تُعتبر الخطبة الرئاسية من بين أهم تمثلات الممارسة السياسية الكلية للسلطة.وهي تعرّف كبناء فكري يحمل وجهات نظر محددة،تُقدم كمفاهيم أو كاطروحات.وتصاغ وفقاً لذلك في تركيب لغوي استدلالي،ضمن عملية التواصل مع الجمهور الذي يستهدفه الخطاب.وعادة ما تلي الخطبة الرئاسية مقاربات تحليلية تُخضع الخطاب للرصد، كنص مكتوب،وكإنتاج كلامي ملفوظ.حيث يأخذ التحليل بعين الاعتبار مهارات الإلقاء،من إيماء وتوظيف للغة الجسد.إضافة لقيمة الفصاحة وفن الخطابة وما ينطوي عليه من طاقات تأثيرية.كما أن تحليل الخطاب يتحرى فحصه على مستوى المصرح به والمضمر على حد سواء.فالتعامل في الشأن السياسي يحتم بدوره الوعي بالفجوة الخطيرة بين اللغوي المنطوق والأيديولجي المسكوت عنه.وما يقتضيه ذلك من هندسة لغة الخطاب، وتوظيفها لحمل المفاهيم الموجهة. ولذلك فإن الخطاب الرئاسي يؤول بالضرورة بإدراجه ضمن الخطابات الأخرى التي تنتجها السلطة،ليضاهى بها في محاولة للتعرف على السلوك السياسي الكلي للنظام.مع العناية،كما أسلفنا ،بالمكر اللغوي الذي تمارسه المخيلة الأيدلوجية لتسخير اللغة كعنصر قوة، يُوظف لخدمة أهداف ومرجعيات السلطة.مما يوجب طبخ اللغة بأناة على المستوى التركيبي والمعجمي والدلالي لتحقق أهداف الكيان الذي أنتجها،عبر عملية البث والتلقي.حيث يكون المتلقي في قلب لوحة التصويب السلطوية. وفي حالتنا السودانية فإن التحليل اللغوي لخطابات السلطة،الذي يعكف عليه بعض المهتمين،غالباً ما ينهمك في محاولة إضاءة ذلك الصدع الدامس بين ما يعلنه الخطاب وما يتغافل عنه،أو يخفيه بين السطور ،وفي تلافيف اللغة.وعادة ما يعين اطراد الكلمات وتكرارها على القبض على علاقة تلك الألفاظ بالأيدلوجيا.ولعل تكرار ورود مفردة "وثبة" ،على سبيل المثال، في صياغات متعددة، يكشف عن تعمد إكساب اللفظ قيمة إضافية ترتبط بدلالات ثورية نهضوية.رغم أن الواقع الماثل يفند تلك "الوثبة" التي لا يجوز أن يقترفها ،ولو لفظياً، من التصقت ذيوله بقعر الهاوية.أما على مستوى المخاطبة الجماهيرية فنجد أن هناك شبه اتفاق على أن السلوك الكلامي للسلطة قد توزع بين تجييشي صاخب، ومموه ملتبس، وتلفيقي زائف، أو تنديدي جامح.وفي أحيان أخرى تهديدي متوعد، أو بذي متخاشن، أوسوقي مبتذل.كرصيد شائن يتراكم ليدمغ ذلك السلوك الكلامي بالانحدار ،والحدة والاضطراب.مما يشير بدوره للتخبط وغياب الرؤية.إضافة إلى احتمال القطيعة بين طرفي الاتصال من مرسل ومتلقي.والتي قد تقع كنتيجة مباشرة لعدم احترام القواعد الأخلاقية الضابطة لعملية التواصل. مما يؤدي لتثبيط طاقات الخطاب التأثيرية والإقناعية، والعصف بإمكانية التفاعل المرجوة. فاذا عدنا للخطبة الرئاسية الأخيرة، والتي بُذلت لها العديد من المقاربات، التي اشتغلت على فحصها ومحاولة كشف مضمراتها،فإننا نجد أن جل المحاولات قد مالت لجهة أن الخطاب قد جاء مفتقراً للوضوح والإبانة ،مع فشله في مقابلة التوقعات الكبيرة التي أحاطت به في ظرفية سياسية دقيقة.وذلك دون الوقوف كثيراً عند العسر والتعثر الذي أطاح بجل أركان الخطابة،حتى بدا أن بلوغ بر السلامة النحوية واللفظية مقام كؤود، عصي المنال، شاق الدروب.وهو مثال مفرد لما قد تفعله اللغة بمن يستسهل الرعي الجائر في أكنافها. لكن ماذا إن كان السلوك اللغوي الذي بدا للبعض وكأنه نزوة استعراضية فاحشة، أو تباهٍ خرج عن السيطرة ،ليفسد من ثم سانحة التواصل وانتاج المعنى،قد كان في حقيقته أحد فصول لعبة الأقنعة التي استطاعت أن تنجح في خدمة أهداف السلطة المنتجة للخطاب؟! وفي هذه الحال يكون التمويه والتعويم والإخفاء قصدية واعية سعى إليها الخطاب،وليس عرضاً جانبياً لنوبة تبجح لغوي مكلف.وبالتالي يكون الخطاب قد أصاب هدفه، وكسب رهانه الخاص، وانسل وتركنا نتزاحم للقبض على سرابه المخادع. وغني عن القول أن الإرباك والغموض قد ظل يتجلى كممارسة سياسية صميمة،حيث ظلت اللغة تُسخّر للتشويش والتخدير والاحتواء.وصولاً للصبغ الإيديولجي،وتغييب الوعي وتعطيل ملكة التحليل والنقد، ومحو الذاكرة، ومن ثم الاستحواذ على الإرادة لرسم الخطط وتحديد الأدوار،وتمرير المفاهيم والتصورات والأطروحات التي تُقدمها الوثوقية السلطوية ،بافتراض مسبق متصلب، كحقائق متفق على صحتها وموضوعيتها وبداهتها . حيث يتم توظيف اللغة في جميع مستوياتها ليس فقط للتكتم والإبهام وإخفاء الفكر (كما قالت بذلك الملحوظة المهمة لأحد المهتمين الحادبين، في تعليق فوري على الخطاب،مما حرض على كتابة هذه المحاولة للقراءة) بل وأيضاً لإخفاء غياب الفكر .بخصف اللغة على سوءات خطل اللامعنى واللارؤية واللامنهج. وهكذا فإن الشروحات والإيضاحات والتفسيرات مهما اُجزلت قد لا تحيط بباطن الأمر الذي قصد به التشويش والحجب، ومقاومة إنتاج الدلالة والقابلية للفهم.مع إجادة المراوغة والتفلت.وهو ما يعود بنا كرة أخرى لحيلة التوسل باللغة لإسدال عباءاتها ،وتكوير طبقات عمائمها لتستر ذلك العُري الفكري والمنهجي الفاضح الفادح.وما يترتب عليه من مسغبة إنتاج أفكار و رؤى تلامس المعضلات والمآزق التي نهشت ما تبقى من الوطن وإنسانه المنكوب. ولنا في الجهد البحثي الرصين لأمثال الراحل الخاتم عدلان ،له وافر الرحمة،ذخر فكري تكشف رؤاه السابرة الممارسات السلطوية للمؤسسة السياسية المتأسلمة.ومن ذلك استئناسها باللعب اللغوي الخبيث،وتمهرها في الابتزاز والإحراج بالدين لإستنزاف الآخر، وحبسه في خانة الدفاع.مع توخي إسالة القداسة على الخطاب والأطروحات السلطوية،لإنفاذ محتواها بعد تنزيهها ورفعها عن مستوى الفحص المستريب والتناول الناقد.ولننظر على سبيل المثال للخطبة الرئاسية وهي تقدم نفسها ككيان مختار مضطلع بدعوة (ولا تفرقوا). وهكذا فإن السلطة التي سفكت الدماء وأزهقت الأرواح في سبيل مآربها، وجوع شهواتها الذي لا يُسد،ولأجل نجاتها الباهظة وتمديد عمرها،قد لا تتورع عن إراقة اللغة أيضاً على سبيل الافتداء. [email protected]