تعقيبا علي عبارة وردت في حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل الأخير لقناة سي بي سي, عن أن السودان عبارة عن جغرافيا وتحالفات قبلية, ثارت ثائرة الكثيرين في السودان وتمت إعادة إنتاج كل القضايا والوقائع التي تطرح في سياق الاستدلال علي التعالي المصري علي السودان والسودانيين. وفي الخلل الذي يعتري هذه العلاقة, بدءا من حكاية الزعم بحصر صورة السودانيين في دور البواب في السينما المصرية, وصولا الي القول بجهل المصريين بالسودان وعدم معرفتهم الكثير من التفاصيل عنه, علي عكس الحال لدي السودانيين الذين يعرفون عن مصر أدق التفاصيل, وغير ذلك الكثير مما يساق في هذا المجال وينسحب علي السد العالي ومساندة السودان لمصر في أزمة حرب1967, كأمثلة, في الوقت الذي يتم فيه تناسي وحذف اي عمل ايجابي لمصر تجاه السودان علي الإطلاق, وتصوير مصر كأنها مصدر الشرور. ورغم ان المضمون الذي حملته عبارة الأستاذ هيكل ليس جديدا, إذ هو معروف ومتداول لدي الباحثين المهتمين بالشأن السوداني, ويتم التعبير عنه عادة بالإشارة إلي عدم اكتمال مشروع بناء الدولة الوطنية في السودان, وهو التعبير ذاته الذي استخدمه الإمام الصادق المهدي في إحدي زياراته المتكررة لمركز الأهرام للدراسات, ولكن ربما لان القائل هذه المرة هو الأستاذ هيكل بما له من ثقل وتأثير واسع, فقد اختلف الوقع ورد الفعل, وربما لان الصياغة أيضا كانت مباشرة وربما صادمة بدرجة ما, لاسيما وان الأستاذ هيكل يعرف مدي حساسية الإخوة في السودان لما يكتب أو ينشر عنهم في مصر بالذات, وربما هذا ما يفسر أيضا ابتعاد هيكل وامتناعه لسنوات طويلة عن التعليق عما يجري في السودان وله. غير ان هذه الحادثة لم تكن أمرا يخص ما قاله الأستاذ هيكل فقط, بل امتدت في الآونة الأخيرة لتشكل ظاهرة آخذة في الاتساع والتمدد, بشكل يسترعي الاهتمام والانتباه, لما سيكون لذلك من أثر سالب علي صلات وشيجة ومصالح متبادلة سوف تبقي رغم حالة التوتر والمراوحة في العلاقات السياسية بين البلدين. الظاهرة التي نتحدث عنها تتمثل للأسف في سعي كثير من عناصر النخبة السودانية الي تحميل مصر المسئولية المباشرة أو غير المباشرة لكل مشاكل السودان وأزماته, بما في ذلك انفصال الجنوب, ويمكنك أن تستمع إلي أطروحات متناقضة تماما من أطراف سياسية ومجتمعية مختلفة, عن الدور المناط بمصر القيام به, وعما لم تفعله وخذلت فيه هذا الطرف او ذاك. ولكن موضوعنا هنا هو الاتجاه الذي بدأ يتطور مؤخرا, باتجاه شن ما يمكن أن نطلق عليه حملات شعواء تحمل معاني بالغة السلبية ضد مصر, فتجد مثلا من يتبرع بتقديم دعم مطلق للموقف الاثيوبي من أزمة سد النهضة, ليس دعما لمصالح بلادة, بل نكاية في مصر, ومن يسحب هذا أيضا علي كل قضايا مياه النيل بما في ذلك اتفاقية عنتيبي أو قناة جونقلي في جنوب السودان, فأصبح كمن يجدع انفه لكي يغيظ مصر, وفي الوقت نفسه تجد من يثير من حين لآخر قضية حلايب( وتورط احدهم مؤخرا بفضيحة فبركة وقائع كاملة حولها), التي أصبحت مثل حصان طروادة, يتم اثارتها واستخدامها بشكل دوري من أطراف عدة لأسباب متباينة وأحيانا متناقضة, ومحاولة تصويرها بأنها قضية صدام ومفاصلة مع مصر. في هذا السياق نفسه تبرز مواقف العديد من كتاب الأعمدة الذين يعمدون بسبب او بدون سبب إلي الهجوم علي مصر وتعداد أفعالها السلبية تجاه السودان دفعت احدهم ذات مرة أن يكتب مقالا طويلا في إحدي الصحف المصرية الناشئة, تحت عنوان لماذا تكرهوننا. ومؤخرا تجد من يكتب أن إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه بتهمة الردة, في عهد الرئيس نميري عام1985 كان بأثر من دخول محمد علي إلي السودان عام.1821 إن خطورة هذا الأمر انه يتحول بمرور الوقت إلي جعل العداء لمصر وكأنه احد محددات الوطنية السودانية. إن ما سبق لا ينفي ان هناك الكثير من أصحاب الأقلام والرؤي الثاقبة في السودان الذين يدركون عمق المصالح المشتركة, وحتي لو تحفظوا علي بعض سمات العلاقات المصرية السودانية, إلا أنهم يضعون ذلك في إطاره التاريخي وبوزنه المقدر ويطالبون بالإصلاح في اعتدال وروية. لذا وبغض النظر عن الخلافات السياسية, فإننا نضم صوتنا الي هذه الفئة الاخيرة, فهناك حاجة ملحة لبذل جهد مشترك من اجل فهم أفضل, ومن اجل الحفاظ علي ما تبقي من وشائج ومصالح, ومن اجل مستقبل أقل اضطرابا و أكثر وعيا بالتحديات. الاهرام