القاهرة : يعاني الفن التشكيلي اغترابا ملحوظا بين الفنون فهو الأقل حظا من الناحية الجماهيرية لاسيما التجديدي منه، لكونه يعتمد في منهجه التعبيري على الرمزية المفرطة ويتطلب مستوى خاصا من التلقي والاستقبال، إذ لا يتعامل مع الذائقة الفطرية المباشرة، ولكنه يخاطب العقل أكثر مما يخاطب الوجدان، حيث يتم تفسير الإيحاءات التشكيلية وفق القواعد والنظريات، ويرتبط عادة بأفكار المبدع وثقافته وتجربته الحياتية والمدرسة الفنية التي ينتمي إليها أكاديميا. في معرض الفنان أمجد التهامي، وهو أحد المعاصرين البارزين في فن النحت، تتباين الأشكال والأجسام والأحجام، كما يتعدد أفق التعبير والأخيلة والمنطلقات الفكرية والفلسفية، ولكن تبقى نظرية واحدة تربط بين إبداعاته وقطعه النحتية مجتمعة، وهي لغة الفراغ والدوائر التي يقوم عليها اتجاهه وينسج منها عالمه الخاص جدا ويستلهم بفضلها أفكاره، المادي منها والإنساني والسيكولوجي، فهو يرى أن كل الأشياء مردها الأساسي المادة بتصنيفاتها المختلفة وما نتج عنها، سواء بالفن أو غيره، هو ظلال لتلك المادة القابلة للتطويع والتشكيل فلا يوجد شيء في الطبيعة غير قابل للتشكيل، هكذا يمكن قراءة معرض أمجد التهامي في ضوء فلسفته لمعرضه الأخير، الذي حول فيه الفراغ والدوائر إلى حوار وسجال مفتوح يسمح بتبادل وجهات النظر بين القطع النحتية والمتلقي، باعتبار أن اللغة العقلية حاضرة والحوار ممتد لوجود منطق كوني يحكم عملية التواصل ويوفر المفردات المطلوبة للتفاهم وترجمة كل ما هو صلب وجامد وإحالته إلى صور و تابلوهات غنية بالرموز وقادرة على فك طلاسم الكائنات الصخرية، التي هي أكثر بلاغة مما هو ناطق، حيث كل الشروط المطلوبة للتفاهم بين الطبيعة والإنسان متوافرة طالما وجدت السبل لاستنطاق المواد الصلبة المادة الخام للإبداع المنحوت. وتغلب خصوصية الدائرة والفراغ على معظم القطع المبتكرة لدى الفنان الأكاديمي النازع في كثير مما أبدعه إلى فكرة الطيران والنزول بها مجرد خيال إلى واقع حي قابل للتطبيق، فالطيران إن يحدث معنويا في أوقات النشوة والفرح الشديد فهو إذن متحقق على مستوى الخيال، ولا مانع من تصويره ليكون محاكاة خيالية لخيال أخر. ويلعب التهامي في محاكاته هذه على الطاقة الافتراضية في الإنسان التي تؤهله للتحليق بعيدا خارج مداره الطبيعي فتصله بالعالم الميتافيزيقي «عالم ما وراء الطبيعة « فيعيش بروحه حيث يشاء بينما يبقى جسده مسجونا في عالمه الأصلي، وهي سباحة في الخيال أشبه بالسباحة في أحلام اليقظة غير الخاضعة لأي منتهيات. وتبعا لهذه التصورات الجامحة تتشكل الأجسام البشرية في لوحات أمجد تشكيلات لا منطقية فتارة يضع رأس الطائر على جسم امرأة كناية عن رغبتها في الطيران. وتارة أخرى يتأرجح جسم الرجل بين المرتفع والمنخفض كأنه معلق بين السماء والأرض، في رمزية توحي بالحيرة وعدم الثبات وربما توحي أيضا بوقوعه بين مستويين من الخطر. وتأخذ معظم الأشكال الدالة على الحركة منحنيات و تلافيف يفهم منها أنها سرعة دوران الإنسان حول نفسه، فهو أينما ذهب يصل إلى نقطة البداية، أي أن العالم على اتساعه ضيق للغاية، وللتخلص من هذا الشعور يلجأ الإنسان إلى الخيال وأحلام اليقظة لتعويض المساحة المفتقدة لطموحه بمساحات إضافية يصنعها هو بشكل هلامي، إذ لا حاجة له بالعالم الواقعي طالما هو قادر على الهروب إلى البراح في دنياه الافتراضية. إرهاصات نفسية ودوائر متداخلة من الوعي واللاوعي تتبدى في معرض أمجد التهامي التجريدي، يمكن قراءتها بأكثر من وجه ومستويات مختلفة من التلقي والاستيعاب، لأنها في النهاية حالة فنية افتراضية منطلقها الخيال المحض وقوامها الموهبة والمرجعية الفكرية والثقافية للمبدع الذي يقف في المنطقة الوسطى بين المعقول واللامعقول على امتداد الخطوط البيانية لموهبته. كمال القاضي «القدس العربي»