رواية أحلام مستغانمي تراوح بين القلق والأمل والانكسار والقوّة وتصبّ في خانة الذات والمجتمع والحياة. تونس - من محمد المحسن مستغانمي تتهددنا بالومض والانتشاء رغم نغمة الانكسار والهزيمة لا يمكن أن ندرك حقيقة كتاب "عابر سرير" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي بمعزل عن كتاباتها ومن هذا المنظور يمكن تصور "شعرية نصية عامة" لمجمل الكتابات على ضوء الخصوصية والقراءة اللتين تقيمهما كتجربة خاصة، أولا كممارسة للكتابة الصحفية وثانيا كروائية.. ونطرح هذا ونحن مقتنعون بالتقاطعات والتداخلات التي نتصور أنها واردة بين كل هذه المستويات على مستوى النص والكتابة، وعلى مستوى الذات والمجتمع إلى حد المراهنة على إمكان تصور قراءة عميقة بين كل نصوص أحلام مستغانمي على امتداد ما يقارب عقد من الزمن. المتن الإبداعي ولعل ما سيعيننا على هذه القراءة وهذه الشعرية النصية، اطلاعنا على ثنائيتها الروائية، "ذاكرة الجسد" 1993 و"فوضى الحواس" 1998 . إن "قراءة" المتن الإبداعي لدى أحلام مستغانمي تمثل في تقديرنا أفقا للتساؤل حول خصوصية ما يسمى الكتابة لدى المرأة العربية، ليس من منظور العزل والمفاضلة بين أدب الرجال/كتابة الرجل وبين أدب النساء/كتابة المرأة بالشكل التعسفي المتداول في النقد والتنظير التقليديين لهذا الأفق، وإنما من منظور القراءة الحفرية الخاصة برصد ممكنات المتخيل والرمز والتباعد والتأطير والمجازات الأخرى التي تؤسسها . ولعل أبرز ما يعمق الإحساس بوجود خصوصية وقراءة في هذا السياق هو نمط العوالم الممكنة التي تشيد بكل رموزها وعلاماتها ومؤشراتها خاصة منها بنية الشخصية المحورية "خالد بن طوبال" التي ما فتئت –تتناسل- في ثنايا المجموعة كاملة. وإذا كانت رواية "فوضى الحواس" تبدو نصوصا متقطعة في الظاهر لاسيما وأنها تختزل ملفوظات تتكرر في شكل عناوين لفصول الرواية، ذلك لأنها تراهن على إمكان "القص" كميثاق، إلا أنها في الجوهر نص سردي متوحد باعتبار النبرة الخاصة في تشكل الشخوص وهي تتماوج بين خطابات المؤلفة، وخطابات السارد وخطابات المتلفظ و خطابات "المتكلم" وبين ممكنات تلقي المسرود له الذي يشترك في عمليات التخيل والانخراط. ومن ثم تنهض رغبة الكتابة "رغبة الكاتبة" ورغبة القارئ – المتلقي علائق انطولوجية حول الذات، حول المرأة/الرجل، حول "العالم العربي" إلى حد أن الملفوظ في "ذاكرة الجسد" مثلا يتحول إلى ملفوظ متراكب بقدر ما تجمع بين صوت المؤلفة وهي تستدرج السير الذاتي والتسجيلي، بقدر ما تتلاشى نبرة الواقعية لصالح متخيل بلا ضفاف. ويقود مثل هذا التراكيب إلى قيام نمط من عمليات التشاكل التي تفرز البنيات النصية.. وعمليات أخرى للتماثل تترتب عنها بنيات أساسها الإقصاء والعزلة والتمزق والأسى. وهي بنيات تغلف فضاءات الرواية المذكورة بكل تداعياتها، كما توجه البرنامج السردي وتتحكم في سلوك الشخصيات التي تؤول من جهتها إلى مرجعية شبه سير ذاتية وتسجيلية بدورها رغم الطابع التخيلي، وتتأكد مثل هذه الفرضية في بعض ملامحها عندما نراهن على تقريب حمولة الملفوض الحكائي من "لغة" "ملفوظ" الكاتبة التي تتخذ في أغلب الأحيان نبرة درامية ومأسوية مشبعة بالفجيعة خاصة عندما تنشد هذه المرجعية المذكورة إلى -حرب- لبنان كذاكرة محفزة، في كل معركة كان لك جثة. في كل مذبحة تركت قبرا مجهولا. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شيء كان في انتظارك غير قطار الموت. هنالك من أخذ قطار تل الزعتر، وهناك من أخذ قطار "بيروت 82" أو قطار صبرا وشاتيلا... وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة في مخيم أو في بقايا بيت.." ذاكرة الجسد ص 250" لعبة الاختفاء والانكشاف تكمن إيحائية العنوان عندما تقرن التساؤل الفلسفي- الأنطولوجي حول الكتابة بتساؤلات أخرى على مستوى تشكل النص وتشكلات الخطاب والملفوظ فيه، ويتخذ بعضها طابعا إشكاليا يقف عند حدود الميثاق التشاكلي و بقية المواثيق الأخرى التي تنبثق من منظومة كل النصوص، ومن تلك الأسئلة، عن أي "سرير" تتحدث رواية "عابر سرير"؟ إن أبرز مكون يستبد بهذه الرواية هو ممكن التردد والتوتر بين لحظة القول رمزيا ولحظة البوح بالفعل كذات متعالية. ومن ثم يتأسس صراع عنيف بين المسكوت عنه والمباح إلى حد الانخراط في جدلية تصاغ من خلالها ثنائية الاختفاء والانكشاف "الخفاء والتجلي"، بين أن تتكلم الذوات أو تلجأ إلى الصمت، إلى السكوت الإرادي المبعد، بين أن تختار الذوات الاعتراف، أو أن تبايع –تآسيا- نفيها الذاتي. وهكذا تتحول رواية "عابر سرير" إلى نص مطارد لا يقر له قرار، ويتوزع بين ذوات مختلفة تشترك كلها في العزلة على هامش نصوص أخرى هي "نصوص" المجتمع والحياة و"نصوص" المؤسسات الرمزية التي تجنح لمحاصرة الذوات ومحاصرة "الكلام" وهذا يعني أن المسكوت عنه في "عابر سرير" هو سلطة إيهامية تتخذ عبره الكتابة لدى أحلام مستغانمي طابع لحظة اقتناص لمن يريد أن "يتكلم" لغة أخرى غير لغةالمهادنة، ولحظة اقتناص لمن "حرم لذة القول" لذلك يتحول الصوت السردي في تضاعيف "اللغة" المباشرة للرواية "اللغة الأدبية" إلى صوت مضاعف يروي عن طريق استدعاء" من طرف الساردة" لصوت يحكى "صوت الشخصية" كل ذلك من أجل تغييب سلطة الواقع المترجرج. المسكوت عنه المسكوت عنه في رواية "عابر سرير" ميثاق مشترك بين صوت "الكاتبة" و"أصوات" شخصياتها. فهي الشخصيات -لا تتكلم- إلا بعد أن يؤذن لها بالكلام، وعندما تقول هذه الشخصيات "الأصوات" الذي لا يقال (...) تغلق الكاتبة الباب أو تفتحه بمقدار، وتلغى جلسة "مسافات" الاعتراف وتحتفظ لنفسها بالسر، وقد تقيم جلسة أخرى مع شخصية أخرى في مشهد آخر، من يستدعي من؟ من يحاصر من؟ إن خدش حميمية الآخر لا تتأتى إلا بالتعري الدميم للبوح. هذا كلام تعلمته منك في ذلك الزمن البعيد أيام كنت استجدي منك اعترافا بحبي فتجيب "أي طبق شهي للبوح لا يخلو من توابل الرياء. وحده الصمت هو الشيء العاري الذي يخلو من الكذب" عابر سرير ص 192. يؤلمني انك مازلت لا تعي كم أنا جاهزة لأدفع مقابل لقاء معك. عيون زوجي مبثوثة في كل مكان... وأنا أجلس إليك في مقهى غير معنية أن مت بسببك في حادث حب. أنا التي لم أمت بعد، فلكوني عدلت عن الحب و تخليت عن الكتابة. الشبهتان اللتان لم يغفرهما لي زوجي. نفس المرجع ص 191. "الصوت" الذي يتحدث في المقطع الأول هو صوت شهرزادي قبل أن تقع شخصيته "شخصيتها" في قبضة السياف "أو قبضة شهريار" الذي سيمارس عليها –إكراهاته- ويجعلها حبيسة في مدارات مجلس الأمن المؤسساتي "المؤسسة الزوجية" ومن ثم نراها تستعيد –شبق- الأزمنة المشتهاة المغلفة بالحب والجنون، علها تنجو من الموت البطيء. من أزمنة الموت السرمدي إلى الحياة. الكاتبة في أسطر إن الكتابة لدى أحلام مستغانمي من هذا المنظور كتابة إشكالية لأنها لا تقف عند حدود الوعي المسبق في تصور وضع "المرأة" كواقع أمر أو كأمر واقع، إنما تسعى إلى أن تظل كتابة شذرية أساسها إلغاء المسافات بين التسجيلي والواقعي والتشكيلي. ومن هنا تنهض في كتابات أحلام مستغانمي تلك النبرة الفاجعة التي شنتها تجربتها عبر "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس" نبرة التمزق وتفتت الهوية الميتافيزيقية. ومن هنا ثانية تتحول هذه الكتابات إلى مختبر يحاول أن يستضيف في كونه المغلق قلق الأسئلة النصية والتجريب، التحميض، التركيب والتمويل. إنها كتابة قلقة وقلق "المكتوب" وبين هذه وتلك تستمر الإبداعات في التوالد والإشعاع يجمعها أفق واحد ووحيد. وعلى من يقرأ أحلام مستغانمي أن يتركها جانبا ليدركها أكثر حيث هي، وحيث لا توجد إلا كحورية تتهددنا بالومض والانتشاء رغم نغمة الانكسار والهزيمة.