يبدو أن أنهار الدماء اتخذت من طرقات جنوب السودان مجرىً لها، فها هي أحداث يوم أو يومين تخلف مئات الجثث، التي ضاقت بها مستشفيات عاصمة الدولة، التي لم تتجاوز سني عمرها العامين بعد، فالصراع بالجنوب هذه المرة لم تشر فيه أصابع الاتهام إلى جهات خارجية كما في السابق، وإنما هو نتيجة لصراع مراكز قوى داخل حزب الحركة الشعبية، التي تدير الدولة، والقبيلة هي اللاعب المؤثر في مسرح الأحداث، وهذا ما يجعل الأمر أكثر خطورة، ويزيد نيران الصراع اشتعالاً. طغيان القبيلة الصراع بين رئيس جمهورية جنوب السودان سلفاكير ميارديت ونائبه المقال رياك مشار، وإن بدا في ظاهره صراعاً على السلطة بين رجلين متنافسين، غير أن المتتبع لتطورات الأمر بعد الانفصال وتعقيدات المجتمع المحلي في جنوب السودان، يرى أن التنافس ليس بين رجلين طامعين في عرش الدولة الغنية بالنفط فحسب، بقدر ما هو طغيان لسلطان القبيلة الممسك بتلابيب المجتمع هناك، فسلفاكير المنحدر من قبيلة الدينكا، التي تمثل أكبر المجموعات التي تقطن جنوب السودان وهي ذات القبيلة التي ينتمي إليها مؤسس الحركة الشعبية د. جون قرنق، لا تخفي مساعيه الرامية، للاستقواء بقبيلته وإمساكه بمفاتيح الدولة الجديدة والحزب بعيد الانفصال، حيث قرب إليه العناصر المنتمية إلى مجموعته، أو تلك التي ليس لها نفوذ قبلي، كما أبعد العناصر المؤثرة، التي يخشى منافستها له. أما غريمه ونائبه السابق مشار فهو ينتمي لثاني أكبر المجموعات وهي قبيلة النوير، التي اشتهرت بشراستها في الحروب وقوة شكيمتها، وما بين الدينكا والنوير، ثارات وغارات مستمرة حتى في ظل الوطن، حيث ظل الاشتباك ما يميز العلاقة بين المجموعتين، فإضافة إلى الطموح العالي، الذي يميز رياك مشار، والدرجات العلمية التي يحملها فإنه يستند بجانب طموحه في قيادة الدولة إلى نبوءة أحد عرافي قبيلته، التي تشير إلى أن الجنوب سيحكمه احد أبناء قبيلة النوير، ومن صفاته أن بعينه حول وأشول، وهي صفات تنطبق على مشار، ولما للعرافين من نفوذ في المجتمع الجنوبي فإن تلك النبوءة مثلت هاجساً كبيراً لكير. ظهور الخلاف وظهر الخلاف بين سلفاكير ومشار للعلن عندما أقدم الأول في منتصف أبريل الماضي على سحب السلطات، والصلاحيات التنفيذية للثاني عقب خلافات ومناقشات حادة دارت بين الرجلين، خلال اجتماع للمكتب السياسي للحركة الشعبية الحزب، الذي ينتمي إليه كليهما، بسبب تقدم مشار بترشيح نفسه لرئاسة الحزب، ليكون المنافس الأول لسلفاكير، وتطورت الخلافات بين الاثنين إلى أن أعلن سلفاكير في يوليو الماضي إقالة مشار من منصب نائب رئيس الجمهورية وتعيين جميس واني ايقا بديلاً له، ورغم البرود، الذي قابل به مشار قرار إقالته فإن كل المؤشرات كانت تشير إلى أن الأمر لن يقف عند هذا الحد.