ليس مهماً أن تصدق أو لا تصدق ما سأرويه لك هنا.. لكنها الحقيقة التي هي تحت أعيننا ونحاول أن ننكرها.. هنا في قلب الخرطوم.. منطقة (محررة).. كل شيء فيها مباح ومتاح.. تحقيق: أسماء ميكائيل إسطنبول هل سبق لك أن دخلت (الغابة)؟، لا أقصد المعنى السياسي لكلمة (غابة).. ولا المعنى الجغرافي الذي يرتبط في ذهنك بالحيوانات المفترسة مثل الأسد، والنمر، والفيل.. (الغابة) التي أقصدها- هنا- في الخرطوم، ويطلق عليها الناس (غابة السنط)، تقع جنوب مدخل كبرى الإنقاذ (كبرى الفتيحاب) من ناحية الخرطوم.. وتحدها جنوباً المنطقة الصناعية.. من أجل جمع معلومات هذا التحقيق الاستقصائي تجولت داخل (الغابة) أسبوعاً كاملاً.. وفي مختلف أوقات اليوم.. الحصيلة كانت مرعبة.. مشاهد لا تصدق.. هنا منطقة (محررة) من القانون.. كل شيء متاح ومباح.. من الجنس إلى المخدرات إلى السرقات إلى القتل- أيضاً. شيشة.. للبنات!! وفي أثناء سيري في الغابة.. وجدت نفسي أمام مجموعة من الشباب في المنطقة المحاذية للنيل الأبيض.. وكانوا يشربون الشيشة.. ووجدت (ست الشاي) وهي على وشك الذهاب، فسألتها ألا يوجد هنا مكان لشرب الشيشة للبنات؟.. ردت (تريدي أن تشربي شيشة؟، إذن انتظري دقيقة..)، ثم نادت على شخص لكنه لم يظهر.. فقلت لها (ممكن تصفي لي المكان الذي أذهب إليه وأشرب الشيشة).. فقالت لي لا يوجد مكان محدد لكن ممكن أن تشربي بين ستات الشاي.. وأشارت بيدها نحو أخريات ثم أكملت الوصف (تجلسي بينهن وهن يعملن ساتراً)، ثم أكملت حديثها (من الأفضل أن تأتي في الصباح حوالى الساعة ثمانية حتى تسعة صباحاً، الجو بيكون هادئ وسمح..)، وبضحكة قالت لي (كلنا بنجبدا..)، بادلتها الضحكة، وقلت لها (شكرا يا فردة.. نشوفك الصباح إذن). البحث عن مكان آمن وتحركت- أنا- ورفيقتي وكانت الشمس تنحدر نحو الغروب.. فسلكنا اتجاهاً آخر، وفي أثناء سيرنا كان هناك الكثير من العشاق يتحركون مثلنا نحو الاتجاه الشرقي من الغابة؛ من أجل البحث عن مكان أكثر أماناً.. كنت أشاهد العدد المهول من العشاق الذين يتسللون من بين الشجر، وكان خلفي شابان يحاولان اللحاق بنا وهما يرددان (يا بنات انتظروا..) وعندما اقتربا ناديا مرة أخرى.. كانا يحملان في كلتا يديهما نوعاً من الخشب المتحرك، وكان شكله متوسط الطول والعرض؛ (من أجل عرض بعض البضائع).. وكان شابان يقومان ببيع بعض الحلويات.. قال أحدهما (يا بنات تشتروا..)، فقلت لهما شكراً.. لكنه تجاهلني وبدأ يعدد في السلع التي يبيعها.. فقلت لهما (شاكرين!)، وعندما حاولنا الذهاب اعترضا طريقنا، وقال أحدهما- بكل وقاحة: (اشتروا منا وإلا...) صمت برهة ثم أكمل الجملة (يا تشتروا منا.. يا تقعدوا تتونسوا معانا..)، المعنى كان واضحاً حتى ولو تستر بالكلمات الزائفة. رغم الخوف الذي تملكني لكن الأمر لم يكن يحتمل غير قرار واحد.. هو الاستدارة والابتعاد بأسرع خطوات ممكنة.. دون الالتفاف إلى الخلف.. بعد مسافة كافية استرقنا النظر خلفنا.. الحمد لله لم يتبعانا!. مكان غريب ومظلم فجأة وجدنا أنفسنا في مكان كثيف الأشجار متلاصقة ومتعانقة، كتلاصق وتعانق العاشقين الذين تفيض بهم الغابة.. المكان مظلم رغم أن الشمس لم تغرب بعد.. رأينا فتاة أمامنا تسير وحيدة وبمنتهى الهدوء.. اقتربنا منها وسألناها.. ألا تشعرين بالخوف في هذا المكان وأنت وحدك؟.. قالت لي أنها (متعودة!!) على الحضور هنا.. المشهد عادي بالنسبة لها.. قلت لها يقال إن هذه الغابة خطرة؟.. ردت على نعم لكن هذا الطريق آمن بعض الشيء.. سألتها لماذا تأتيني هنا؟.. ردت بكل عفوية وربما السخرية أو الخبث (بيت ناس خالتي!!!)، قلت لها هل خالتك تسكن الغابة؟، لمحت في عينيها السخرية، وربما الغضب.. هزت رأسها وأسرعت الخطى؛ لتتجنب مزيداً من الاسترسال معنا.. (بيت خالتي) يبدو أنها الشفرة التي تستخدم لتبرير الغياب أمام أولى الأمر.. تخرج الفتاة من (الداخلية) أو من أي موقع تأتي منه تحت غطاء (ماشة بيت خالتي).. لتبحث عن ملاذ آمن هنا في (منطقة محررة).. لفت نظري ملاحظة مهمة.. (ستات الشاي) المعزولات في مواقعهن هن الأكثر حظوة بالرواد من الشباب.. الخلوة عامل الجاذبية الأول- هنا- في الغابة.. كلما زادت قابلية الخلوة جذبت شباباً ورواداً أكثر.. شاهدنا أربعة شباب يجلسون بمنتهى الأريحية وتتصاعد من وسطهعم بعض الأبخرة والدخان.. رائحة (الحشيش) واضحة لا تستتر بأية غشاوة أو توهم.. المدهش أنهم كانوا على مرمى حجر من (ست الشاي).. جلسنا مباشرة خلف (ست الشاي).. كانت هناك فتاة منقبة (تخدم) على العشاق في كراسيهم المتناثرة.. كنت أختلس النظر إلى الشباب الأربعة وهم (يسطلون) على عينك يا تاجر.. أحد الشباب تحرك وأتى قريباً من مجلسنا.. تناول كوب ماء من (ست الشاي) ثم ابتعد قليلاً، وبدأ في صب الماء على رأسه.. ثم غسل وجهه.. وبدأ يعيد خللة الماء في شعر رأسه.. رفيقتي كانت تملك الشجاعة الكافية لتسأل (ست الشاي) عمّا يفعله هؤلاء الشباب.. قالت بكل جرأة (انتي بتخلي الأولاد ديل يشربوا البنقو جنبك ليه؟؟).. (ست الشاي) تظاهرت بأنها لم تستوعب السؤال جيداً.. فسألت بدورها (أي شباب تقصدين)، ووقفت تحرك بصرها في نصف دائرة كمن يبحث عن شيء ضائع.. ثم استدارت لنا (بري.. ديل ما بعرفهم..!!). تحرنا لنمضي في طريقنا.. لكن المرأة بائعة الشاي استوقفتنا قائلة (لا.. هذا الطريق خطر جداً.. اذهبن من هنا)، وأشارت بأصبعها إلى اتجاه آخر.. استدرنا وعملنا بتوجيهها.. زيارة واحدة.. لا تكفي..!! اليوم الطويل.. والجولة المرهقة انتهت في حوالى الساعة السادسة والنصف.. فكان لا بد من الخروج من الغابة بعد التحذيرات التي تلقيناها.. في اليوم التالي مباشرة.. كان لا بد من الزيارة الثانية.. قررت الذهاب وحدي دون مرافق.. خبرة اليوم الأول أكسبتني بعض الشجاعة. تحركت في زمن متأخر بعض الشيء بعد أن ذهبت إلى مقر صحيفة (التيار).. امتطيت المواصلات العامة حتى إستاد الخرطوم.. لم أجد حافلات الكلاكلات أو السوق الشعبي التي تقلني إلى الطرف الشرقي من الغابة.. فقررت الذهاب على قدمي (كداري).. تحركت من الإستاد إلى أن وصلت الكبري الطائر جوار جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.. وبعدها عبرت الزلط وسلكت الاتجاه الغربي للغابة، وظللت أسير محاذية للزلط. اقتربت من الغابة من الناحية الشرقية.. حاولت أن أتلمس أفضل طريق للدخول إلى عمقها، رأيت رجلاً يسير فسألته هل من الممكن أن أدخل من هنا إلى الغابة.. رفع حاجبيه، وهزّ رأسه، وقال لي بكل دهشة.. (هذا الطريق خطر جداً.. ابتعدي عنه..)، وواصل شرحه لمعنى الخطورة فقال لي.. (الرواكيب دي كلها خمور.. وسكارى.. البوديك ليهم شنو؟؟ أبعدي من هنا..!!). فواصلت سيري موازية لشارع الأسفلت في اتجاه الجنوب محاولة تلمس طريق سالك إلى الداخل.. إلى أن وصلت الباعة الذين يفترشون على طاولاتهم منحوتات خشبية أبنوسية جميلة.. وجدت رجلاً تبدو عليه علامات تدعو إلى الارتياح سألته أن كان بإمكاني الدخول إلى الغابة من هذا الطريق.. رد عليّ بكل غضب (اسمعي يا بت العم.. هذه المنطقة خطرة أشد الخطورة- مهما كنت شجاعة لا تستطيعين الدخول إليها..) ثم واصل تحذيره (ثاني أنتِ بت.. إذا دخلت جوه والله تتنتفي نتيف الدجاج..). لم أفهم معنى (نتيف الدجاج) لكني أحسست بما فيها من تحذير.. واصل الرجل تحذيره الغاضب (..حتى الرجال لا يستطيعون الدخول إليها).