رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حلايب : هلْ ستُلوِّحُ مصرُ بخيارِ الاسْتِفْتاء بعدَ أنْ أحْكمتْ قبْضتَها عَلى المُثلّث؟
نشر في الراكوبة يوم 26 - 10 - 2014


1
برزتْ قضيةُ حلايب مرّةً أخرى على سطح الأحداث، وعلى مجمل العلاقات المصرية السودانية، خلال شهر أكتوبر الجاري، خصوصاً عند زيارة الرئيس البشير للقاهرة. حدث ذلك رغم أن كّلاً من الحكومتين كانتا وما تزالان تأملان (كلٌ لأسبابه الخاصّة) أن يُغطّي الصمتُ الإعلامي على حلايب وأخبارها.
فالحكومة المصرية تراهن على الزمن، وعلى خلقِ حقائق جديدة على الأرض مع كل يومٍ يمرُّ، لتجعل من احتلالها لحلايب أمراً واقعاً. وتقف خلف الحكومة المصرية المؤسّسة العسكرية، والأحزاب والمنظمات السياسية في القاهرة جمعاء.
وقد وعتْ الحكومة السودانية إلى أن إجراءاتها الارتجالية تجاه مصر في عام 1992، ثم في عام 1995، هي التي أدّت إلى الاحتلال المصري لحلايب. فالصمتُ قد يُبعِد الحرجَ عن الحكومة، وربما يُنسِي الشعب السوداني والمراقبين ذلك الجزء من التاريخ.
وقد شاركتْ المعارضةُ السودانيةُ الحكومةَ في الصمت، ولم نسمع من أيٍ من الحزبين الكبيرين وقادتهما، أو من أيٍ من الأحزاب الأخرى، شيئاً عن التطورات المتسابقة في حلايب في السنوات الثلاثة الماضية. ويبدو أنه لكل حزبٍ أسبابه الخاصة به لهذا الصمت.
وحتى عندما يدور النقاش عن حلايب في أوساط الحكومة والمعارضة السودانية، فإن ما يتمُّ الإدلاء به هو حديثٌ تخديريٌ، مبنيُّ على الشعارات، مثل العلاقات الأزليّة بين الشعبين، وعدم السماح لأي حدثٍ، مهما صغر أو كبر، بتعكيرها. بل إن أطرافاً من الحكومة والمعارضة السودانية ظلّت وما تزال تتحدّث عن جعل حلايب منطقة تكامل. يحدث هذا رغم علم كلِّ هذه الأطراف التام بالموقف المصري المتمثّل في لاءات القاهرة الثلاثة الحاسمة والحازمة – لا تفاوضَ، ولا تكاملَ، ولا تحكيمَ حول حلايب.
سوف نناقش في هذا المقال الخيارات التي يمكن طرحها على الساحة حول حلِّ نزاع حلايب في ظلِّ العناد المصري والصمت السوداني. وسوف نثير السؤال عما يمكن أن يفعله السودان إذا اقترحت مصرُ، بعد أن أحكمتْ قبضتَها تماماً على مثلّث حلايب، استفتاء سكان المثلّث حول خياريّ الانضمام لمصر أو للسودان.
2
الخيار الأول: الحوار والتفاوض
يدعو كلٌ من ميثاق الأمم المتحدة، والجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي
الدولَ الأطراف إلى حلِّ نزاعاتها بالطرق السلمية. ومصر والسودان عضوان بكلٍ من هذه المنظمات، وقد وقّعا وصادقا على المواثيق الخاصة بها.
كما أن هناك قرار مجلس الأمن في 21 فبراير عام 1958 والذي ألزم الطرفين، بعد قبول مصر الانسحاب من حلايب وعقد الانتخابات السودانية، بالتفاوض بعد ذلك حول النزاع. ولم تتابع حكومة السيد عبد الله خليل تنفيذ ذلك القرار (رغم التعاطف الدولي الكبير وقتها مع موقف السودان) بسبب انشغال السودان بالانتخابات، ثم انشغال السيد عبد الله خليل بإقناع الفريق عبود باستلام السلطة، كما ورد بالتفصيل في تقرير القاضي صلاح شبيكه.
بالإضافة إلى هذه الالتزامات القانونية والدولية، فهناك علاقة الجوار والتاريخ واللغة والثقافة. وهناك المصالح المصرية الضخمة في السودان. وهناك التضحيات الكبيرة التي قدّمها السودان للشقيقة مصر في بناء السد العالي. وقد شملت تلك التضحيات ترحيل السودان لأكثر من 50,000 من سكان منطقة وادي حلفا، وإغراق أراضيهم الزراعية، و27 من قراهم، وتاريخهم وحضارتهم وتراثهم. وسمح السودان أن تمتدَّ بحيرة السد العالي لمسافة 150 كيلومتر داخل أراضيه. وافق السودان على كل ذلك حتى يتسنّى لمصر بناء السدِّ العالي، دون أيِّ مقابلٍ من مصر للسودان.
وهناك وقفة السودان النبيلة – حكومةً وشعباً – مع مصر وشعبها إبان كارثة يونيو عام 1967، وتنظيم وعقد الخرطوم لمؤتمر القمة العربي الذي عاد بالخير والمال، وماء الوجه لمصر. وهناك أيضاً الوقفة العظيمة عندما فتح السودان مطاراته للطائرات الحربية المصرية خلال حرب عام 1973 حتى لا تتكرّر كارثة عام 1967، رغم التوقّعات بردود فعلٍ عسكرية من إسرائيل ضد السودان وقتها. ثم جاءت الوقفة في تحكيم طابا عندما فتح السودان دور وثائقه، وجنّد جيشاً من الأكاديميين والقانونيين والباحثين لمساعدة مصر في نزاعها الحدودي ذاك مع إسرائيل، والذي كسبته مصر في نهاية الأمر.
ولا بُدّ من التذكير بقناة جونقلي التي قام السودان ببنائها وتحمّلِ تكلفتها (التي فاقت مائتي مليون دولار) لمصلحة مصر الكاملة والحصريّة. فالسودان لا يحتاج الى نقطة ماءٍ إضافية بسبب فشله في استخدام نصيبه من مياه النيل بموجب اتفاقية عام 1959.
كل هذه الحقائق والتضحيات كان يجب أن تجعل من حلايب نزاعاً صغيراً، كان المراقب للعلاقات المصرية السودانية يتوقّع القاهرة أن تقول للخرطوم ما تقوله الخرطوم للقاهرة الآن: "حلايب لن تكون حجر عثرة في العلاقات بين مصر والسودان بعد كل الذي قدّمتموه لنا من تضحيات ومساعدات."
لكنّ الردّ المصري ظل وما يزال متمسِّكاً بلاءاته الثلاثة الحاسمة المتغطرسة، رغم أن اللاءات الثلاثية الأصليّة التي تشبّهت بها لم تدمْ طويلاً في حالة العلاقات والتفاوض مع إسرائيل.
عليه فيبدو أن هذا الخيار – خيار الحوار والتفاوض – والذي تمليه كل الظروف التي سردناها أعلاه، غير موجودٍ في لائحة خيارات القاهرة، ولن يستطيع السودان أن يحاور أو يفاوض لوحده.
3
الخيار الثاني: التحكيم
ظلَّ عددٌ كبيرٌ من السودانيين الذين يكتبون ويتحدّثون عن نزاع حلايب، ينادون بإحالة الخلاف للتحكيم، لأنهم يعتقدون أن التحكيم هو طريقٌ حضاريٌ لحلِّ أي خلافٍ، خصوصاً بين الجيران والإخوة. كما أن هناك الاعتقاد أن قرار التحكيم سوف يكون في صالح السودان. فكل الانتخابات السودانية منذ عام 1953 وحتى عام 1986 شملت منطقة حلايب (كما شرحنا - أنا والدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك - في مقالنا المشترك "حلايب بين الانتخابات السودانية والمصرية"). بل إن انتخابات عام 1953 أشرف عليها فريقٌ دوليٌ شمل خبيراً مصرياً (السيد عبد الفتاح حسن)، ووافق على نتائجها مجلس الحاكم العام الذي شمل سياسياً ودبلوماسياً مصرياً أيضا (السيد حسين ذو الفقار). وانتهت محاولات مصر عقد استفتائها عام 1958 في حلايب بالتراجع عن قرارها. وظلّت حلايب سودانيةً خالصة حتى غزتها القوات المصرية عام 1992، إثر القرارات الارتجالية التي اتخذتها حكومة الإنقاذ من تأميم ومصادرة لجامعة القاهرة فرع الخرطوم، ومكاتب ومنازل الري المصري بالسودان. وجاء بعد ذلك إعلان الدكتور حسن الترابي، المثيرٍ للدهشة، بأن السودان سوف يقوم بتحويل مجرى نهر النيل!!
وبعد ثلاثة أعوامٍ من دخول القوات المصرية حلايب، جاءت محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك عام 1995، والتي ورّط فيها نظامُ الإنقاذ نفسَه والسودانَ كله. وقد استغلّت مصر تلك الحادثة لتعلن ضمّ حلايب إليها رسمياً ونهائياً. وتلت ذلك إجراءات القاهرة المطوّلة لممارسة سيادة مصر الكاملة على حلايب.
وأعلنت مصر أخيراً لاءاتها الثلاثة الحاسمة والحازمة، ومن كل المواقع: الحكومة والمعارضة، العسكر والمدنيين، اليسار واليمين، الإسلاميين والعلمانيين – لا تفاوض، ولا تكامل، ولا تحكيم مع السودان حول حلايب. والتحكيم قرارٌ يحتاج إلى موافقة الطرفين كتابةً عليه، وعلى تصديق سلطاتهما المعنيّة بذلك. عليه فلن يستطيع السودانُ حملَ قضية حلايب للتحكيم من طرفٍ واحد. وينطبق نفس الشيء على محكمة العدل الدولية.
4
ويثير رفضُ القاهرة للتحكيم حول حلايب مع جارتها وشقيقتها الصغرى، وقبوله مع إسرائيل، والسعي إليه مع إثيوبيا، الدهشةَ. فقد قبلت مصرُ إحالةَ الخلاف مع إسرائيل حول منطقة طابا المتنازع عليها إلى التحكيم. وقد ساعد السودانُ مصرَ كثيراً في الإعداد لذلك التحكيم، كما ذكرنا أعلاه. أليس غريباً أن تقبلَ مصرُ التحكيمَ مع ألدِّ أعدائها، وترفضه مع أشقائها الذين تودُّ أن تُقوِّي روابطها بهم من خلال الحريات الأربعة، وفتح الحدود، وبناء المعابر، والتكامل الاقتصادي والثقافي؟
ثم جاء نزاعُ سدِّ النهضة بين مصر وإثيوبيا. وظلّ السودانُ الوسيطَ بين الطرفين، والخرطوم مكان الاجتماعات للوفود الثلاثة، على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. طالبت مصرُ، وما تزال تطالب، بأن تقوم بالدراسات المقترحة حول تأثيرات السدِّ على مصر لجنةٌ دولية وتطالب مصرُ أيضاً أن تلعب هذه اللجنة دورَ المُحكِّم في النزاع الحالي مع إثيوبيا، وأن يكون قرار اللجنة التحكيمية في الخلافات حول سدِّ النهضة بين مصر وإثيوبيا نهائياً وملزماً للطرفين. يأتي هذا الطلب بالتحكيم في المسائل الخلافية حول سدِّ النهضة، وتصرُّ عليه مصرُ باستمرار، في الوقت الذي ترفض مصرُ في وعنادٍ (وسخرية في معظم الأحيان) مطلبَ السودان باللجوء للتحكيم حول نزاع حلايب.
5
الغريب في الأمر أن مصر تكرّر من وقتٍ لآخر قناعتها أن حلايب مصرية مائة في المائة. فقد أدلى السيد مساعد وزير الخارجية المصرية، ومدير "إدارة القانون الدولي والمعاهدات الدولية" الأسبق، السفير إبراهيم يسري، بتصريحٍ يوم الثلاثاء 14 أكتوبر عام 2014 ذكر فيه أن "تلويح البشير بهذه الورقة محاولة لتحسين وضعه الداخلي المتأزم"، مؤكّداً أن "حلايب وشلاتين أرض مصرية 100 في المائة. وأضاف "إن تهديد البشير باللجوء للتحكيم الدولي غير مجدٍ بالمرة، وستكون النتيجة في صالح مصر. فالمشكلة ليست حدودية، إنما سياسية بالدرجة الأولى." ويستند السفير يسري إلى دراسةٍ قال إنه أعدّها، حين كان في الخارجية، أثبت فيها أن "الإقليم تابع لمصر، والدراسة موجودة في مكتبة الوزارة ويمكن الاستعانة بها."
إذا كانت مصر حقاً مقتنعةً بموقفها حول حلايب، وتعتقد أنه بهذه القوّة، فلماذا التخوّف من التحكيم؟
6
الخيار الثالث: الاستفتاء
بعد شهور قليلة من تأكيد وإحكام وجودها في حلايب عام 1992، وحتى قبل إعلان ضمّها رسمياً لمصر في عام 1995، بدأت مصر برنامجاً متكاملاً لدمج حلايب في محافظة أسوان، انبنى بناءً تاماً على "تمصير" المثلّث. شرعت مصر في شقِّ الطرق المسفلتة الى مدن وقرى المثلّث داخل أقسامه الفرعية الستة (البرق - الحميرة - الشلاتين - أبورماد - حلايب - رأس حدوبة). وتمّ توصيل الكهرباء إلى معظم أرجاء المثلّث، بما في ذلك مجمّع الفرقان الذي هو عبارة عن مجموعة من الخيام. وانتظم برنامج وصول المعدات الغذائية بكل أنواعها، وبيعها بالأسعار المدعومة حكومياً في معظم الحالات، فعمّت الوفرة في المثلّث.
واكتمل تغيير المقرّرات في كافة المراحل الدراسية من المنهج السوداني إلى المنهج المصري في نهاية التسعينيات، واكتمل بناء وإضافة عشرات المدارس. وتمّ ادخال أعدادٍ كبيرة من الطلاب في المعاهد العليا والجامعات المصرية، بلغ عددهم أكثر من ألفي طالب وطالبة. وتواصلَ تشغيل أولئك الخريجين والخريجات في المؤسسات الحكومية المصرية، وبمرتباتٍ مجزيةٍ تشمل علاواتٍ خاصة.
بمعنى آخر فقد بدأت مصر برنامجاً متكاملاً لإقناع أبناء وبنات حلايب في هذه السن، وبقية سكان المثلّث، أن مصالحهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم وبناتهم تكمن في البقاء جزءاً من مصر.
وبالتوازي فقد أدخلت مصر نطام إذن الدخول للمثلّث للسودانيين، بما في ذلك الأسر السودانية المنقسمة بين المثلّث وبقية السودان. ولا تسمح سلطات الاحتلال المصرية لأفراد هذه الأسر السودانية بدخول المثلّث، حتى في المناسبات الاجتماعية من أفراح وأتراح، إلا بعد الحصول على هذا الإذن. ويحدّد الإذن (إذا تمَّ إصداره) فترة البقاء في المثلّث، والتي لا تتجاوز عادةّ عشرين يوماً. وهناك غرامات مالية عالية لمن يتخلّف حتى ولو ليومٍ واحد بعد انتهاء الفترة الممنوحة في الأذن. وهنالك أيضاً عقوبة رفض طلب دخول المثلث في المستقبل.
7
وتواصلت زيارات المسئولين المصريين لمنطقة حلايب. فقد قام السيد أحمد المسلماني، المستشار الإعلامي للرئيس المصري السابق، بجولةٍ في يوم 13 فبراير عام 2014 في منطقة حلايب وشلاتين، وأعلن خلال لقاءاتٍ جماهيرية تدشين مشروعاتٍ تنموية بقيمةٍ تبلغ 110 مليون دولار، وذلك كما ذكر "في إطار تأكيد السيادة المصرية عليها." ثم أعلن السفير بدر عبد العاطي، المتحدّث باسم وزارة الخارجية المصرية في نفس اليوم لصحيفة الشرق الأوسط أن «حلايب وشلاتين جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية، وهو أمر غير قابل للنقاش». وأضاف أن «الموقف المصري واضح في هذا الموضوع، وهو أنها أرض تمارس عليها أعمال السيادة المصرية."
ثم أصدرت الحكومة المصرية يوم الثلاثاء 18 فبراير عام 2014 قراراً بتحويل حلايب إلى مدينة، وفقاً لما ذكره المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري السيد هاني صلاح، الذي ذكر في تصريحاتٍ صحفية أن الحكومة المصرية اتخذت هذا القرار بهدف تعزيز الخدمات في كلٍ من حلايب وشلاتين.
وقد تشكّلت إدارات محلية من شيوخ القبائل، يدين عددٌ منها بالولاء السياسي الكامل للقاهرة. كما أصبح نقل صلاة الجمعة من حلايب أو شلاتين عبر الإذاعة والتلفزيون المصري حدثاً يتكرّر كل شهر أو شهرين لتذكير السودان أن المثلّث أضحى في كامل قبضة مصر.
كما أن وزير الزراعة المصري الدكتور أيمن فريد أبو حديد كان قد قرّر تشكيل لجنة برئاسته للتنمية الزراعية والنباتية في حلايب وشلاتين، ولإعداد خطة أمنية لمشروعات تنمية متكاملة في المنطقة. وتمهّد الخطة لتنفيذ مخطط تنموي لزيادة عدد سكان المنطقة إلى «200» ألف نسمة، بدلاً من «30» ألفاً نسمة حالياً. وقد كلّف الوزير مركز بحوث الصحراء بتطوير محطة الإنتاج الحيواني بمنطقة حلايب، لتكون أول محطة للمراعي الطبّية في مصر، شاملةً ثورة البحر الأحمر السمكية الضخمة (والثروات الطبيعية الأخرى). بمعنى آخر هناك خطة يتمّ إعدادها بإحكام لتوطين عشرات الآلاف من المصريين في حلايب.
8
واضحٌ من هذا العرض أن القاهرة تنفّذ برنامجاً متكاملاً لتمصير المثلّث وضمّه عملياً ونهائياً لمصر. فقد مرّت أكثر من 22 عاماً منذ أن احتلت القوات المصرية حلايب. وجميع الطلاب والطالبات من أبناء وبنات حلايب الذين يدرسون الآن في الجامعات والمعاهد العليا في القاهرة والاسكندرية وغيرهما من المدن المصرية وُلِدوا وترعرعوا تحت ظل إدارة الاحتلال المصري، ودرسوا المقررات المصرية، وارتبطوا، من كل النواحي النظرية والعملية، بمصر. وفي حقيقة الأمر، فإنه لا توجد أيّة روابط لهذا الجيل بالسودان. فهم لا يعرفون عنه شيئاً، ولم يشاهدوا مسئولاً سودانياً واحداً، ولم يزوروا قريةً أو مدينةً سودانية، ولم يلتقوا برفقائهم وأقرانهم السودانيين على الإطلاق. إن السودان بالنسبة لهؤلاء الشباب هو "وطنٌ افتراضيٌ" لا أكثر ولا أقل، وتحت أحسن الظروف.
بل لا بُّد من التذكير أن هذه الفئة من سكان مثلّث حلايب التي وُلِدت أو ترعرعت تحت الاحتلال المصري تمثّل قرابة نصف سكان مثلّث حلايب البالغ حوالي 30 ألف نسمة. وقد شاهدنا عدداً من هؤلاء الشباب وهم يطوفون شوارع حلايب وشلاتين وعلى صدورهم صورة المشير السيسي إبان الحملة الانتخابية الأخيرة على رئاسة الجمهورية المصرية.
9
عليه، فقد أكملت مصر الجزء الأكبر من إجراءات ضم حلايب، وأحكمتْ قبضتَها على المثلّث. وقد أثار هذا الوضع احتمال أن تقترح مصر (مقابل تنازلاتٍ من الخرطوم في قضايا أخرى) إجراء استفتاء في مثلّث حلايب لكي يقرّر السكان هناك إن كانوا يريدون الانضمام للسودان، أم البقاء في مصر.
10
كانت نتائج الاستفتاء الذي وافقت عليه مصر بعد مفاوضات عامي 1952 و1953، بعد أن استولى الضباط على السلطة في القاهرة في 23 يوليو عام 1952، والذي قبلت مصر بموجبه حقَّ السودان تقرير مصيره، كارثيةً على مصر. فقد قرّر البرلمان السوداني بالإجماع في ديسمبر عام 1955 الاستقلال من مصر. لم يكن الضباط الذين وافقوا على الاستفتاء في السودان قد قرّروا التنازل عن السودان، بل كان اعتقادهم أنهم سيحقّقون الوحدة عن طريق صناديق الاقتراع. وقد كان ذلك الرهان ساذجاً للغاية. فكيف يراهن من وصل إلى السلطة في القاهرة على ظهر الدبابات، على صناديق الاقتراع والانتخابات في الخرطوم؟
11
غير أن وضع حلايب عام 2014، ليس كوضع السودان ككلٍ عام 1955. فقد اكتمل إلى حدٍّ كبير تمصير حلايب. وعددٌ كبيرٌ من الذين سيدلون بأصواتهم (إن برز مقترح الاستفتاء) هم ممنْ وُلِدوا أو ترعرعوا تحت إدارة الاحتلال المصرية، وليست لهم أيّة روابط بالسودان. وقد ارتبطت ظروفهم الاقتصادية والمعيشية بمصر ارتباطاً كاملاً. بل إنهم لم يسمعوا عن السودان سوى الاضطرابات السياسية، والحروب وانفصال الجنوب، ونزاع أبيي الحدودي (الشبيه بنزاع حلايب بالنسبة لمعظمهم)، والمشاكل والضائقة الاقتصادية، والغلاء والبطالة.
فهل نتوقّع أن يقفز هؤلاء الشباب في الظلام، ويصوّتوا للعودة إلى بلادٍ لا يعرفونها، ويضحّوا بتعليمهم ووظائفهم ومستقبلهم والحياة الرغدة التي توفّرها لهم سلطات الاحتلال المصرية؟ وهل نتوقّع منهم ذلك وهم يسمعون ويقرأون عن عشرات الآلاف من خريجي الجامعات السودانية الذين فقدوا الأمل في الحصول على أيّة وظيفةِ أو عمل، وما يزالون عاطلين يتسكّعون في شوارع الخرطوم والمدن الأخرى في السودان؟ هل سنستند على "وطنية" شبابٍ لم يشاهدوا أي جزءٍ آخر من وطنهم إطلاقاً، ولا يعرفون عنه شيئاً، وليس موجوداً حتى في مقرراتهم الدراسية؟
12
ترى هل ستلوّحُ مصرُ بهذا الخيار على أمل أن يحسّنَ علاقاتها مع الشعب والحكومة السودانية، وكحافزٍ ليساعدها في تحقيق طموحاتها ومصالحها الأخرى في السودان؟
من المؤكّد أن هناك عدداً من المسئولين والخبراء المصريين الذين يعتقدون اعتقاداً قويّاً أن سكان حلايب سوف يصوّتون لصالح البقاء في مصر، إذا مُنِحوا هذه الفرصة، بعد أن أحكمتْ القاهرةُ قبضتَها الاقتصادية والإدارية والسياسية والأمنية عليهم. وسوف يتساءل هؤلاء المسئولون: لِمَ لا نلوّح بهذا الخيار؟ ألمْ يوافقْ السودانُ على الاستفتاءِ لسكانِ جنوب بلادِه، وقَبِلَ النتيجة؟ ألمْ يوافقْ السودانُ على الاستفتاء لسكان منطقة أبيي أيضاً؟ ألمْ تصفْ اتفاقياتُ الحكومةِ والمعارضةِ مع الحركة الشعبية حقَّ تقريرِ المصير بأنه حقٌ إنسانيٌ ديمقراطيٌ، يجوز للشعوب ممارسته في أي وقت؟ كيف، ولماذا إذن سيرفضه السودان في حالة سكان حلايب؟
وسيضيف هؤلاء الخبراء أن هذا الخيار سيُظهرُ مصرَ بمظهرِ الجارةِ الشقيقة الحريصة على السودان وشعبه، وعلى سكان حلايب أنفسهم، وعلى حلِّ نزاعاتها مع السودان سلمياً. وسوف يضيفون في ثقة أن هذا الخيار سوف يحقّقُ في نفس الوقت أهدافَ وطموحات مصر بضمِّه حلايب لمصر سلميّاً، وإلى الأبد.
13
ماذا يجب أن تكون ردّة فعل السودان – حكومةً وشعباً، أحزاباً ومنظمات مجتمعٍ مدني، وخبراء ومتعلمين– على مقترح حقِّ تقرير المصير لسكان حلايب، إن قامت مصرُ فعلاً بعرضِه كتحدٍّ آخر للسودان، بعد أن أحكمتْ قبضتَها على المثلث وضمِنتْ نتيجةَ الاستفتاء؟
وماذا عن عاملِ الزمن الذي يُعطِي كلُ يومٍ يمرُّ منه القاهرةَ فرصةً أخرى لترسيخ وتكريس قبضتِها على مثلّثِ حلايب؟
[email protected]
www.salmanmasalman.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.