هل نحن مجتمعٌ دائريٌ وتكرار لنفسه بهذه النمطية المفرطة وبهذا القدر من الشماته، لماذا تتناسل وتتكاثر الظواهر السالبة في بلادنا كالحيوانات الخرافية كلما قطع لها رأس ظهر ألف رأس ولكن صحيح ان حرق الساق لا يعني موت الجذور؟. لقد تطور المجتمع البشري عبر تشكيلات اقتصادية واجتماعية مختلفة . وفي أحشاء هذه التشكيلات التأريخية تخلَّقت مجموعة من الكيانات والأشكال والمفاهيم عبرت عن الاختلافات والتنوع في تلك الأزمان. لقد كان هنالك رعاة وفلاحون وسادة وعبيد وأقنان ونبلاء وبرجوازية وبروليتاريا . وبحركة التطور الاجتماعي أصبحت هنالك فوارق بين المدينة والقرية والعمل الذهني واليدوي. وبالتقسيم الاجتماعي للعمل وفي إطار السيطرة على الموارد والثروة كانت هنالك حتمية لاستخدام الغرائز الوحشية والعنف لإخضاع المجموعات المهمشة والفقراء والملونين للأساليب اللا إنسانية لإحداث التراكم البدائي لرأس المال. وهكذا ومن ضمن أشياء عديدة أصبحت ألوان البشر واحدة من المعايير لتحديد موقع الفرد في السلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مجتمعات الإستغلال . هذه التقسيمات الوهمية كان الغرض منها تعزيز سيطرة حكم أقلية تدعي النقاء وتستدعى كل أشباح الماضي للبقاء في مواقع السيادة . وهي تستخدم العنصرية وتدعي امتلاك التفويض الإلهي والوصاية. وفي عصرنا تطورت المفاهيم الإنسانية في الحقوق والمواطنة ولقد أصدرت منظمة الأممالمتحدة جملة من المواثيق والعهود الدولية التي تحرم الإضطهاد والعنصرية. وعلى الرغم من هذه الإنجازات العظيمة على الصعيد العالمي الا ان الصراع لازال مستمراً من أجل ترسيخ هذه الحقوق في الممارسة. وعلى حسب مؤشرات بعض المنظمات الأممية فان العنصرية لا زالت تمارس وهنالك استرقاقٌ وعبوديةٌ تمارس في أشكال الإتجار بالبشر ببيع الأعضاء والإجبار على ممارسة الجنس والإعمال الشاقة وهذه كلها أنشطة إجراميةٌ وممارساتٌ تتعارض مع حقوق الإنسان. إن العنصرية ليست جديدة على نطاق العالم. ولكن في بلادنا وقبل مجئ نظام الإنقاذ لم تشكل قلقاً أو خطراً على النسيج الإجتماعي ولم تكن التعبير الصارخ في المعاملة. لقد تداخل وتعايش الناس في منظمات المجتمع الحديثة كالنقابات والأحزاب بشكل طوعي وبدون مراسيم أو قوانين. وهذا القول لا ينفى وجود وساوس أو بانها كانت تمارس بطريقة خجولة خوفاً من المناخ العام المعادي لمثل هذه التوجهات. وعلى العموم العنصرية لا يستطيع أحد إنكارها فهي موجودة في الشمال الجغرافي والجنوب على السواء ولكنها لم تصل مستوى الوباء الذي نعيشه اليوم.سلطة (الجبهة االقومية الإسلامية) التي كانت ولا زالت لا تلتفت لتحذيرات كل القوى السياسية والاجتماعية للآثار التي قد تترتب على سياساتها المغلفة والصريحة أحياناً ،تفاجأ وسط أعلى هيئاتها التشريعية والتنفيذية بان العنصرية التي كانت هي السياسة والممارسة الفعلية للنظام قد أضحت تهدد وجودها. وها هي تستغيث وتستنجد وللأسف تظهر أمامنا قصة محمود والغنم والذئب . إنها تراجيديا جديدة ولا يكف الكلام العام عن العنصرية بانها باتت مهدداً للأمن القومي والوحدة أو سحب كلمة قبيلة من وثيقة الهوية. إنها معالجات الصداع بقطع الرأس ويبقى الفعل ما دام السبب قائماً. ولم تُجْدِ الطبطبات على جرح عميق ظل ينزف كراهية. إن العنصرية كسلوك بغيض ظلت من المواضيع المسكوت عنها في السياسة السودانية على رغم من أنها ظلت تنخر في عمق المصداقية والثقة . وإذا قادت إلى الإنفصال فانه بلا شك سوف تؤدي إلى تشظي ما تبقى من الوطن. وإذا استخدمت العنصرية في فترات موغلةٍ في التأريخ لتراكم الثروات بشكل دموي فانه اليوم أصبحت أداة سياسية للسيطرة والإنفراد بالحكم والإقصاء عن مواقع إتخاذ القرار والمشاركة . كل يوم يتكشَّف للشعب السوداني (ماهية) المشروع الحضاري وبؤسه وحيرته في سوق السياسة وهو يتسول تارة باسم الدين وأحياناً كثيرة بالجهوية العنصرية. وعلى صعيد الممارسة العملية والملموسة فان العنصرية كانت عاملاً حاسماً في انفصال الجنوب وهي التي حرمت شباباً وشابات من حق التوظف ولإيجاد فرص للعمل الشريف، وهي التي حرمت البعض من الترقي في وظائف عليا ،وهي التي جعلت من بعض القطاعات مناطق مقفولة وملكية خاصة والعنصرية ،هي التي وضعت الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب. وهي التي شّوهت مفهوم التنمية المتوازنة والحكم الاتحادي وهي التي أقصت مجموعات من مجال التجارة والاستثمار ،وهي التي حرمت مجموعات عرقية وثقافية من إيجاد مساحة صغيرة في وسائل الإعلام والنشر. وبالعنصرية أصبح التفاخر والتباهي بالأنساب واتخذت بعض المتاجر والسيارات أسماء القبائل. مخطئٌ من يظن بأن الناس يجهلون كل هذه الممارسات ولكنهم يغضون النظر وتتراكم الغبائن . عنما يذبل الأمل ويضيع الحلم في العدالة المستحيلة يهرول البعض لنبش الكهوف لاستحضار روح الماضي في التصدي لقضايا الحاضر أو التلويح برايات القبلية والعنصرية عندما تجد الدعم المباشر لغرائز الشارع المنفلتة في مثل هذا النوع من القضايا أسوأ أنواع النفاق المألوفة وكثيراً ما تختبئ البغضاء والأكاذيب وراء الشعارات الكبيرة المضللة – ان العنصرية لا يمكن ان تفرز قيم التعاون والتعايش السلمي. وإن الفكرة المأزومة لا يمكن ان تقدم حلاً لانها أسيرة تناقضاتها وتصطدم بالحس السليم ومنطق الأشياء. يجب قراءة توجهات العصر ففي زمن العولمة هذا تتلاشي الحدود وتتقاصر قامات التعصب أمام التواصل والإختلاط وإن الجهل بالمعطيات يصبح ردة. وعندما تهتز هيبة الدولة وتعجز عن تحقيق العدالة الاجتماعية وبسط الأمن وتعتمد أساليب اللعب على التناقضات والاحتيال على الواقع فان أدعياء النفاق والتفوق العرقي يتسللون ويطفون على السطح كالنبات المائي. إن استئصال هذه الظاهرة غير الإنسانية والحد من غلوائها وحرق الجذور التي تغذيها لا يتم إلا عبر مجموعة من الإجراءات وليس هنالك حلولاً جاهزة . لأن الظاهرة لها جذورٌ ضاربةٌ في التأريخ ولكن يأتي في الأولويات الإقرار بان المواطنة هي الشرعية الوحيدة التي يقوم عليها نظامنا السياسي والاجتماعي وما يترتب عليها من الاعتراف بالآخر واحترام ثقافته وتقاليده والإقتناع بتقديم تنازلات من أجل التعايش المشترك وبإشاعة الديمقراطية في كل مفاصل الحياة وإحقاق التنمية المتوازنة لإزالة الغبن والظلم .ولا بد لأجهزة الإعلام ان تلعب دوراً تنويرياً في التعريف بالآخر وإعطاء مساحات للجميع في التعبير ونشر ثقافة السلام وحقوق الإنسان ،على أن تصبح الكفاءة هي المعيار والعنوان وليس العرق أو الإنتماء مع الإعتراف بكل الأخطاء التي قادت وتقود للتناحر. وإذا كان هذا الواجب يقع على عاتق الدولة فان نفس الواجب يقع علي عاتق منظمات المجتمع المدني لأن قضية بهذا الحجم والخطورة لا يمكن أن تحل فقط بالقوانين المعزولة عن الفهم والسند الشعبي. وكما يتلألأ الماس بكثرة ألوان أضلاعه، كذلك تشع وحد شعبنا بكثرة قومياته وشعوبه وبلغاته وسحناته وبلا تعصب. ويبقى الواقع ليس قصيدة وجدانية. ويبقى الواجب على الجميع عدم التمييز بين البشر بسبب أصولهم وجذورهم التأريخية لأن ذلك لم يكن خيار أحد. الميدان