يتذكر عابدين خضر محمود الشهير ب(عابدين درمة) ان جنازة عمه (ادريس) كانت بمثابة نقطة تحول في حياته. وبطبيعة الحال لا ينسى الحانوتي المشهور ان عدم وجود متخصص يومها تسبب في ان ينسرب حب الحانوتية الى قلبه. بل ان "درمة" الذي كان حينها يطرق ابواب العام الثالث عشر بنضارة الشباب، قرر انه لابد ان يكون له شأن مع مهمة دفن الموتى. نصير الرأسمالية حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بما يفيد ان اسرة الراحل محجوب شريف قررت انه لا ينبغي لعابدين درمة ان يضيف الى قائمة المشاهير الذين قام بدفنهم، شاعر الشعب، الذي انهى حياته بإغماضة اخيرة عصر امس الاول. وربما هذا ما جعل منابر الراي تضج بالتدوينات المؤيدة للخطوة والناقدة لها، لكون ذلك فيه شططا. بينما يرى الآخرون ان الخطوة تنم عن مبدئية نادرة، لا تتوافر الا للرفاق الزملاء. ولعلها هي المبدئية ذاتها التي جعلت محجوب شريف واسرته ترفض ان يطأ وزير الصحة بولاية الخرطوم البروفيسر مامون حميدة تراب غرفة شاعر الشعب بمشفى تُقى الخاص، لكونه – حميدة – غير مؤهل اخلاقيا لتفقد الرجل الذي يعاني من مشكلات كبيرة في الجهاز التنفسي، فشلت معها المشافي الحكومية في تطبيب حالة الرجل. المهم ان حميدة وجد نفسه محظورا من معاودة محجوب شريف بامر اسري مغلظ، حتى ان الاسرة حملّت الوزير المثيل للجدل ايما مخاطر صحية يمكن ان تترتب على زيارته عنوة للرجل مستغلا نفوذه الحكومي. على خطى الوزير لم يكن حظ عابدين درمة افضل من وزير الصحة الولائي، فقد وجد الحانوتي المشهور – بحسب روايات كثيرة - نفسه مطرودا من الرفاق، بحجة ان الراحل محجوب شريف اوصى بان يشرف على مراسم دفنه اشخاص ليس فيهم "درمة". ولعل ذلك ما جعل كثير من التحليلات تنحو ناحية الصراع التاريخي بين اليمين واليسار، اذ ان كثير من المدونين والمراقبين رجحوا ان يكون شاعر الحزب الشيوعي وركيزته البائنة محجوب شريف رأى في الحانوتي المشهور نموذجا تتماهى مواقفُه – ان لم تنصهر تماما – مع المؤتمر الوطني الحزب الحاكم. وما يسند هذه الرؤية ان مدونين – مقربون من محجوب - ذكروا حرفا، ان الراحل اوصى بأن تختفي مظاهر الحزن في تشييع جثمانه، وانه طالب زوج ابنته بان يستحيل العزاء الى منتدى ثقافي او اي ملمح فكري آخر, فضلا عن ان الراحل اوصى بعدم السماح لاي منسوبي الحكومة بالسير في جثمانه". وذلك بعد ان اوصى بان يصلي عليه الشيخ الادريسي الذي صلى على سكرتير الحزب الشيوعي السابق الراحل محمد ابراهيم نقد. المهم ان درمة وجد نفسه مغضوبا عليه من قبل اسرة الراحل محجوب شريف، لكون الاسرة ترى فيه واحدا من رجالات الانقاذ، - اذا صدق ما اشيع عن الواقعة – مع ان الحانوتي المشهور الذي تخير ان يعنوّن صفحته على "فيسبوك" التي تضم نحو (4520) صديقا، بانه ليس مع او ضد احد وانه "مع الحقيقة اين ما وجدت" كتبيان لموقفه السياسي. ايدلوجية المدافن تصلح الحادثة – حال ثبوتها – للتأسيس لنوع جديد في التعامل مع الحانوتية – وخصوصا المشاهير منهم - انطلاقا من المدارس الفكرية، واستنادا الى التوجه السياسي. بل ان الواقعة ترقى لان تمنح عابدين درمة وشاحا يبز به حسن العريف "شيخ الحانوتية" في مصر، الذي يطلق عليه حانوتي المشاهير، وايضا حانوتي الثورة التي انهت حكم حسني مبارك. اذ ان "العريف" قام بإهالة التراب على رجالات حسني مبارك وابرز معاونيه ابان حكمهم، قبل ان يتولى ذات الرجل مهمة مواراة جثماين شهداء ثورة (25) يناير، في إعتيادية لا يرى رفاق السودان انها تشفع لعابدين درمة. لكن مع ذلك فان كثيرين يرون ان خطوة اسرة الراحل محجوب شريف تبدو موفقة، استنادا الى ان عابدين درمة اضحى هزليا اكثر مما يجب، وانه يفتقر احيانا الى الصرامة المطلوبة في المواقف الحزائنية. وعلى نحو يقارب هذه الوجهة فان درمة المولود بودنوباوي في العام 1960م، والذي تعود جذوره الى جزيرة لبب مسقط رأس الامام المهدي، يصر على ان تعلو وجهه ابتسامة منظورة حتى في عز لحظات الدفن والحزن. بل ان كثيرين يعتقدون ان الرجل لا يراعي مشاعر اسرة المشاهير الكبيرة والصغيرة. وربما يستند اصحاب هذا الرأي على تشديد بعض الدول على انتقاء الحانوتية، لدرجة ان دولة مثل فرنسا تشترط شهادة فى "علم النفس" لممارسة مهنه الحانوتي، تجنبا للمساس بمشاعر الحزن والحِداد والعزاء. سطور الحياة تقول الديباجة التعريفية الخاصة بالحانوتي الشهير، ان عابدين خضر محمود، ابتدر مهمته مع دفن الموتى ومواراة جثامينهم، في العام 1981م، حينما قبر جثمان عمه "ادريس" يوم ان عزّ على اهل المتوفى وجود من يقوم بالمهمة. وتمضي الديباجة لتشير الى ان درمة المتزوج من سمية عثمان، التي تحمل درجة الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة القرآن الكريم، اكرمه الله عزّ وجل بابن هو "خضر" وابنتين هما فاطمة الزهراء وأديبة. ولا يأسى "درمة" الذي اكمل تعلميه الابتدائي في مدرسة الركابية، والمتوسط في مدرسة أبو بكر سرور، والثانوي في المدرسة الأهلية، لا يأسى على قراره بترك العمل وفقا لتخصصه في هندسة العمارة الذي نهله من جامعة السودان للعلوم والتكنولجيا – حسبما يقول - لظنه انه يعمل حاليا في هندسة دفن الموتى، وهي عنده اعظم واقيم. مع النميري وضد البرلمان ترقى التحليلات التي ارجعت حرمان درمة من مواراة جثمان الراحل محجوب شريف، لموقف عابدين السياسي القريب من المؤتمر الوطني.. ترقى تلك التحليلات لتكون مرجعا لتفحص الموقف والحادثة، لكن ذات التحليلات تتقازم حين تمحيص الواقعة بصورة جيدة، ولا سيما في حال اقترن التدقيق بالمنشورات التي يبثها الرجل – او يبثها الآدمن – على صفحة عابدين درمة بموقع "الفيسبوك". اذ ان درمة الذي لا يداري ولعه بالرئيس الراحل جعفر نميري، اشبع البرلمان نقدا حارقا على صفحته بالفيسبوك، انطلاقا من قول المجلس الوطني بان "نسبة الفساد في السودان صفر %"، بل ان درمة قال في آخر منشوراته بالصفحة: "هذا برلمان الفاتح عز الدين الذى قال حينما ابلغنى احمد ابراهيم الطاهر بخبر تعيني خلفا له، لم اجد غير ان اخر ساجداً"، وختم درمة تعليقه الساخر والناقد بقوله "يبدو ان عز الدين الآن راكعا، في اشارة الى قول البرلمان بان نسبة الفساد حاليا صفر % حالة تنافي الواقع تماما". لكن هذا كله لا ينفي عن درمة اعجابه برئيس المؤتمر الوطني رئيس الجمهورية المشير عمر البشير لكون الرئيس - كما يقول درمة - يشبه النميري، ولكونه لا يفوّت تشيع جنازة أبداً في (أحمد شرفي) أو (البكري)، وايضا لكونه يصل الناس في الأتراح والافراح، تماما كما كان يفعل النميري". قائمة المشاهير سيكون درمة سعيدا لو ان الراحل محجوب شريف منحه حق مواراته الثرى، فهو – اي درمة - يرى في دفن المشاهير مهمة نبيلة، لا تخلو من قداسة بحسب درمة نفسه. ومعلوم ان الرجل نال لقب وتوصيف حانوتي المشاهير بعد ان قبر العديد من نجوم الفن والسياسة والمجتمع. لكن ومهما يكن من امر فان التقديرات التي جعلت الراحل محجوب شريف يوصي بعدم اشتراك درمة في عملية دفنه ستظل – برغم التكهنات المار ذكرها- عصية على فض الغشاء السميك الذي يحيطها، والذي اوعز لشاعر الشعب بان يمنع درمة من ضمه الى قائمة المشاهير الذين "وسدهم الباردة". لكن مع ذلك كله فان الحادثة في مجملها ربما تجعل من درمة اشهر الحانوتية على الاطلاق، لدرجة انها يمكن ان تمنحه بعضا من بريق (إيمي دلور) الفتاة البريطانية التي حازت صفة الحانوتية الاشهر في العالم، بوصفها الوحيدة من ذوات الخد الاسيل التي ولجت الى هذا المجال. صحيفة (الصيحة)