائه بمكانة الملحن السوداني درجات ومنحه أهمية وقيمة موازية لقيمة المطرب تماما. إن مسيرة (برعي) مسيرة طويلة يصعب بالطبع إستدعاؤها في هذه المساحة لكن لنا أن نتخيل كيف يمكن لملحن أن يبدأ مسيرته اللحنية بأغنية صعبة مثل أحلام الحب (زرعوك في قلبي) للأمي حينما دفع بها إليه الأخير ، يومها تردد برعي لأنه كان في عتبة البدايات غير أنّ (الأمي) شجّعه فكانت فاتحة خير ليعقبه بعد ذلك لقاء السحاب مع (أبو داؤود) ومنها إنطلقت المسيرة الظافرة . في القاهرة أتيحت الفرصة لبرعي لكي يثبت ذاته ويخرج مكنوناته ومع إنضمام (عبد المنعم عبد الحي) إستطاع هذا الثلاثي أن يقدم الروائع ( لوموه اللاهي ، حليل دوام بطراهم ، يانديما عبّ من كأس الصبا ، الخ...... ) ثم يبدأ تعاونه مع الأخرين وتبدأ قائمة الفنانين في الإستطالة : حسن عطيه ، عثمان الشفيع ، التاج مصطفى ، محمد الحويج ، سيد خليفه ، عبد الدافع عثمان ، عبيد الطيب، الفلاتية ، حسيب ، حسن سليمان ويزاحم وردي في ألحانه فيقدم له (الوصية) لحن يتيم لكنه قطعا مقيم ، ثم يقدم للجابري لحنا مركبا لقصيدة عصية للزين عباس عماره هي (سامحني) ثم تقفز أمامنا تلك الأنشودة الجميلة (أحب مكان) أبراهيم عوض والقائمة تطول ومثلما كان رائعا في الأغاني كان رائعا ورائدا في المقطوعات الموسيقية ويكفي أن مقطوعاته الموسيقية تتفوق على عدد أغانيه ومنها ما حاز على الجوائز مثل جائزة مهرجان ترانسفال في جنوب أفريقيا ويكفي (برعي) قدرا أنه أول فنان ينال وسام العلم والأداب والفنون الذهبي وأنه أنشأ قسم الموسيقى بالإذاعة . لقد كان (برعي) عازفا ماهرا على العود بشكل يضعه في مقدمة العازفين ومتمكنا من ملكاته الفنية بشكل يدعو للدهشة لكنه قبل ذلك كان إنسانا رائعا ودودا ومتواضعا قليل الكلام مترفعا عن الصغائر متساميا بروحه وأخلاقه الرفيعة ، لم تفسده الشهرة أو تخلبه الأضواء فقد كان محصّنا ضد هذه المساويء لأنه كان فريدا متفردا في ذاته مثلما هو متفرد في ألحانه وموسيقاه . إن مكانة (برعي) لا تقل في الواقع عن مكانه أخرين في الوطن العربي رفعتهم شعوبهم إلى الأعالي إن لم يكن يبزهم أمثال : القرة غولي (العراق) ، الموجي (مصر) ، عبود عبد العال (لبنان) الخ ..... كيف لا وهو الذي قدم من الأعمال مايربو على ثلاثمائة عمل لحني ما بين أغنية - مقطوعة - تراتيل دينية ، الخ .. كل عمل فيها ينافس الأخر. إن مقدرة (برعي) على التلحين هي مقدرة تفوق حد الموهبة لتصل إلى حد العبقرية فهو حينما يمسك بالعود أو إن شئت المزهر فإنه يحيله إلى عود أخضر فلا يكاد يصدح باللحن إلا وينضح العود مسكا وعنبر . لذا فإن قيمة ألحان (برعي) تكمن في كونها جمعت كل الأذواق والألوان الموسيقية بشكل مدهش ليكون المنتج رائعا يشّنف الأذان ويلامس الوجدان وتكمن عبقريته كذلك في أن ألحانه لا تشبه بعضها البعض وزورق ألحانه يدفع بك إلى آفاق رحبة يحاكي في ذلك زورق ذلك الحالم في رائعته (إذا عادت بنا الأيام) إذ يدفعك إلى أفق أنيق النجم صداح البساتين فيشعل صمت ذلك الوادي بألحانه الشجية ليتماهى جمال اللحن مع جمال السماء المرصعة بالنجوم . إن أمثال (برعي) جديرون بالتكريم وبأن تخلد ذكراهم ولو كان في بلاد تعلي من قدر الموسيقى لسميت بأسمه المراكز الموسيقية ومنح الواعدون بإسمه الجوائز . إننا ندعو لتخليد ذكرى (برعى) بشيء من هذا أو نحوه فهو الجدير بذلك ونحن في هذا العيد لا نملك سوى أن نقول ... سلام على (برعي) في برزخه .. سلام على روحه ومرقده .. والود موصول ل (زرياب) بين قوسه وكمنجته .. لعله يأتينا بقبس من نور (برعي) ليواصل هذا المشوار العظيم فقد قيل قديما إن (الأبن سر أبيه) فهل يكون (زرياب) عند الموعد ؟؟ [email protected]