كشف منتدى الجمعية السودانية لحماية المستهلك الذي أنعقد في 30/8/2014م عن هجرة غير مسبوقة للأطباء السودانيين إلى الخارج. إذ بلغ عدد الأطباء المهاجرين (46) ألف طبيب. ولازالت الهجرة في تصاعد مستمر. عزا معظم المتحدثين في المنتدى أن أسباب الهجرة يعود إلى الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشونها، وغياب التدريب والسياسات الطبية الخاطئة وعدم إهتمام الدولة بتوفير العلاج والخدمات الصحية وعدم توظيف الأطباء الخريجين، والمعاملة المهينة التي تحط من كرامة الطبيب. كل ذلك يحدث بسبب سياسة التمكين التي تصطفي الموالين لسياسات النظام بعيداً عن الكفاءة والخبرة. لكل تلك الأسباب وغيرها أصبحت صحة المواطنين مجالاً للإستثمار الإجرامي الذي لا يتورع من ترك أمرأة حبلى تموت وهي تضع طفلها على قارعة الطريق لأنها لم تتمكن من دفع قيمة الولادة. ويلفظ شيخ هرم أنفاسه أمام صيدلية في قلب العاصمة وهو ممسك بفاتورة الدواء الذي عجز عن شرائه. تحدث هذه الهجرة المهولة في وقت تعاني فيه البلاد من الأمراض الفتاكة المتفشية مثل الملاريا والدرن والتايفويد والبلهارسيا والسرطان وغيرها. التأريخ يشهد أن أطباء السودان لهم مواقف ناكرة للذات ومدافعة عن صحة المواطنين وكانوا دائماً وأبداً حريصين كل الحرص على مجانية العلاج وتوفيره وبقاء المسشتفيات ملكاً للدولة وضد تفكيكها أو بيعها أو خصخصتها أو تحويلها إلى شراكة أو إستثمار مع رؤوس أموال بغرض الربح-محلية كانت أم أجنبية. لأنها ملك للشعب السوداني ويجب أن تظل كذلك. وضعوا مصالح الشعب والوطن فوق مصالحهم الخاصة عندما قدموا أول مذكرة إحتجاج بعد إنقلاب يونيو 1989م ضد مصادرة الديمقراطية وتشريد العاملين في المهن الصحية وغيرها واضعاً الولاء للجبهة القومية الإسلامية فوق الولاء للكفاءة والمقدرة على العطاء والوفاء للشعب والوطن. وقدم بعضهم لمحاكم عاجلة حكمت عليهم بالإعدام، الذي أوقف تنفيذه الاحتجاجات العاصفة لشعب السودان والرأي العام العالمي. يؤكد عدم اهتمام سلطة المؤتمر الوطني بصحة المواطن السوداني أن ما خصص للصحة والعلاج في موازنة 2014م في كل البلاد لا يتعدى ال2% من جملة الموازنة بينما المخصص لأجهزة القمع والقطاع السيادي يفوق ال72% أن أحد أسباب الهجرة، ضمن الأسباب التي أشرنا إليها آنفاً هي تصريح العديد من الأطباء بأنهم لم يحتملوا الوقوف مكتوفي الأيدي وهم يرون المرضى يعانون أمامهم من ألآم المرض حتى الموت دون أن يجدوا الدواء اللازم الذي يقدمونه لهم بسبب انعدامه أو أرتفاع سعره دون استطاعة المريض شراءه. ويشير الأمين العام لجمعية حماية المستهلك الدكتور ياسر ميرغني أن ضمن الأسباب العديدة للهجرة هو الغبن الإجتماعي الذي يعيشه بعض الأطباء وهم يرون مدى الإضهاد الذي يمارس عليهم. وضرب مثلاً بأن عدداً من الصيادلة المؤهلين في المعمل القومي للأدوية والسموم الذين تم إبتعاثهم للتحضير للماجستير والدكتوراة في الخارج وعقب عودتهم لم يتم إرجاعهم لمناصبهم لأن (هناك متنفذون لا يرغبون في أن يكون هناك أشخاص متطورين). يؤكد هذا الاستهداف والتهجير المقصود ما أدلى به الأمين العام لجهاز تنظيم العاملين بالخارج د. كرم الله عبد الرحمن أنه يشجع الهجرة بأعتبارها المخرج الوحيد للإستفادة من تحويلات المغتربين!! هذا التصريح يكشف بجلاء تام ما ذهبنا إليه عن أن السلطة تمارس تجارة البشر للحصول على العملة الصعبة. وتذهب السيدة وزير العمل إشراقة سيد محمود إلى أبعد من ذلك في تصريحها الذي جاء فيه (إنها تؤيد بشدة هجرة السودانيين للعمل بالخارج. وأن وزارتها تشجع الهجرة والعمل بالخارج بسبب ما أسمته ب(الإختناق الداخلي) وقالت: (إنها تأمل في أن يجد السودانيون الفرص الكافية للعمل وإنشاءالله نلقى، لأن سوق العمل في الخارج ليس متاحاً بالصورة المطلوبة والكافية وهذا وضع طبيعي) (راجع صحيفة الإنتباهة عدد الخميس 28/8/2014م). السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاج، ماذا تعني الوزيرة (بالإختناق الداخلي). فإن كانت تقصد استكفاء المستشفيات وفياضانها بالأطباء من التخصصات المختلفة فهو قول مردود عليه. فقد أوضحت د. حياة الحاج عبد الرحمن ممثلة نقابة الأطباء السودانيين في المنتدى أن مستشفى الخرطوم على سبيل المثال يعاني من التجفيف من التخصصات المختلفة. وأن حدوث ذلك سيعود بكارثة إنسانية بسبب هجرة وتشريد الأطباء. وذكر د. سيد قنات : (إنَّ عدد اختصاصي جراحة المخ والأعصاب لا يتعدى أصابع اليد الواحدة.) وأن ولاية الخرطوم التي يبلغ عدد سكانها حوالي 8 ملايين نسمة بها 41 أخصائي فقط في مجال الصحة الباطنية والمخ والأعصاب و80 طبيباً في تخصص أمراض النساء والتوليد و114 في تخصص الأطفال و3 في تخصص الصدرية و48 في التخدير. والحال أسوأ في العديد من المستشفيات خاصة إقليم دارفور والشرق. فأي اختناق هذا الذي تتحدث عنه السيدة الوزيرة؟! أصبحت قضية الهجرة بشكل عام وهجرة الأطباء بشكل خاص جزءاً لا يتجزأ من سياسة الدولة المنحازة للمستشفيات الخاصة بدليل تدني مخصصات العلاج فيها لإجبار المواطن على اللجوء للمستشفيات الخاصة التي تنتصب كالإهرامات في قلب الخرطوم تمتص بشراهة (القراد) و(البعوض) دماء المواطنين الكادحين. إنها سياسة دولة الرأسمالية الطفيلية التي لا يقف أمام لهثها من أجل الربح أي وازع من دين أو ضمير أو قيم إنسانية. النضال ضد مسببات هذه الهجرة أصبحت واجباً قومياً ملحاً وفرض عين على كل المواطنين حتى إسقاط هذا النظام. الميدان