تختصر صورة الرئيس السوداني عمر البشير، الزائر لمدينة جوبا الجنوبية عاصمة الاقليم الذي سيصبح دولة مستقلة اعتباراً من الاحد المقبل، مساراً تاريخياً بائساً قطعه العالم العربي طوال اكثر من نصف قرن، وخياراً سياسياً أشد بؤساً يعتمده العرب لمستقبل لا يوحي بأقل من زوال الفكرة القومية التي كانت تجمعهم.. والتي كانت من نتاج مستعمريهم الأوروبيين. الرجل لا ينتمي الى العروبة ولا يمثلها، لكنه بلا شك أحد أهم رموز نهايتها وانتقالها بالوراثة الى تيارات إسلامية انقلابية تدق أبواب السلطة في اكثر من بلد عربي، وتهدد بكسرها. هو إسلامي أكثر مما هو عروبي، ومسؤولية التقسيم المقبل للسودان تقع على ذلك المد الإسلامي الذي حكم الخرطوم طوال العقدين الماضيين، اكثر مما تقع على التيار القومي الذي كان قد هزم في السودان، حتى قبل ان تبدأ الحرب في الجنوب في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. لكن الأمر يتعدى الآن إلقاء المسؤوليات وتوزيع حصصها. فالاستعمار البريطاني ترك للأكثرية الإسلامية ذات الوجه العربي بلداً محدد المعالم، ظل العرب طوال عقود الاستقلال يشككون في ضيق أفق خريطته الحالية ويدينون مؤامرة فصلها عن الشطر الشمالي المصري من وادي النيل، فإذا هم يكتشفون انها مرشحة لإدخال تعديلات جوهرية، ستكون الاولى من نوعها في العالم العربي، منذ قيام دولة اسرائيل على انقاض الدولة الفلسطينية التي لم تسعفها الخرائط الدولية ولا الوقائع السياسية. هذا الاكتشاف المتأخر ينم عن تهالك عربي لا شك فيه، وعن استسلام لرعاية اجنبية لا لبس فيها. لكنه ربما يوحي بنوع من النضج العربي، وبقدر من التسامح والتساهل من جانب الأكثرية العربية والإسلامية مع الأقليات التي عاشت مع العرب وفي وسطهم لكنها ضاقت ذرعاً بهم وباضطهادهم وظلمهم وفشلهم في إقامة دول مدنية طبيعية، فوجدت في الظرف التاريخي الراهن، المتمثل في عودة الاستعمار الاجنبي بشكله الاميركي الحديث، فرصتها لطلب حق تقرير المصير والاستقلال. التسامح دليل ضعف إكيد، لكنه أيضاً دليل واقعية تستحق التوقف عندها: بدلاً من تجريد حملة عسكرية جديدة على تلك الأقلية السودانية الجنوبية التي عانت على مدى 65 عاماً ما يشبه الاستعباد من الأكثرية العربية، على غرار ما فعل حكام الخرطوم الإسلاميون اكثر من مرة وتعاملوا مع الجنوب باعتباره هدفاً للفتوحات والسبي، اختار الشمال السوداني هذه المرة ان يجرب الطريقة الاخرى وهي الاحترام لخيارات الجنوبيين والتعامل معهم بصفتهم بشراً وليسوا سكان ادغال متوحشين، والرهان على ان المستقبل المبني على الحكمة السياسية والعدالة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية يمكن ان يعيد الامور الى سابق عهدها. وهو رهان معقول وأقل كلفة من تجديد الحرب الأهلية. ولعل اهميته تكمن في انه يحرر الجنوبيين السوادنيين من نير أشقائهم الشماليين، لكنه أساساً يفتح آفاق تغيير جذري في الوعي والثقافة والممارسة في الشمال، حيث تجد الاكثرية نفسها اليوم امام أسئلة مصيرية فعلاً، لا يمكن الرد عليها بأجوبة من الماضي العربي او الإسلامي الذي فكك السودان. ساطع نور الدين السفير