مٓنْ منا لا يملك عزيزاً او نفيساً يخشى فراقه او افتقاده؟ هكذا حال الانسان منذ الأزل وكلنا يعلم حال سيدنا آدم - عليه السلام - وما ال اليه عندما اضربت السدة حواء عن الطعام و صامت عن الكلام وظن انها لا محالة فانية، ما كان منه الا ان يعصي ربه ويطعم نفسه من الشجرة التي حرمها الله عليهما و كانت عقوبتهما الخروج من الجنة ونعيمها. دعونا نتحدّث عن الجزئية الاولى من هذه القصة - وقصص القرآن كلها عبر ومواعظ - وهي جزئية التضحية للعزيز الذي يُخشى فقدانهٌ وهو حواء في حالتنا هذه - لقد ضحى آدم بالطاعة و النعيم لمّا ظن ان العزيزة حواء مفقودة مفقودة ان لم يلبِ طلبها- فكانت التضحية الجسيمة الإتيان على معصية الخالق. لقد تابعنا عبر المواقع الاسفيرية حالتي الهياج و الغليان التي اهتاجت بعض النفوس السودانية من دعوة الاستاذ ياسر عرمان لمنح الحكم الذاتي للمنطقتين جنوب كردفان/ جبال النوبة والنيل الأزرق. فهناك من استهجن واسترخص الحكم الذاتي على سكان المنطقتين و اعتبره دعوة حق اريد بها باطل وطائفة اخرى قد استنكر عليهم اية خصوصية. ان كانت الخصوصية تعني شيئاً فهي كل ما يتعلق بشخص او بمجموعة او بشيء محدد دون سواه؛ او هي منظومة متكاملة من الخصائص و السمات المادية و الروحية وأسلوب الحياة والأخلاقيات و رءوية الذات و الاخر والتي تكونت عبر عملية تراكمية و تفاعلية عبر التاريخ وهي لا توجد من فراغ بل هي بنت البيئة. لا احد ينكر على المنطقتين خصوصيتهما الا لحاجة في نفسه و عندما يطالب الاستاذ عرمان بهذه الخصوصية فانه يعلم يقيناً انها موجودة بحكم طول مشاركته في قيادة الحركة الشعبية ومواكبتها للحرب التي تدور رحاها في المنطقتين والآثار السالبة التي أفرزتها هناك والحكومة بذاتها تعلم علم اليقين بها وقد اعترفت بها في مرات كثيرة. مطالبة الاستاذ عرمان ليست ببدعة وليست هي الاولى في تاريخ السودان او الحوار السياسي السلمي منه او المسلح. نعم، هناك خصوصيات وليست بواحدة وكلها تفضي لحالة تقرير المصير وليس الحكم الذاتي. كم من منطقة او شعب او إثنية او دول كانت موحدة و انشطرت بعوامل الخصوصية هذه؛ نعود لذاكرة التاريخ البعيدة منها والقريبة و نوجز الآتي من الأمثلة: عن خصوصية الهوية: لا توجد منطقة بالسودان تتميز بهويتها الغنية والضاربة الجذور اكثر من المنطقتين وبخصوصية الهوية هذه فقد نالت أقلية الساومي في الشمال الغربي لدولة النرويج حكمها الذاتي دون اقتتال ولها صلاحيات ممتدة. عن ناحية الديانة والمعتقدات: المنطقتان غنيتان دون سواهما بالديانات وهذه خصوصية انفصلت البوسنة والهرسك بسببها عن يوغسلافيا بعد حرب ضروس وانتهاكات للإنسانية أودت بمرتكبيها لمحكمة الجنايات الدولية. تن الناحية الأثنية وحقوقها: لا يزال إنسان المنطقتين يعيش الذل والاذلال والتمييز في كل مجالات الحياة الاجتماعية و السياسية والعملية. كيف لا ويُفرّق بين الناس في كل مناحي الحياة بالقبيلة التي وضعت لها خانة مميزة بكل اورنيك تقديم!! انظر كذلك للمعاناة التي يعيشها، مثلا ً، إنسان جبال النوبة في الكهوف ( الحياة البدائية التي عاشها الانسان في مراحل تطوره ) ومعها المعاناة الانسانية اليومية من قذف و تقتيل وبتر للأجزاء جراء طائرات الانتينوف والصواريخ والقنابل الحارقة دون تمييز وبلا رحمة. هل سمع العالم يوماً بقافلة مساعدة او نفرة او مظاهرة حُشِدت لها الناس في السودان تاييداً لتلك الام المسكينة او الطفلة البريئة التي غُذِيت من أوراق الشجر؟!! بربك الجليل ماذا تفسر خروج الناس لنصرة مدينتي امروابة وأبي كرشولا منددة و مستنكرة دخول الحركة الشعبية لهما في الوقت الذي يعاني فيها إنسان الجبال و دارفور من سندان الحكومة ومطرقة قوات الدعم السريع دون نصير؟!! أليست هذه خصوصية يستحق بها ذلك اللا معدود للحكم الذاتي؟!! عن الناحية الأيديولوجية: نجد ان لإنسان تلك المنطقتين أيديولوجية تختلف في مضمونها و أهدافها عن تلك التي يحملها الآخرون وبسببها يتعرض للقذف اليومي و تمارس عليه و على منطقتيهما سياسة الارض المحروقة. أليست الأيديولوجية هي التي أدت لانفصال الألمانيتين عن بعضهما؟ ًأليست هي و الأثنية اللتان ادتا لانفصال جزيرة البرم عن يوغسلافيا قبل شهور؟ ماذا عن احدث دولة وليدة في العالم - دولة جنوب السودان - ماهي الأسباب والدوافع التي فصلتها عن السودان الام؟ أليست هي جملة الأسباب السابقة؟ أليست كلها خصوصيات؟ نقرا التاريخ ولا نعي ونشاهد الأحداث بآم أعيننا ولا نعتبر!! نتباكى على الفقيد العزيز الغالي ولم نتدبر إنقاذه !! الكل يبكي على الوطن ويخاف تفتيته ولكنه لا يبحث عن الأسباب والسبل لاتقاء النتائج و ان وُجِد ذلك الفذ الحصيف الناصح لا يُسْمع له، وهكذا تزداد مصائبنا وتستفحل وتعصي علينا الحلول لان عجلة زمانها قد سبقت الزمن ثم نلوم أنفسنا وهيهات هيهات. ان كنتٓ بصاحب منزل أحاطه السيل من كل جانب و أوشك السيل على غمره؛ ماذا يكون ردة فعلك اجارك الله ؟ أتكون ردة الفعل بالصياح " ألحقوني يا ابو مُرُوّة " و انت جالسٌ القرفصاء في حوشك؟ ان كان امر المنزل يهمك حقاً، فسوف تشمّر عن ساعد الجد وتبدأ في البحث عن التراب و الخيش، ان أمكن ، و ردم منافذ السيل بالكوريك و الطورية -ان كانت لديك هذه الأدوات - وان لم تكن لديك فحتماً سوف ترسل احداً على عجالة من الامر ليحضرها لك و تنشغل انت بحراسة المنزل و حمايته ريثما يعود المرسل بأدوات الحل و النجاة اولا ً ثم الاستعانة بأصحاب المروءة والمقدرة لإنقاذك من المحنة التي حلّت بك و بدارك. من يحدق به الخطر فلابد له من البحث عن الحلول الناجعة للخروج لبر الأمان. ان كان أولئك المتباكون حريصون حقاً على وحدة السودان و كينونته، فحريٌ بهم ان يشمِّروا عن ساعد الجد ويبحثوا بعين ثاقبة و بصيرة نافذة في الأسباب والمخاطر التي تحدق بهذه الوحدة وديمومتها. على العقلاء من أهل البلاد ضرورة الجلوس والتباحث بعقلانية عن الحلول الناجعة لإبقاء السودان وطناً واحداً والنظر لمظالم الآخرين بنظرة مستقبلية و روح من الحكمة و المسؤولية؛ فان كان السيد بالكر بدري و السيد عبدالرحمن المهدي والسيد استانسلاوس بيساما قد فطنوا لأمر السودان من قبل الاستقلال ثم جاء السيد جعفر النميري من بعدهم بهذه الرؤيا؛ فإنني واثق بان هناك من الحادبين على امر السودان الذين يستطيعون الخروج به من مأزق التآكل. جدير بنا ان نضع امر الحكم الذاتي نصب أعيننا ويكون ضمن الحلول لمشكلة السودان فهو اي السيد عرمان و ان لم يكن من أبناء المنطقة فان السيد عبدالرحمن المهدي لم يكن دينكاوي ولا شلكاوي او نويري و لكنه كان سودانياً وحدوياً وليته عاش ليعطي درساً عن فراسته وعمق تفكيره و قراءته للمستقبل التي عجز عنها أترابه. الذين يدقون طبول الحرب و يعدون القنابل المتفجرة منها و الموقوتة و يصبون الزيت على نيران الاحتراب، هم الذين لم تطأ لهم قدم ارض معركة و لم يفقدوا لهم عزيز في ساحة نزال او تبتر لهم ام او اخت او صغير، و هم الذين لم تتأثر أوضاعهم سواء المعيشية منها او الأمنية او الدراسية او الصحية او غيرها و لذلك لا يستطيعون تقييم استمرارية الحرب و مالاتها. انهم بافعالهم هذه و تنكرهم على الفكرة إنما يعطون الحق لحملة السلاح بالمضي في حربه من اجل حقوقه التي حمل السلاح من اجلها و لن يسقطه الا بهزيمته او موته و حينها يكون السودان على شفا جرف هار يوشك على الانهيار. د. النور الزبير [email protected]