مقدمة بواكير القرن العشرين والسودان في فجر تغيير كبير ربما كان الأكبر خلال كل تاريخه. دكت في أواخر سنوات القرن المنصرم مدفعية الإمبراطورية العظمى دولة سودانية كان على رأسها من كان أساء القيادة، فأباد ثلث السكان في حروب عبثية وانتقامات مجنونة ومجاعة طاحنة تسببت فيها سؤ إدارته للبلاد، الأمر الذي ألجا أعداد غفيرة من السودانيين للاستنجاد بالأجنبي فهربوا بعضا من دهاقنة حملة كتشنر واتوا جنودا نشطين في ركاب حملة كتشنر. هذا هو مسرح الأحداث بداية القرن. موضوعنا هو إلقاء نظرة بانورامية لنستل أسماء الشخصيات الأكثر تأثيرا والابقى أثرا حتى اليوم. لا شأن لنا بتقييم أدوار من اخترناهم، سلبيا كان ام ايجابيا. نحن مشغولون بمن هو الأكثر تأثيرا. تأثير أصيل وحقيقي وباق وليس ضجيج وقتي نتاج صوت عال أو تلميع إعلامي مصنوع. لسنا بصدد كتابة تاريخية. إنما هي رؤية الكاتب الشخصية قراءته لتأثير أفراد معينين في مجريات أحداث قرن كامل في بلادنا. و المجال بالطبع يتسع لعديد (اللست)، قد تضم بعضا ممن اخترنا او قد تضم آخرين. اختار كاتب السطور شخصيات ست. هي الإمام عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني و الأستاذ محمود محمد طه الأستاذ عبد الخالق محجوب والدكتور حسن الترابي والعقيد الدكتور جون قرنق دي مبيور. نحن معنيون بالتأثير الشامل على حياة الناس وهذا لا يتأتى عادة إلا للعباقرة من القادة السياسيين. شهد القرن العشرين بزوغ عبقريات في الفنون والآداب والعلوم مثل محمد وردي والحاج محمد احمد سرور التجاني الماحي والطيب صالح والفيتوري. هؤلاء تأثيرهم محصور أكثر في مجالاتهم. و لكنهم بلا شك يعتبرون من بناة السودان الحديث ويحتلون أمكنة بترتيب مريح إن كنا بصدد المائة الأبرز في القرن العشرين. أكاد اسمع همهمات عن تجاوز بعض الشخصيات وأولها السيد إسماعيل الأزهري رافع علم الاستقلال. رافع العلم و لكن ليس صانع الاستقلال الاوحد. فهناك آخرون يشاركونه صفة صانع الاستقلال من ضمنهم أفراد وأحزاب كانت أصواتهم أعلى بالمناداة بالاستقلال. الأزهري أضاع مجده الحقيقي وهو صنع حزب قوي بعيداً عن الطائفية واستغلال الدين هو حزب الوطني الاتحادي، من المتعلمين وجماهير المدن استطاع أن يقلب الطاولة على القوى الطائفية، فتخلى عن حزبه و سلمه (صرة في خيط) للطائفية في خطوة مبهمة في عام 1968م. وقبلها، خلال الستينات، استحال الأزهري، ربما نتيجة لتقدم العمر، إلى شخصية دكتاتورية واضعا الحزب في جيبه يفصل كبار الأعضاء دون محاسبة بسطرين يستهلها بعبارة "إلى من يهمه الأمر" اللئيمة. ووصل به الأمر إلى قيادة الغوغاء للمطالبة بحل الحزب الشيوعي وطرد أعضائه المنتخبين من البرلمان في 1965م. هناك أيضا شخصية مثل جعفر نميري. نميري كفرد لم يكن مؤثرا، بل هو خال من أي مواهب. كان طيلة فترة حكمه الطويلة صدى لأخرين. القوميون العرب والمنشقون من الحزب الشيوعي في بدايات حكمه. ثم مجموعات من التكنوقراط عديمي الطعم واللون في منتصف حكمه ثم لمجموعات دينية متنافرة الأهواء من لدن صوفيين مثل النيل ابوقرون إلى جماعة الترابي، بل و دراويش خفيفي العقل كان يغشاهم في مظانهم يعطيهم (فارغ) ويردونها (مقدودة)، إلى أن طاف عليه طائف ثوار الانتفاضة فلم يعد يذكره أحد بعدها إلا بعض الصحفيين وجمهور المناسبات الاجتماعية يضحكون إليه وفي الحقيقة عليه. أما عبود فأيضا أمره أهون من أمر النميري. كان يحكم البلد أيام عهده مدنيون طموحون من خلال ستار العساكر الذين كان أكثرهم خالي الوفاض من فهم أمور الحكم والسياسة. الإمام الصادق المهدي أتيحت له عديد الفرص للعب أدوار مميزة في تاريخنا. ولكن بحثه الأزلي عن وفاق مستحيل بين شركاء متشاكسين وإصراره على لعب دور الأم الحقيقية للطفل الذي تنازعت عليه المراءتان أمام سليمان الحكيم، يضيع عليه فرص لا تحتمل إلا الحزم والاختيار القاطع وإغضاب أحد الأطراف. من ذلك موقفه من إلغاء قوانين سبتمبر وقد أعطاه الشعب وقتها تفويضا طيبا، أو إشراكه للإسلاميين في الحكم فتكمنوا من مفاصل الدولة في وقت حرج، كانوا يسنون فيه السكاكين الطويلة للإجهاز على النظام الديمقراطي، و قبلها ومن أجل إرضائهم أضاع فرصة الوصول لحل مشكلة الجنوب من غير تقرير مصير. نسرد، أدناه، حيثيات اختياري لهذه القائمة. و الترتيب بالمناسبة حسب أسبقية تواريخ ميلاد هؤلاء العظماء. 1. السيد علي الميرغني: الدهاء الصامت أثير حول سيرته كثير من اللغط حول حضوره في معية حملة كتشنر لغزو السودان. و بالنظر لما حدث في عهد الخليفة عبد الله من مظالم و بالنظر أيضا لاشتراك أعداد غفيرة من السودانيين كجنود في تلك الحملة فليس في الأمر ما يشين. تمكن السيد علي وفي وقت مبكر من كسب ود الإدارة الاستعمارية قبل أن تبهت مكانته لديها فيما بعد وتحوله لصف المنادين بالوحدة مع مصر. عبقرية السيد تتمثل في إحيائه الطريقة الختمية بعد أن تمكنت المهدية من تحجيمها إلى الحد الأدنى و مطاردة شيوخها واتباعها. كما تمكن من استمالة رهط من الخريجين أسس بهم تحت رعايته حزبا سياسيا لا يزال موجودا و مؤثرا حتى يوم الناس هذا. يتكون حزب الاتحاديين من الختمية و طيف من الطبقة الوسطى. دهاء الميرغني تمثل في إبقائه على طائفة الختمية بمعزل من الحزب الذي يتشاكس سياسيوه باستمرار، فحافظ باستمرار هو وخليفته على ولاء ثابت من أبناء الطريقة، خصوصا بعد أن تمكن بمكر من القضاء على حزب الأزهري ورفاقه تحت مسمى توحيد بين حزب الختمية (الشعب الديمقراطي) وحزب الطبقة الوسطي الذي قاده الأزهري (الوطني الاتحادي)، فورثه حيا وخلص الجو له ولخليفته من بعده. 2. السيد عبد الرحمن المهدي: المهدية الجديدة، نصر بلا حرب لم ينجه من سيوف الانجليز إلا صغر سنه واجتهاد بعض من محبي والده في إخفائه وحمايته إلى أن بلغ اشده واحتاجت الإدارة الاستعمارية لوقفة القوى التقليدية معها بعد خيبة أملها في القوى الجديدة بعد ثورة 1924م. تتجلى عبقرية الإمام في القراءة الصحيحة للمرحلة هو ونفر من رفاق والده مثل الشيخ بابكر بدري وبعض أبناء الخليفة عبد الله. اتضح لهم أن عهد السيف قد ولى. و أن المهمة الملحة في إرساء معالم مهدية جديدة، سلمية وتتوسل التعاون مع الإدارة الانجليزية لإخراج البلاد من وهدة التخلف. الإحياء السلمي للمهدية الجديدة وتجميع الاتباع في ستار المشاريع الزراعية. ثم اختراقه لمؤتمر الخريجين فالتف حوله عدد منهم و اخيرا تأسيسه لحزب الامة الباقي إلى يوم الناس هذا. كان الإمام عبد الرحمن رجلا مستنيرا وكريما تحكى عن كرمه الأساطير، الأمر الذي مكنه من قلوب و محبة كثير من السودانيين بعضهم ممن أضيرت قبائلهم أيام المهدية. فكان موضوعا لعشرات قصائد المديح من أفضل شعراء عصره. كما كان رجلا عصريا يعيش عيشة الملوك يتخذ القصور و يمتلك يختا ويختلف إليه كبار القوم. 3. محمود محمد طه: هندسة التجديد كان تأهيل "الأستاذ" كما يدعوه تلاميذه الهندسي كفيلا بتوفير حياة رغدة له لولا أنه آثر السير في السكك الخطرة. سكة المشي ضد تيارات الاسلام التقليدية الذي يبدو أنه قد قدمت أقصى ما يستطيع تقديمه واستحالت إلى جماعات صوفية تعيش فيما يشبه الغيبوبة، أو إلى حركات سياسية تستغل الدين للوصول للسلطة. قاد الأستاذ محمود أجرا حركة تجديد ديني شهدها السودان في العصر الحديث بعون شباب نابهين كانوا خير عون له. احتمل ما لا يحتمل من عداء خصومه الذين اقض مضاجعهم وهزمهم في المنابر فكادوا له إلى حد تحريض السلطات لقتله فاستغلوا الحالة النفسية للنميري ونجحوا في دفعه لقتله فكانت نهايتهما معا. من الصعب تصنيف الثورة المهدية كحركة تجديد فهي استعملت الدين كخلفية لحروبها ضد المستعمر التركي و لم يتوفر لها وقت للنظر في الأمور الفكرية لتتابع حروبها كحبات المسبحة. قدم الأستاذ صنوفا بديعة من التجديد في مجالات مثل حقوق المرأة و الحريات والعلاقات الدولية وغيرها. أثرت أفكار الأستاذ في الفرق الاسلامية الاخرى بأفكاره من غير أن تعترف بذلك. فالصوفيون والاخوان المسلمون والسلفيون لم يعودوا مثلما كانوا قبل ظهور أفكار الأستاذ، خصوصا جماعة الترابي التي لولا كارثة انقلاب الإنقاذ لتحولت إلى ما يشبه حزب الاسلاميين التركي أو حزب الغنوشي في تونس. فمواقف تلك الفئات تجاه الفنون وحقوق المرأة وغيرها تمتاز ببعض المرونة غير ما هو مألوف من تلك الحركات خارج السودان. الأمر الذي جعل تأثيره بالغا رغم تقاعس تلاميذه عن إكمال مسيرة الأستاذ التي اشتدت الحوجة لها مع اشتداد أوار جماعات الجهاد والإرهاب باسم الاسلام. 4. عبد الخالق محجوب: ماركسية للجميع في ظل التخلف الحضاري بمختلف ضروبه في منتصف القرن الماضي، لو حلم الإنسان أثناء منامه بإمكانية تأسيس حزب شيوعي يهتدي بالماركسية في هذا الجزء من القارة المظلمة لاتهم بالجنون. لكن هذا الشاب العشريني (بل كان في أول عشريناته) حين تولى منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي كأول وآخر مرة يصل فيها شخص في هذا العمر لمثل هذا المنصب العالي في السودان وربما خارجه. عمل عبد الخالق على تأسيس حزب وصل بيسر لغمار الناس، مزارعون وعمال بسطاء و طلاب ونساء، من ورش عطبرة إلى سهول الجزيرة وإلى أدغال الجنوب. نقل الحزب العمل الجماهيري إلى مربعات الحداثة فعلم الناس تأسيس و الانتظام في مؤسسات حديثة مثل النقابات والأندية الاجتماعية والتعاونيات وتنظيمات النساء والشباب والاتحادات الطلابية. كان للحزب الشيوعي قرصا في كل عرس شهده السودان من الخمسينات وإلى اليوم، مثل ثورة أكتوبر و انتفاضة أبريل والنضال ضد الأنظمة الدكتاتورية. كما يعود لهذا الحزب فضل مساعدة الأقليات المهمشة في إبراز قضاياها دون الوقوع في شراك الانعزال أو العنصرية المضادة. عبقرية عبد الخالق في سودنة الماركسية وغرسها في أرض السودان وأصاب في هذه نجاحا غير يسير الأمر الذي لم يتيسر لأحزاب شيوعية عديدة في العالم الثالث. 5. حسن الترابي: من المسجد إلى السلطة ابتدأت الحركة الاسلامية خجولة محدودة الأثر ومحصورة وسط الصفوة منذ نهاية الاربعينات و حتى ظهور هذا الرجل علي المسرح بزي عصري وتعليم في أرفع الجامعات الغربية قبيل اندلاع ثورة أكتوبر 1964م. نجح في ظرف سنوات في إبعاد عدد من القياديين التقليديين من أصحاب نظرية "التربية أولا" ونجح في الدفع للمقاعد الأمامية بمجموعة من الأقران والشباب الحركيين من المتطلعين لقيام سلطة تحكم بالشريعة الاسلامية. أصاب الترابي نجاحات متلاحقة أشبه بسكين تخترق قالب زبد. نجح في تعطيل مسار الحزب الشيوعي في الستينات، و نجح في بناء حركة طلابية قوية نجحت في التنافس على قيادة الاتحادات الطلابية وفي تجنيد عدد من النابهين ممن لعبوا فيما بعد أدوارا مهمة سياسيا وفكريا، و نجح في تسريب كوادره في خلايا الخدمة المدنية و الاكاديميا ومؤسسات الحكم والجيش والأجهزة الأمنية بعد مصالحته مع سلطة مايو في السبعينات تمهيدا لاستلام كامل السلطة في وقت معلوم. بالجملة، يكمن نجاح الترابي في التحول بحركة الأخوان من جماعة بطئية الحركة ومتكلسة إلى استلام السلطة بكاملها. استلام السلطة بانقلاب في حد ذاته ليس صعبا إنما الصعب هو الصمود في وجه حصار ومقاومة عسكرية ما يزيد على ربع القرن. انقلاب تلاميذه عليه وإبعاده من الحكم الذي صنعه وحده بطريقة مهينة واضطرار التلاميذ (العاقين) للرجوع إليه مرة أخرى وهم (شبه نادمين) يعد نتاج صموده ومقاومته لهم وهو في الثمانين من عمره هو أيضا (نجاح) آخر يعد له. 6. جون قرنق: قناني جديدة و شراب جديد محارب لا سند له الا تأهيله العسكري في الكلية الحربية السودانية، والاكاديمي في جامعة أمريكية مرموقة متخصصا في الاقتصاد الزراعي، و مع ذلك نجح في قيادة أكبر حركة تغيير شهدها السودان المعاصر منذ الثورة المهدية، كانت تهدف لإعادة هيكلة الدولة السودانية لصالح المهمشين عوضا عن أن تكون دولة لصفوات مدنية وعسكرية تنتمي لارومات معينة. على مدى زمن طويل تتغير القناني ولكنه نفس الخمر. منذ أوائل الثمانينات وهو في كر وفر مع حكومات المركز إلا أنه بعبقريته وتحالفاته المرنة التي شملت معظم الطيف العرقي والجهوي السوداني الإبقاء على جذوة ثورته متقدة الى أن استطاع الوصول إلى اتفاق سياسي عام 2005م أعطى المهمشين حقوقا مقدرة. نجحت القوى المجرمة التي لا تريد الخير لبلادنا في اغتيال الزعيم قرنق في ليلة عاصفة و اتبعتها بتدبير فتنة هوجاء دامية في شوارع العاصمة المثلثة بين الجنوبيين والشماليين، نجحت في الاجهاز على أي أمل في قيام وحدة على أسس جديدة وعادلة بين مكونات البلاد. عبقرية قرنق تتمثل في إيقاظ شعلة النضال لإزالة المظالم الجهوية الناتجة من عيوب هيكلية في بنية الدولة السودانية و في إطار السودان الواحد. قرنق لم يطرح يوما الحل الانفصالي لقناعته بعدم جدواه. و ها هي الأيام تثبت صحة رؤاه العميقة . فقد تحقق الانفصال ولكن لا السودان الام ولا الدولة الوليدة لم تشهدا لحظة سلام واحدة. [email protected]