د. الشفيع خضر سعيد ** أما الاحتمال الآخر، وحتى الآن هو الأقرب للواقع للأسف، هو توسيع حكومة المؤتمر الوطني بإضافة أحزاب معارضة جديدة، وفي الغالب تلك الأحزاب التي تنطلق من منصة العروبة والإسلام وإقتصاد السوق الحر، والناتج سيكون حكومة مؤتمر وطني من نوع آخر، ولكنها غير قادرة على معالجة الأزمة المستفحلة في البلاد ثمانية أعوام مضت على إتفاقية السلام الشامل، والبلاد لم تذق طعم السلام. بل، وبعد إنفصال دولة الجنوب، سكن التوتر حدود الدولتين لحد الإقتتال بينهما، وإزدت نيران الحرب الأهلية إشتعالا في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وتمددت مساحة العنف في الشارع السوداني لتصل إلى ساحات جديدة كما أبانت أحداث العنف بين بعض الجماعات السلفية والطرق الصوفية في أحداث المولد الشهيرة. ثمانية أعوام مضت على بدء تنفيذ إتفاقية السلام الشامل والحركة السياسية السودانية تكرر عروضا أشبه بدوامات البحر، وبنفس الوصف الكلاسيكي للدوامة البحرية، أعلاها متسع وأسفلها ضيق: قطيعة مع الحكومة، ثم خطة جهنمية، ثم شد وجذب، ثم ترجع الأمور إلى حالتها العادية: حكومة تواصل مسلسل القهر.. مزيد من الانهيارات في جهاز الدولة والذي لا يحتاج إلى عدسة مكبرة لرؤيته..ومن تحت الطاولات تمرمشاريع ستؤثر على مستقبل الاجيال... وشعب يئن ويتضجر..لكن لا حراك حاسم..والناشطون يقاومون اليأس ويبتدعون المشاريع الجديدة للمقاومة. الشعب لم يعد في إستطاعته تحمل المزيد من الغلاء وضنك المعيشة، والحكومة تتذاكى و"تستهبل"، فبدلا من حصولها على ما تريد برفع أسعار المحروقات، تحصل عليه برفع قيمة الضريبة الجمركية، ظنا منها أن الشعب لن ينتبه، ولكنه بالطبع سيشعر بها في حياته ومعيشته..! وإذا كانت الحكومة تعتقد أن زيادة أسعار المحروقات سيؤدي إلى إحتجاجات جماهيرية في الشوارع، فإن الذي يفجر الاحتجاجات هو الغلاء وصعوبة العيش سواء بسبب رفع أسعار المحروقات أو أسعار غيرها، وهذا الوضع أفرز، وسيولد، ناشطين جدد سيلجون أبواب السياسة لا من بوابة الأحزاب أو العمل المعارض المباشر، وإنما عبر المداخل الاجتماعية والمطلبية والإحتجاجية. ثمانية أعوام مضت على إتفاقية السلام الشامل، والبلاد لم تخرج عن محيط سيناريوهات الحرب ضد النظام أو الحوار معه. وفي كلا الحالتين لم يجني الشعب سوى المزيد من الخراب والأهوال. ولنتوقف قليلا عند المبادرة الأخيرة للرئيس البشير: أعلن عن جولة ماكوكية للرئيس البشير وسط قيادات المعارضة، أو بعضها، بهدف حل أزمة البلاد. أولا، هذه ليست أول جولة، وربما لن تكون الأخيرة، بل هي إشارة تظهر كلما إزدادت الأوضاع في البلاد إختناقا، حيث يبحث النظام عن مضادات حيوية لحقنه. لكن جسد النظام إهترأ من كثرة المضادات الحيوية التي يحقن بها كل مرة وثانية حتى إنفرط جسده وتشتت إلى أكثر من جسم جميعهم لا يعرف مخرجا واضحا لأزمة البلاد. وإذا إفترضنا حسن النوايا، وتعاملنا بأكثر المعايير موضوعية، فسنحلم بأن لقاءات الرئيس البشير الأخيرة مع بعض قادة المعارضة من المفترض أن تؤدي إلى تهيئة الأجواء الملائمة والدعوة لعقد لقاء أو مؤتمر لكل الاطراف السياسية في البلاد، بما فيها المعارضة المسلحة، بهدف مخاطبة الأزمة السودانية في شمولها والاتفاق على وضع انتقالي يعبر بالبلاد إلى بر الأمان. أما الاحتمال الآخر، وحتى الآن هو الأقرب للواقع للأسف، هو توسيع حكومة المؤتمر الوطني بإضافة أحزاب معارضة جديدة، وفي الغالب تلك الأحزاب التي تنطلق من منصة العروبة والإسلام وإقتصاد السوق الحر، والناتج سيكون حكومة مؤتمر وطني من نوع آخر، ولكنها غير قادرة على معالجة الأزمة المستفحلة في البلاد. وهو وضع سيفاقم من حالة الإحباط وسط الشعب، وكل من سيقبل بهذا الوضع، أو هذه المسرحية الجديدة، من القيادات الحزبية سيفقد مصداقيته تماما. الحقيقة واضحة وساطعة كالشمس: الخروج من دوامة الأزمة السودانية يتطلب أن يدرك الجميع أن الحل الجذري للأزمة السودانية يبدأ بوقف الحرب والجلوس مع المعارضة المسلحة بهدف التوصل إلى اتفاق يمنع تجدد الحرب، ثم عقد لقاء جامع يشارك فيه الجميع بدون إستثناء أو إقصاء لأحد، للخروج ببرنامج أو مشروع قومي يلبي متطلبات المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للموارد، ويضع الأسس الصارمة لبناء دولة الوطن والمواطن، ثم الاتفاق على برنامج إقتصادي تنموي يرفع المعاناة عن كاهل المواطن السوداني، وكفى البلاد تهميشا وعنفا. الشعب السودان إكتشف سر اللعبة، وانتفض لقلع حقوقه وأخذها بقوة التجمهر والتوحد حول القضايا، مثلما حدث في امدوم وأرقو وسنار وغيرها، حيث لم يلجأ الشعب إلا إلى بعضه البعض ليتوحد ويخوض معركة ضد النظام، محددة الشعارات والمطالب، فكسب الجولة أو ما يزال يواصل العراك.. وما يحدث في البلاد من تأزم وتوتر لا يحتاج إلى تشريح لمعرفة أسبابه: قلة تتحكم وغالبية تتظلم. أما الفعل القادر على إحداث التغيير هو مواصلة الطرق، وبقوة، على الجبهات المختلفة، من قبل الناشطين المختلفين، والمتعددين، لمحاصرة النظام حصارا تاما ووضع الأمور في إطارها الصحيح. في موقع "روسيا اليوم" في الشبكة الأسفيرية، وفي لقاء مشترك مميز أجراه جوليان أسانج، صاحب قضية ويكيليكس المشهور، مع المفكرين نعوم تشوموسكي وطارق علي، قال الآخير: "أنا أحاول تجنب اعطاء المشورة للأجيال الشابة لأن الأجيال تختلف بعضها عن بعض، وبالنظر إلى أن العالم قد تغير كثيرا، فإن النصيحة العالمية الوحيدة المعطاة للجميع هي "لا تستسلموا" ... كنا نعيش خلال أوقات عصيبة، كما تعلم، حين ضاع كل شيء، وكثير من الناس أصبحوا سلبيين، ولكن السلبية تؤدي عادة إلى الاندثار .. واعتقد انه من المهم للغاية أن يعي الشباب الصغار الذين ينشأون اليوم أنهم بحاجة إلى أن يكونوا نشطاء ... النشاط هو الشيء الذي يؤدي إلى الأمل، وأنهم ما لم يتفاعلوا أنفسهم فلا أحد سيسلمهم أي شيء على طبق من ذهب ... هذا هو الدرس المستفاد من السنوات القليلة الماضية للجيل المتشدد الجديد ... لا تستسلم ... تحلى بالأمل ... إبقى مشككا ... كن ناقدا للنظام الذي يهيمن علينا جميعا ... وعاجلا أو آجلا .. إن لم يكن في هذا الجيل فربما في الأجيال القادمة .. الأمور ستتغير الميدان