وأخيراً .. ها نحن ندنو من التراب الأفريقي بعد رحلة في الجو استغرقت خمس ساعات . تعلن المضيفة عبر مكبر الصوت بأننا نستعد للهبوط في مطار جومو كنياتا الدولي بنيروبي عاصمة الشقيقة كينيا. كان الوقت هو الغروب. فرحة عارمة تسربت إلى أعماقي. نظرت عبر النافذة حيث الثريات من الجو مثل جواهر نثرت دون ترتيب على بساط من التراب الأسمر. أكثر من إثنتي عشرة سنة مضين مذ لامست قدماي أرض هذا المطار الأنيق وأنا في طريقي لحضور مؤتمر بالجارة يوغندا. فرغت من إجراءات المطار دون تعقيد، ثم دلفت إلى الخارج ، تتفحصني الوجوه السمر والابتسامات التي تحاصرك أنى توجهت. نفس الابتسام والترحاب وحسن الإصغاء للضيف تلتقيك في الفندق وبصورة مفرطة في تلقائيتها وفي العاطفة والود. المكان: فندق رويال أورشيد Royal Orchid – نيروبي. الزمان الأسبوع الأخير من سبتمبر 2014م.. المناسبة: مؤتمر قضايا الهامش السوداني ، التي استضافها المركز العالمي لجامعة كولومبياالأمريكية. المشاركون لفيف من الأكاديميين والباحثين السودانيين والصحافيين يشاركهم باحثون من بلدان أخرى معنيون بالشأن السوداني. ليست مهمة هذا المقال الانطباعي الدخول في تفاصيل حول كل ما جاء في المؤتمر. القصد أن نعلن عن حدث ثقافي يفصح عن وعى إنسان بلادنا بما يجري في ترابه. كانت الجلسات طوال ثلاثة أيام قد فتحت كوة لكل منا أن يرى فجيعة الإنسان السوداني المغلوب على أمره بوضوح وأن نتناول طرق علاجها من زوايا تلمس الدقة الأكاديمية لكنها تجنح للواقع الملموس حين التطبيق. كان الهامش – ممثلاً في ثلةٍ من رجال ونساء السودان- حاضراً ، ويعلن أنّ لغة جديدة غير البندقية تطرح نفسها في العراك من أجل حصول الكم الأكبر من قوميات وإثنيات السودان على حقها بعد أن أجبرت على التهميش والصمت طوال عقود. وحتى لا تكون تهمة (الجهوية) وغيرها من المصطلحات جاهزة للاستخدام المعاكس- أود أن أقول إن السودان بجهاته الأربع كان حاضراً. وفي كل جلسة من جلساته الجادة والمثمرة أكد المشاركون في مؤتمر قضايا الهامش عن وحدة شعوب السودان في هامشه العريض. بل والعمل متحدين مع قوى السلام والديموقراطية من أجل التغيير الحتمي لصالح سودان جديد تلوح شمسه في الأفق لأن أي مشروع سواه سيكون مثل تعبئة خمر قديمة في قنان جديدة!! سعدت بكل ملخص ورقة ألقيت وبكل نقاش محتدم وجاد وبكل طرفة ضجت على إثرها قاعة المؤتمر بالضحك. ولعل العالم أصبح قرية كونية كما يقولون ، فقد شاركنا علماء وخبراء من الولاياتالمتحدةوبريطانيا وكندا، حاولوا جاهدين أن يكثروا الاستماع وأن يكونوا موضوعيين في بسط تجربتهم ورؤاهم للمشكل السوداني. ولعلي شعرت في بعض الحالات أن البروفيسور آن بارتليت مثلاً، خبيرة علم الاجتماع ومشرفة برنامج الماجستير في جامعة سان فرانسيسكو- لعلي شعرت في أكثر من مرة بالدهشة وهي تخوض في تفاصيل دقيقة عن قضايا الهامش السوداني. كان بين الخبراء المشاركين أيضاً السيدة روزاليندا - السفير السابق لبريطانيا في السودان ومبعوث بريطانيا الخاص من بعد ذلك للإتحاد الأوربي. لم يكن المؤتمر نزهة ..فالاجتماعات والنقاشات المستفيضة تبدأ في التاسعة صباحاً بمقر المركز العالمي لجامعة كولومبيا وتنتهي في الخامسة – حيث لا تتوقف إلا لاستراحة شاي أو الغداء. أستطيع أن أؤكد دون ادعاء أجوف أنّ خطوة جادة في حصار سلطة النخب السياسية قد أشرقت شمسها، وأن وعياً جديداً يلوح في الأفق..وعياً يبشر لسودان جديد خلواً من هيمنة سلطنة تتحكم باسم العنصر أو الدين أو اللغة. كما أعجبني كثيراً الإشارات الإيجابية من أنّ سلطة المستقبل يجب أن تكون مدنية ديموقراطية لا تتعامل بردود الأفعال حتى لا تعيد إنتاج الأزمة وتكرار تجارب الماضي بكل بشاعتها. تمنيت لو أن بمقدوري أن أذكر في هذا المقال الانطباعي السريع دور كل فرد من المشاركين ، لكن هذا غير ممكن في مقال هو بمثابة الإعلان عن حدث ليس بالعادي. همسة أخيرة: فقدت السلطة أعصابها وهي تمنع بعض المشاركين من الداخل حضور المؤتمر كذلك انحدرت عصابات أمن النظام إلى ما تحت الدرك الأسفل وهي تعتدي على مكتب خاص للبروفيسور جمعة كودي وتسوية البناء بالأرض وحمل ما به من أغراض وكتب (أدفع كل ما في جيبي من ملاليم لو يخبرني أي منكم ما إذا كان باستطاعة حملة الأسفار التي سطوا عليها قراءة عناوينها فقط وعن أي القضايا تتحدث)! مأساة بلادنا اليوم أنّ عصابة تحاول فرض منطق الغاب وعصور الظلام! وتلك سباحة ضد التيار، فنحن ندري تماماً أن السلطة الحالية في الخرطوم وكل حلفائها سراً وجهراً لم يبق لهم ما يراهنون عليه إلا الخيبة ! فضيلي جماع 1 أكتوبر 2014 [email protected]