إذا كنت حديث العهد بالوسط الثقافي المصري والعربي، فلا يمكنك تمييز أن هذا الشاب الأسمر الطويل... جديد على الوسط الثقافي المصري، وأنه قد انتقل للإقامة في مصر أواخر العام 2009، بل قد لا تكتشف أنه سوداني بالأساس، نظرا للكنته المصرية السليمة. فحّمور زيادة... السوداني الذي نشر عمله الإبداعي الأول بمصر العام 2008 تحت عنوان «سيرة أم درمانية» يحاول أن يذوب في القاهرة، لأنه يرى أن آفة النشر بمصر- تكمن في أن مؤسسات النشر المصرية تحتاج أن يكون الكاتب قريبا من الحركة الثقافية المصرية حتى يساعده ذلك على انتشار العمل. ويتمنى أن يزول هذا الدافع قريبا، وأن تحذو دور النشر المصرية في ذلك حذو الدور اللبنانية التي لا تشترط في الأديب ذلك الشرط الخاص بالتواجد والانتشار، وتوزع أدبه على مستوى الوطن العربي بسهولة. وبمناسبة صدور عمله الروائي الأول عن دار ميريت للنشر بالقاهرة، بعنوان «الكونج»... «الراي» التقته، وكان لها معه هذا الحوار: * ماذا تعني كلمة «الكونج»؟ «الكونج» كلمة نوبية معناها «الحرفي» حسبما يقول الناطقون بالنوبية «الوجه».. وهي تطلق في بعض مناطق شمال السودان على الجانب الجنوبي المرتفع للجزر، ويطلقون على الجزء الشمالي المنخفض «الساب»، وهي أيضا كلمة نوبية. * شخصيات الرواية متميزة يرتقي معظمها إلى مرتبة الإدهاش، ومع ذلك يعاب على بعض الشخصيات كونها مكررة ومستهلكة على مستوى الأدب المقروء والتلفزيوني، كشخصية السيدة الطيبة جدا «حليمة»، وشخصية شيخ الجامع المنافق، وشخصية الدكتور إبراهيم التي تتشابه نوعا ما مع شخصية أبوالعلا البشري، فما تعليقك؟ لا أستطيع أن أحصي كل ما كتب في الأدب المصري لأقول هذه الشخصيات مطروقة أم لا، لكن الكاتب لا يكون مشغولا بأنه لابد أن يخلق عالما من شخوص متعددة غير مطروقة من قبل، هذه ليست قضية تهم الكاتب، الذي يهمه هو كيف يتناول شخوصه، من العادي أن أكتب رواية بطلها طبيب، هناك آلاف الروايات التي يكون أبطالها أطباء، هذه ليست قضية، نحن لا نخلق أشخاصا لم يوجدوا من قبل.. نحن نتحدث عن أشخاص موجودين فلماذا لا يشبهون غيرهم! * لكن تناول هذه الشخصيات لم يكن جديدا، ما الذي يجعل «حليمة» مختلفة عن «أمينة» في ثلاثية محفوظ مثلا؟ هذه ليست تهمة أن ترد شخصية في الأدب تتشابه مع حليمة الطيبة في روايتي، ومع ذلك فأمينة امرأة طيبة واقعية، وليست امرأة حالمة تعيش في عالم تخلقه لنفسها كحليمة أكلما وجدنا زوجة طيبة قلنا أمينة وكلما وجدنا مهاجرا يعود إلى قريته قلنا مصطفى سعيد؟! هذا خطأ في التلقي... بالتأكيد خطأ. * تكتب عن السودان وتنشر في مصر، فهل تضع القارئ المصري في ذهنك وأنت تكتب؟ ليس أثناء الكتابة، ربما في أفضلية النشر، بمعنى أن «الكونج»، هي عمل مكتوب من قبل في السودان، وكذلك رواية أخرى بعنوان «ترنيمة الجلاد»، وعندما اتجهت لنشرهما، قمت بعملية تقديم وتأخير لترتيب الأعمال، بقراءة لسوق النشر في مصر، ما الذي يمكن أن أقدمه في البداية وما الذي يمكن أن أؤخره قليلا. لكن أثناء الكتابة لا يمكن أن أضع المتلقي في ذهني، فأنا لا أكتب لمتلقٍ محدد، حتى في السودان أنت لا تستطيع أن تعتمد على ذائقة سودانية عامة، ونحن في زمن انفتحت فيه ذائقة المتلقي، فالكاتب المصري يُقرأ في المغرب والسعودية وفي مصر، وكذلك الكاتب السوداني، فمن الصعب أن تقول إنك تضع في ذهنك قارئا محددا من جنسية معينة أو من مستوى فكري محدد، أنت تكتب ما تريد أن تقوله. * إذا لماذا قررت أن تنشر «الكونج» أولا؟ هو تقدير له علاقة بحجمها وموضوعها، والحكم على صحة هذا التقدير سيكون بعد نشر «ترنيمة الجلاد»، ربما حينها أقول ليتني غيرت. * على الرغم من أن رواية «الكونج» تعتمد على تعدد الأصوات السردية، وقد أعطيت الفرصة لجميع شخصياتك للتعبير عن نفسها، فإن شخصية خضر الجزار المصري، الذي يحتال على أهل الكونج ويغشّهم في اللحم ويرفع سعره، لم يتحدث عن نفسه مطلقا؟ هناك عدة شخصيات ظهرت في «الكونج» وأثرت في الأحداث بأشكال متفاوتة لم تتحدث عن نفسها، فلم يكن هدفي تقصي كل شخصية وعرض رأيها في نفسها ورأي الآخرين فيها، بل قمت بانتخاب بعضهم ليقوموا بهذا الدور في حين ظل الباقون يتحركون في فضاء الرواية تحت سطوة النميمة.. «عوض الكريم» العسكري شخصية قوية الحضور لكنها لم تتكلم عن نفسها أيضا. * إذا شخصية «خضر» لا تعبر عن رؤية سودانية للشخصية المصرية؟ أنا أقدم عملا روائيا، وهذا العمل الروائي له شروطه الموضوعية، وفي هذا العمل الذي نتحدث عنه توجد شخصية أجنبية، وهذه الشخصية بغض النظر عن أنها مصرية، هو غريب على المجتمع السوداني، بقيم مختلفة وطباع متفردة، وهناك جزء في الرواية تحدث عن حقوق هذا الأجنبي، فهو يعامل كغريب إلى حد ما ومواطن إلى حد ما، هو في منطقة بين البينين. ومن الصعب أن تجد رجلا أجنبيا في قرى السودان، خصوصا الشمالية، إلا أن يكون مصريًّا أو أن يكون من نيجيريا أو دول غرب أفريقيا الذين يأتون عابرين لتدريس القرآن وعلومه، هذه هي الشخصيات الأجنبية الغريبة التي يمكن أن تجدها في قرى شمال السودان، وأنا أردت شخصية تناسب شروط الرواية، ولكني أعترض على الحكم بأن شخصية خضر المصري شخصية مخادعة، ففي روايتي لا أعتقد أنه يوجد أشخاص مخادعون أو أخيار بشكل كامل. * اعتمدت في الرواية على تعدد الأصوات السردية لتناسب منطق النميمة الذي هو قوام الرواية، فلِمَ تخشى من تشتت القارئ؟ لم تكن هذه التقنية في ذهني ابتداء، أن تتعدد الأصوات إلى هذه الدرجة، حتى تكون الرواية كلها على لسان شخصيات مختلفة، لكن بعد أن بدأت في كتابتها، وجدتها تسير في هذا الاتجاه، ربما كان الدافع إلى ذلك أن المجتمعات المغلقة عموما في أي مكان، خصوصا في السودان الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية، هي مجتمعات تهتم بالثقافة الشفهية، وهذه الشخصيات الشفهية لا يمكن أن تكون موجودة في الرواية دون أن تأخذ حقها من الثرثرة والنميمة، وأعتقد أن هذه التقنية في الآخر هي التي جعلت للرواية مذاقا خاصا. * قريتك «الكونج» قرية غير موجودة في الواقع، كذلك الأموات لا يعودون لزيارة أهلهم ليلا، ولا توجد جنية بالجبل، فهل نستطيع أن نصنف «الكونج» ضمن أدب الواقعية السحرية، وهل تأثرت ب «ماركيز» رائد هذه المدرسة وأنت تكتبها؟ من قال لك إن موتى قرانا.. لا يعودون وليست بها جنيات في الجبال! دعنا نقول إني لم أكن مهموما قط أن تكون روايتي من أدب الواقعية السحرية أو الواقعية الاشتراكية أو الرومانسية أو ما بعد الحداثة، فلنقل إني كتبت الرواية كما كان منطقها يحتاج، فغزلت الأساطير الشعبية والتدين الشعبي مع الواقع، وكان لابد من التعاطي مع هذه الأشياء باعتبارها واقعا على الأقل من منطق أهل القرية. أما عن التأثر ب «ماركيز» فأي كاتب لابد أن يتأثر بمن سبقوه ولابد أن يظهر هذا في أشكال كتابته، لكن هل كان ماركيز في بالي وأنا أكتب الرواية؟ أقول ربما كان قريبا، لكنه لم يكن حاضرا طوال الوقت، لكن ربما كان في بالي «الطيب صالح» باعتبار التحدي أني أكتب عن القرية، فالصورة النمطية في ذهن أي قارئ عن سوداني يكتب عن قرية أنه يكتب مثل الطيب صالح، لأن الطيب صالح كتب عن عالم القرية، فكان التحدي الذي وضعته أمامي أن أكتب عن قرية بعيدا عن عالم الطيب صالح. * بمناسبة الطيب صالح، لماذا لم تخرج الرواية السودانية حتى الآن خارج عباءته؟ الرواية السودانية لم تخرج من عباءة الطيب صالح لأنها لم تدخلها أصلا للأسف، لعلنا لو كنا دخلنا عباءته لاستفدنا كثيرا، لكن الطيب صالح فقط هو الاسم الأشهر، وهو ليس خصما على الكتاب السودانيين الآخرين ولم يأخذ حقوقهم، ولكن أيضا بنفس المقدار لم يستفد منه الكتاب السودانيون الآخرون، كان الطيب صالح- رحمه الله- كاتبا استثنائيا في موهبته وفي ظروف انتشاره، ولا أعتقد أنه من المنصف القياس عليه ولا يمكن تقليده، يوجد كثير من الكتاب السودانيين من أجيال متفاوتة، هم مبدعون، ولهم أعمال جيدة. لكن المشكلة الأكبر في السودان.. أن عملية تسويق الأدب ضعيفة جدا، بالإضافة إلى أن مجتمع السودان مجتمع حكاء بطبعه يفضل الشفاهة عن الكتابة، وبالتالي لا تظهر أعمال سودانية مكتوبة كثيرة، لذلك اندهش كثيرون عندما ظهر اسم الدكتور أمير تاج السر ضمن القائمة النهائية لجائزة البوكر، هناك كثيرون ربما لم يعرفوه من قبل ولم يقرأوا له، ربما حتى داخل السودان. الرأي