إشتهرت ساحة السياسة السودانية بعدد ليس بالقليل من قيادات الأحزاب والتنظيمات السياسية، وطلائع السودانيين في مختلف ضروب النشاط العام، من الذين حباهم الله بمميزات أبرزها الذكاء الفطري والقدرة على إدارة الصراع داخل بنية هذا النشاط المتحرك بمزيد من عصارة دهائهم لتوجيه ما ستسفر عليه عملية الصراع لصالحهم، فيخرجون من كل معركة خاضوها بانتصار يحسب لسيرتهم الذاتية ويرفع من أسهم المكانة التي يضعهم فيها المريدون والمشايعون تبجيلاً واحتراماً!، نرصد هنا نماذج من هؤلاء الساسة وكبار رجال الأعمال كنماذج حية للدواهي وهي تقوم بتصريف أعباء مهامها وواجباتها بمزيد من الدهاء والذكاء اللذين لا يشكلون أي مردود سالب بين دوائر المعارف والمريدين وحتى الأعداء والمنافسين عندما تصفو النفوس في المستقبل!:- الشريف حسين الهندي ،، داهية اللعب بالبيضة والحجر عُرف رحمه الله بذهنه الوقاد، وقدرته على حل أعقد المسائل لصالحه، سواء كان ذلك في حقل المال والاقتصاد، أو في حلبة الصراع السياسي، وهو في ممارسة دهائه الناعم، يستطيع اللعب على جميع المتناقضات التي يجمعها بموازنات دقيقة، ويعلم كيف يبقيها تحت سيطرته دون خسائر فادحة، بحيث يمكنه أن يلعب بكفيه لعبة البيضة بالحجر ويخرج من أشواط اللعب منتصراً دون زهو أو تعال!. عندما وصل الصادق المهدي زعيم حزب الأمة إلى لندن سنوات النظام الديكتاتوي العسكري لمايو والنميري، وفي إطار التنسيق بين أحزاب الجبهة الوطنية "الأمة والاتحادي والأخوان المسلمين" للعمل على إسقاط النظام وإحلال هذه الأحزاب في مكانه كبديل!، قدر الشريف حسين والذي كان يقود معارضة حزبه من لندن، بأن أهمية ومكانة الصادق المهدي وحزبه، وأنصاره المقاتلين في معسكرات أثيوبيا وليبيا، تلزمه بأن يضعه تنظيمياً في المكان الذي يليق به، وبالفعل وما أن استقر الصادق في عام 1975 بمدينة الضباب، حتى بادر الهندي باستقباله بحفاوة، وبما أنه خبر الصادق المهدي جيداً، فقد بادر بالتنازل له عن رئاسة الجبهة الوطنية – حيث هي برتكولية وشكلية ليس إلا - طائعاً مختاراً ليصير هو نائباً له، وأهداه عربة فاخرة ووضع له مبلغاً كبيراً من المال بإسمه في أحد البنوك البريطانية وخصص له مسكناً فارهاً في قلب مدينة لندن، ولكنه وهو الذكي بفطرته وتحسباً لغائلة الزمان، كان يمسك بلجام بعض المهام الحساسة كالمالية والتمويل والعلاقات الخارجية! مع موافقة ضمنية منه لكي يوقع معه الصادق على شيكات الصرف عند سحب أي أموال من الرصيد بالبنك!. سارت الأمور على هذا الشكل، وحدث أن صعدت أحزاب الجبهة الوطنية من وتيرة معارضتها العسكرية ضد النظام المايوي بالمواجهات الدموية التي وقعت، مرة بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الشهيد حسن حسين عام 1975، والثانية بمحاولة إسقاط النظام عن طريق القوة المسلحة التي قادها الشهيد العميد محمد نور سعد في 2 يوليو 1976 وأطلق عليها نظام النميري وقتها الغزو المسلح للمرتزقة. وعندما استشعر النميري خطورة معاداة كل القوى السياسية ضده وتتالت المحاولات الانقلابية الجريئة عليه وعلى نظامه، قدر أنه ربما لا تسلم جرته في كل حين، فتوصل إلى أهمية إستمالة قوى المعارضة اليمينية على الأقل إليه، وإجراء تصالح شكلي، طالما أنه سيضمن له قدرته على وضع هذه المعارضة تحت إبطه. وهكذا جرت الأمور على هذا النحو، والتقى الصادق المهدي بجعفر النميري ببورتسودان، وتم الاعلان عن ما سمي بالمصالحة الوطنية. كان الشريف وقتها يتابع بصمت الجهد الذي بذله الصادق المهدي للدخول مع النميري في مساومة تاريخية، ويرصد التهافت الذي أبدته قيادات حزب الأمة، ومعهما الأخوان المسلمين لاتمام صفقة المصالحة مع النظام، فظهر الشريف بمظهر المبارك لخطوة المصالحة وترك للصادق الحبل مرخياً. وعند نهاية أشواط المباحثات التي جرت وفوض فيها الهندي شريكه الصادق المهدي لقيادة المباحثات بإسمه، ونجح نميري عن طريق موفده رجل الأعمال فتح الرحمن البشير في التوصل لاتفاق المصالحة مع الصادق، قرر الصادق وعلى الفور العودة للسودان على رأس وفد كبير، فبارك الهندي الخطوة على أن يلحق بهم فيما بعد!. ثم حانت اللحظة الحاسمة ليضرب الشريف ضربته بتجريد شريكه الصادق من إمتيازات التوقيع المالي، دون أن يشعره بما عزم عليه، وهكذا عند لحظة وداع الصادق المهدي والوفد المرافق له بمطار هيثرو بلندن عند المغادرة النهائية والعودة للخرطوم، أوضح الشريف للصادق بصورة فيها كثير من دهاء ناعم وهدوء لا يثير أي ريبة، بأن عليهم تسديد إيجارات الشقق ومصروفات العاملين المتفرغين قبل تسريحهم وبقية المصروفات الأخرى التي عليه تسديدها من وسائل نقل وخلافه قبل مغادرة لندن للحاق بهم في الخرطوم، فطلب منه بعادية شديدة أن يوقع على شيك قدمه له، وسيكتب هو فيما بعد الرقم المطلوب سحبه بعد حصر ومعرفة المنصرفات بالضبط!. وهكذا ودون أن يفطن الصادق المهدي، وهو يتعجل التوجه لباب الطائر الميمون المتوجه صوب العاصمة السودانية، قام بالتوقيع على (الشيك البياض)!، وبمجرد خروج الهندي من باب المطار، توجه فوراً إلى البنك ليسحب جميع المبالغ المودعة فيه – والتي قدرت بالملايين - ويحولها بإسمه وتوقيعه هو فقط إلى أحد البنوك السويسرية، وانتهت القصة!.