من بين الحركات الإسلاموية السياسية مكنت البيئة الاجتماعية والسياسية السودانية الحركة الاسلاموية السودانية من التغلغل في المجتمع السوداني، ومنذ المصالحة الوطنية مع المرحوم جعفر نميري ظلت الحركة الاسلاموية السودانية هي الأكثر تأثيراً في الحراك السياسي تقيةً أحياناً وعلناً في بعض الأحيان حتى تكللت فكرتها في حكومة الإنقاذ المبشرة بالتوجه الحضاري محلياً وتصديره لدول الجوار ضمن الحراك الاسلاموي السياسي العالمي، فجاءت محاولة اغتيال حسني مبارك لتكون نقطة فارقة وملف يعلم خباياه أهل الشعبي والوطني تكسرت أمامه طموحات الدكتور الترابي في لم شمل الحركات الإسلاموية السياسية العالمية لتنطلق من السودان، كما تكسر أمامه مشروع التوجه الحضاري داخلياً من خلال تنازلات داخلياً وخارجياً قدمها الانقاذيون ممثلين في المؤتمر الوطني وما زالوا يقدمونها وكان آخرها حديث علي كرتي للأمريكان وهو انكسار من انكسارات الإنقاذ المتعددة في مقابل التمسك بالتوجه الديني – كما يظنون هم- للدولة ( أنظر) الراكوبة الخطأ المنهجي للحركة الاسلاموية السودانية هو عدم أخذها في الاعتبار بيئة المجتمع السوداني المتصالحة أصالةً اجتماعياً وأعراقيا، واستيرادها لمفهوم الاسلاموية السياسية المصرية ممثلة في أفكار المرحوم حسن البنا التي أصلها سلفياً المرحوم سيد قطب في كتابه الشهير معالم في الطريق والذي أصبح المرتكز الفكري للتخريجات الفقهية السياسية للجماعات الاسلاموية الجهادية والتكفيرية ولتنظيم القاعدة، كذلك لم يكن تأثر حركة الأخوان المسلمين في مصر بمنأى عن مبادئ أبو الأعلى المودودي في أربعينيات القرن الماضي وهو العقل الروحي المحرك لمسلمي الهند في الدعوة للانفصال وتكوين دولة الباكستان، فأسست الباكستان وفق فهم المودودي للسياسة الشرعية في الإسلام ولكن لم تتمكن جماعته من حكم باكستان،وتأسست الهند وفق مبادئ الدولة المدنية فاستقر نظام الحكم فيها، فانظر ما قدمه مسلمو الهند للإسلام خلال ال 52 عاماً الماضية من خلال الدولة المدنية، وما تقدمه باكستان حالياً من مفهوم لدولة مبنية على فهم المودودي للسياسة الشرعية. غير أن ما عصم المجتمع السوداني من أن يتأثر بمفاهيم التكفير والتقتيل الذي انتهجته تيارات الحركة الاسلاموية المصرية المختلفة ونموذج المودودي هو الإرث السياسي الموروث من التعايش الاجتماعي الذي ساد السلطنات المسلمة والممالك المسيحية ما قبل الدولة التركية، إضافة لرسوخ الروح الصوفية المغذي الطبيعي للإسلام المسالم اجتماعياً وسياسياً في السودان، هذه الروح حملها حكام السودان بعد الاستقلال الأزهري، والمحجوب، وعبد الله خليل، وسر الختم الخليفة، والصادق المهدي، ومحمد عثمان الميرغني، ومفكريه عبد الخالق محجوب، وظهرت في أسمى مراتبها لدى المرحوم محمود محمد طه، فامتاز القادة السياسيين بتجنب سفك الدماء، وامتاز المفكرين منهم بالحوار الحر المحترم وبذلك أثرت فيهم الروح الصوفية المتقبلة للآخر قيمة إضافية للحراك السلمي الديمقراطي، عكس ما جرى في العهود التي رفعت فيها الحكومات السودانية الواجهة الدينية القبلية كما حدث في أواخر سني الدولة المهدية، ويحدث في عهد حكومة الإنقاذ، ولعل ما عصم أهل الشعبي والوطني أنفسهم من سفك الدماء بينهم وتكفير بعضهم البعض كما حدث بين الجماعات الاسلاموية المصرية التي كفرت وقتلت بعضها البعض هي نفس بيئة التسامح السودانية بالتالي فليس لأهل الإنقاذ منة على أهل السودان في مسألة السلم الأهلي والاجتماعي بل هم مطالبين بإرجاع هذا السلم إلى ما كان عليه قبل 30 يونيو 1989م، والإقرار – لله – لا للشعب السوداني بأن ما طبقوه أضر الإسلام أكثر ما أفاده، وبالتالي عودتهم إلى حظيرة الإسلام السوداني العام الذي أنجب جدودهم وآباءهم ذلك الإسلام الذي أنجب عبدالله الترابي، وحسن أحمد البشير، وعثمان محمد طه، وعلي نافع، وعثمان إسماعيل، رحم الله من توفاه الله منهم، ومتع الحيين منهم بالصحة فهم مثل معظم أباء السودانيين الآخرين لا نشك في أنهم حملوا / يحملون في حياتهم قيم السوداني الشهم والطيب والمسالم الذي دائماً ما يسأل الله السلامة وسترة الحال والكرامة وفق مصطلحات الدعاء لله بلغة الإسلام العام السوداني. لم يتم إلحاق ياء النسبة في مصطلحي (إسلام) و(مسلم) لا في الكتاب ولا السنة: ياء النسبة هي إضافة اسم بجُعل آخر المنسوب إليه ياء مشددة مكسوراً ما قبلها مثل، صحراوي، نيلي ..الخ ولكن لم يرد مصطلح إسلام مضافة إليه ياء النسبة كأن يقال ( رجل إسلامي)، ( مجتمع إسلامي) ( بيت مال إسلامي ) لا في كتاب ولا في سنة، بل إن كتب السير والأخبار تخلو تماماً من أي وصف صدر من الرسول لأحد أصحابه بالقول على سبيل المثال عمر بن الخطاب (الإسلامي)، أو أبوبكر الصديق ( الجهادي) وهلم جرا ما يعني أن مجرد الإقرار بلا اله إلا الله هي هوية المسلم معصوم بها دمه وماله سواء في القرن السابع أو القرن الحادي والعشرين ، كما إن الفترة الأولى لتدوين تراث الإسلام لم تشهد لفظاً كهذا وإنما نشأت النسبة بعد الصراع السياسي والذي أسفر عن نسبة البعض من المجموع الكلي للمسلمين ( شيعي)، (خارجي)، (مرجئي)، (أشعري) ثم (سني) وهلم جراً. لقد كان الرسول يصف أصحابه بالصفة الإنسانية الموجودة في كل منهم فيقول فلان صادق، وفلان صبور، أو فلان كثير الصلاة، وفلان صوام الخ وهي صفات موجودة في عموم المسلمين وقد لا يتصف ببعضها إسلاموي بينما قد يتصف بها غيره ممن لا ينتمي للإسلاموية السياسية ، وهي دلالة على أنه حتى مجتمع الرسول الذي كان يغمر نوره وقوته الروحية المقربين منه كان فيه خطاءون يخطئون ويتوبون كما يفعل مسلمو اليوم بل لم يقل الرسول (ص) بكمال مجتمعه أو قرنه وإنما قال بإكمال الدين كأساس يأخذ به الفرد نحو الكمال في حركة الحياة الصاعدة والهابطة، ولو بلغ المجتمع في عهد الرسول (ص) حد الكمال لاحتاج الإسلام لتعريف جديد وهو ( الإسلام دين مخصوص نزل في زمن مخصوص لقوم مخصوصين). ولكن اسلامويو السودان يريدون أن يجعلوا الناس على قلب رجل واحد وهذا ما لم يقل به الرسول (ص). كذلك حتى في خضم صراع التدوين الفكري للتراث الإسلامي في القرون الأولى ورغم أن أولئك النفر لم يشهدوا تطور العقل البشري وما وصل إليه في المرحلة الحديثة إلا أن خلاف العلماء كان أرقى مما نشهده الآن في ساحة العلماء الموالين للاسلاموية السياسية الذين يتبنون مصطلحات التكفير في أدنى خلاف، بينما يتبنى الشق السياسي منهم مصطلح الخيانة العظمى، والعمالة للأجنبي حتى وان كان هؤلاء المناوئون هم الأكثر إخلاصا لبلدهم سياسياً والأكثر انتهاجاً لدينهم سلوكياً، وآفة الدين أن يتقاسمه عالم يحمل في جيوبه صكوك غفران وتكفير وحاكم يحمل في جيوبه صكوك تخوين يوزعانها لاستئصال كل من يدعوا لإصلاح ولو بالقول. أي تغيير في السودان سيقتصر على التغيير السياسي لن يخرج البلد من الورطة المستوردة من مصر في الأربعينيات والتي أينعت ثمارها حنظلاً إنقاذيا طال كافة مقومات المجتمع السوداني. في هذه الأيام للإخوان المسلمين في مصر دور كبير في الانتفاضة الشعبية المصرية الجارية، لكن الشعب المصري لم يذق طعم كيفية حكم الاسلامويين له رغم انطلاق حركة الأخوان من مصر، وبما أن الأسس السياسية للإسلاميين واحدة فلعل إسلاميو مصر يفيدون من التجربة الاسلاموية السابقة في الجزائر والحالية في السودان، فبالقراءة في مخرجات هاتين التجربتين سيجدون أنه لا محيص لهم إلا تبني الديمقراطية وإلا فإنهم سيحشرون مصر في جحر أضيق من الذي يحشر فيه إسلاميو السودان بلدهم هذه الأيام. أيضاً كشفت التجربة الاسلاموية السودانية أن دعاة الدولة المدنية هم أكثر غيرة على مقدرات الأمة داخلياً وخارجياً لذلك يلاحظ المتابعون أن الإدارة الأمريكية تخفي خوفها من التغيير نحو الديمقراطية في مصر باستخدام بعبع الأخوان المسلمين ولكن في الواقع تعلم الولاياتالمتحدة أن أي حكومة ديمقراطية تسود مصر ستنسف مبادئ اتفاقية السلام والعلاقة الإستراتيجية معها لأنها سترتكز على إرادة الشعب وهي تعلم رأي الشعب المصري في قضايا الأمة العربية والعلاقة معها ومع إسرائيل، كما أنهم يعلمون جيداً أين وضعت الدولة الديمقراطية المدنية تركيا، وأين تضع الحكومات العسكرية الدينية أو العسكرية الوطنية بلدانها والسودان الحالي خير شاهد. ظل جهد الكسب السياسي للحركة الاسلاموية السودانية وسط الشعب السوداني ينحصر في ترسيخ مفهوم أن الحدود الأربعة هي جوهر الحكم في الإسلام ورددوا ذلك في كافة أدبياتهم لدغدغة العاطفة العامة، أما مصطلح العدالة وهو سنام الحكم بالإسلام فهو بضاعة بائرة عندهم. بالتالي لا بد أن يشمل التغيير القادم في السودان متى ما حدث سواء في المدى البعيد أو القريب ثورة ثقافية واجتماعية تفكك أثر الاسلاموية السياسية السودانية المستوردة من بيئة مختلفة عن بيئة السلطنات والممالك الإسلامية والمسيحية السودانية وإعادة دمج الإسلاميين ليتقبلوا مفهوم الإسلام السوداني العام سياسياً من خلال دستور شجاع يمنع إقحام الدين في العمل السياسي، وتعليم الأجيال بأن مبادئ الحرية، العدالة،والمساواة هي ليست مبادئ الثورة الفرنسية وإنما مبادئ وثيقة دستور المدينةالمنورة وبالتالي وجود هذه المبادئ في الدستور لا تعني أنه دستور علماني بل دستور فيه روح الإسلام، وأن وجود كلمة الشريعة الإسلامية هي مصدر الحكم لا يعني أن الحكم إسلامي وبالتالي قطع الطريق أمام إسلاميون جدد ينتظرون دورهم لرفع تطبيق الشريعة الإسلامية كرة أخرى ... يبدوا أن الحركة الاسلاموية المصرية قد أفادت من التجربة الاسلاموية السودانية الحالية الهزيلة فكرياً وثقافياً ويتضح ذلك من التكتيك الذي اتخذوه في المشاركة في حراك التغيير الجاري في مصر حالياً فأحجموا عن رفع شعار الإسلام هو الحل فالجموع المصرية تدرك جيداً ماذا فعل أهل هذا الشعار بالسودان، كما يلاحظ أيضاً أن الشيخ راشد الغنوشي بادر أول ما وطئت قدماه مطار تونس بعد الإطاحة شعبياً ببن علي بالقول بأنه يؤيد التغيير الديمقراطي واستبعد تماماً طرح الفكرة الاسلاموية التي كان يحملها في بدايات مواجهاته مع النظام التونسي ولعله كذلك استفاد من كارثة الاسلامويين في السودان. كذلك لوحظ أيضاً أن الدكتور حسن الترابي بدأ في إعادة رؤاه السابقة حول الدولة الدينية بعد تجربته وتجربة تلاميذه الحالية في السودان. لقد بدأ يتضح أن الثنائي الاسلاموي المصري والتونسي والذي لعب دوراً بارزاً في التسعينات مع الاسلامويين السودانيين في إنشاء المؤتمر الإسلامي العربي الشعبي الذي كان مقره السودان كمظلة لانطلاق الفكر الاسلاموي في المنطقة كافة بدأوا يدركون من خلال التجربة الاسلاموية السودانية أن المفهوم الذي يحملونه عن الدولة الدينية لا يواكب سمو الدين نفسه وأن الدين أسمى من الدولة، كما أنه يضر الإسلام ويحصره في جزئية صغيرة، وبالتالي حسب حراك الاسلامويين المصريين الحالي في ما يجري في مصر، وحسب تبني الديمقراطية الذي قال به راشد الغنوشي مؤخراً تبقى الضلع الثالث من أقوى مثلث إسلاموي في المنطقة وهم تلاميذ الدكتور الترابي الحاكمين للسودان ليقتنعوا بأن الديمقراطية والتعددية هي الحل الأمثل والأقرب لروح الدستور الإسلامي عن السلطة المطلقة سواء كانت مدنية دينية أوعسكرية دينية ولكن كيف يقتنعون وحالهم هذه الأيام حال القول المأثور ( راكب السلطة كالراكب على ظهر الأسد). أسامة بابكر حسن [email protected]