نبيل أديب عبدالله المحامي جاء في الأنباء أن السيد/ نمر معتمد محلية الخرطوم، قد أمر بإخلاء ومصادرة 4 منازل وقتياً بمنطقة الديوم الشرقية بحجة أن بها مطاعم عشوائية وتزاول فيها أفعالٌ مخلة بالمجتمع. وقد تم ضبط عددٍ من المتهمين والمتهمات في أوضاع مخلة بالمنازل المعنية دون رابط شرعي وبحوزتهم كميات من مخدرات (الشاشمندي) والعوازل الذكرية وبعض المواد المخدرة والخمور وأدوات تعاطيها. وبغض النظر عن غرابة الإشارة لضبط أدوات تعاطي الخمور، حيث كنا نحسب أن تلك الأدوات لا تتميز عن أدوات تعاطي غيرها من المشروبات، إلا أن ما يثير الإنتباه في ذلك الخبر هو أن المعتمد أمر بإخلاء ومصادرة أربعة منازل وقتياً. ولا أدري على وجه التحديد ماذا تعني المصادرة الوقتية؟. مصادرة المال تعني الإستيلاء عليه لمصلحة الدولة، وهي مصادرة على سبيل التأبيد وليس التوقيت. المادة (129) من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أنه "يجوز للوالي أو المعتمد متى ثبت له بعد اجراء التحري اللازم أن أي منزل أو محل يدار للتعامل في الخمر أو المخدرات أو المواد المؤثرة علي القوى العقلية او للعب الميسر أو الدعارة ، أن يامر بإخلائه واغلاقه لمدة لا تزيد عن سنة واحدة". والمادة كما نرى لا تذكر المصادرة، فهل خالف المعتمد القانون؟. ربما قصد المعتمد من المصادرة الأمر الذي أصدره بإخلاء المنزل، لأن أمر الإخلاء ينطوي على مصادرة لمال. فالمال هو كل حق له قيمة مادية في التعامل، والمنزل الذي أُخلي على هذا النحو، يشغله إما مالك، أو مستأجر، أو مرخص له من أحدهما، وأي من هؤلاء يملك الحق في منفعة مقصودة من ذلك المنزل. وتلك المنفعة هي حق مالي تمت مصادرته. إذا كان ذلك التفسير ينقذ المعتمد من عيب مخالفة القانون، فهو يوقعه هو والمادة التي يستند عليها في عيب مخالفة الدستور. تنص المادة 43 (2) من الدستور على ما يلي " لا يجوز نزع الملكية الخاصة إلا بموجب قانون وللمصلحة العامة، وفي مقابل تعويض عادل وفوري. ولا تصادر الأموال الخاصة إلا بموجب حكم قضائي." المادة (129) من قانون الإجراءات الجنائية مادة تخالف عدداً من ضوابط التشريع العقابي، كما وتنتهك عدداً من الحقوق الدستورية، حتى ليعجب المرء من أنها بقيت ضمن المنظومة القانونية حتى الآن، وإن كانت لهذا السبب ظلت مادة نائمة وغير مستعملة، ولعلها قد تم إيقاظها بعد أن دخل الدستور في حالة من النعاس. المادة (129) لايعيبها فقط مخالفتها للمادة 43 من الدستور بل هي تخالف أيضاً المادة 34 (3) من الدستور ونصها "يكون لأي شخص، تُتخذ ضده إجراءات مدنية أو جنائية، الحق في سماع عادل وعلني أمام محكمة عادية مختصة وفقاً للإجراءات التي يحددها القانون" والمادة 35 من الدستور ونصها"يكفل للكافة الحق في التقاضي، ولا يجوز منع أحد من حقه في اللجوء إلى العدالة." ما قام به المعتمد هو جزاءٌ إداريٌ في قانون عقابى وهو أمر لا يجوز. الجزاء الإدارى، حتى في القوانين الإدارية، لا يجوز له أن يحمل سمات العقاب الجنائى. وهذا ما قالت به محكمة حقوق الإنسان الأوروبية فى كثير من الدعاوى ولكن الدعوى المفصلية فى هذا الخصوص هىى دعوى Engle And Others V. The Netherlands Application No 5100 والتى تتلخَّصُ وقائعُها فى أن الشاكين كانوا فى أوقات مختلفة مجندون فى الجيش الهولندى، وقد أُوقِعت عليهم جزاءات مختلفة وفق إجراءات التأديب العسكرى، فتقدموا بطعن ضد هذه الجزاءات لدى محكمة حقوق الإنسان الأوربية، كانت الدعوى تتضمن إدعاءً بأن الإجراءات المتخذة قد حرمت المدعين من الضمانات التى يوفرها لهم الحق فى المحاكمة العادلة. رأت المحكمة أنها لن تتقيد بالوصف الذى يمنحه القانون للإجراءات، أو العقوبة، بل عليها أن تتوصل بنفسها إلى طبيعة العقوبة، وما إذا كانت عقوبة إدارية، أم جنائية. وذلك لأنه لو سُمِح للدولة أن تحدد فى قانونها، فى مطلق تقديرها، ما إذا كانت العقوبة هى جزاء إدارى، أم عقوبه جنائية، فإن هذا يجعل الحق فى المحاكمة العادلة رهن إرادتها، بحيث يمكن لها أن تمنحه أو تمنعه . ذكرت المحكمة أنها "للتمييز بين الجزاء الإدارى والعقوبه الجنائية، تضع لطبيعة الجريمة وزناً كبيراً، فعندما يجد الجندى نفسه مواجهاً بإرتكاب فعل أو إمتناع يخالف قاعدة قانونية تحكم الإنضباط العسكرى، يجوز للدولة من حيث المبدأ أن تواجهه بالقانون الإدارى، وليس الجنائى. ولكن رقابة المحكمة لا تقف عند هذا الحد، لأنها ما لم تأخذ أيضا فى الإعتبار شدة العقاب الذى يواجهه الشخص المعنى، ستكون رقابة متوهمة وليست حقيقية. فى المجتمع الذى يخضع لحكم القانون فإن الحرمان من الحرية يدخل فى باب العقاب الجنائى، مالم يكن بسبب المدة أو طريقة التنفيذ تجعله قليل الأهمية، لأنه من الضرورى الأخذ فى الإعتبار بأهمية ما ستهدره العقوبة من حقوق بالنسبة لأحكام الميثاق. بالنظر لكل ذلك ستحدد المحكمة ما إذا كان كل أو بعض المدعين مواجهون بتهمة جنائية". إذا عدنا للمادة 129 من قانون الإجراءات الجنائية فإنه بالنسبة لشدة الجزاء الذى يمكن للمعتمد أن يوقعه، فإنه لا بد من القول بأنه فى طبيعته عقوبة جنائية، ويبدو ذلك واضحاً من أنها عقوبة مماثلة في شدتها للعقوبة الجنائية التى قررها القانون بالنسبة لجريمة إدارة محل للدعارة م 155 جنائي. المادة (129) لايعيبها فقط مخالفتها للدستور، وهو عيب لوعلمت عظيم، ولكنها أيضاً مخالفة لضوابط التشريع من عدة أوجه، أولها أنها وضعت في موضع تشريعي لا يخصها، فهي مادة عقابية في قانون إجرائي، وهي مادة عقابية في جزء متعلق بالإجراءات الوقائية. وثانيها أنها مادة عقابية لا تلبي سياسة عقابية عقلانية. يقول بنتام إنَّ الدافع الرئيسي للسلوك الإنساني هو تجنب الألم، والحصول على اللذة. لذلك فإن العقاب يستهدف الجاني نفسه حتى لا يعود إلى إرتكاب الجريمة، كما ويستهدف عموم المجتمع بحيث يستخدم التهديد بإيقاع العقوبة، لحث الرغبة على تجنب الألم. وكلما زادت خطورة الفعل على المصالح التي يرعاها المشرع، كلما إزدادت درجة الألم المستخدمة في العقوبة، بحيث ترفع درجة المقاومة لدى عموم المجتمع للدوافع التي تقود لإرتكاب الفعل المجرّم. العقاب على الأفعال المجرمة يجب أن يستهدف أحد ثلاثة أمور الأول ( هو نزع قدرة الجاني على الإتيان بالفعل المجرم مرة أخرى ) والثاني ( نزع رغبة الجاني في الإتيان بالفعل المجرم مرة أخرى ) والثالث ( أن يزرع في نفسه الخوف من الإتيان بالفعل مرة أخرى ). والمشرع هنا يضع العقوبة بشكل عام يكون الألم الذي من شأنها أن تحدثه له نفس الأثر على كل من يرتكب الجريمة ثم يترك للقاضي تفريد العقاب حسب درجة خطورة الجاني وإستجابته الإيلام الذي سيوقعه به. عقوبة الإخلاء والقفل تفترض أن الجاني هو مالك المنزل وبالتالي، فإن حرمانه من ملكه يعتبر عقوبة له على ما قام به من مخالفة للقانون، بإعتبار العقوبة هي إيلام مقصود. ورغم مافي ذلك من مخالفات عديدة فإن العقاب من حيث هو عقاب مفهوم، ولكن إذا كان مرتكب الجريمة هو مستأجر فقط، أو مرخص له بالإستعمال فإن المسألة تفتقد المعقولية من وجهين فمن جهة فإن شدة العقاب تختلف من جان لآخر، ليس بسبب خطورة ما قام به بل بسبب علاقته بالمنزل الذي تم الإخلاء منه. ومن جهة أخرى فإنها و ما يتبعها من غلق المحل لمدة سنة هي عقوبة موجهة في كل الأحوال لمالك العقار الذي قد لا يكون له صلة بالمخالفة. عموماً يبدو أن السيد/ نمر له فضل تنبيه الناس عموماً، وأهل القانون بشكل خاص لهذه المادة، التي لا يوجد للقائمين على أمر التشريع في بلادنا أي عذر في تركها سارية المفعول كل هذه المدة.