كانت قطعة كالصحراء لكنها ليست صحراء، فهي أرض مقطوعة مليئة بالبقايا والجدال، وأصوات الحيوانات ونباحها، حتى الذئاب اشتركت في سيمفونية التأليف.. قدما المقاتل تنحوان نحو جثت متناثرة مختفية المعالم.. وجوهها ممحوة.. تبدو بعض الأسنان لامعة.. وأخرى لاشيء.. سوى الركام الدخان.. روائح شواء تنبعث من أجساد بشر.. يشوون ببطء على نار الانفجارات.. آهة مختفية بين الكتل البشرية المكومة على بعضها. الرجل كان يبحث عن مكان يهدأ فيه نفَسُه المتقطع المتسلسل.. نظر نحوه.. التلال موزعة.. توارى العسكري بعيدا.. عصب الرجل المشارك في المعركة رأسه بعمامة باهتة.. يداه متشظفتان بانت عروقهما كأنها خراطيم مياه.. غير أنها خراطيم لدماء باتت تعاكس بعضها في الاتجاه، انتفخت أوداجه واتضح وجهه كالحا أسمر اللون. عيناه تقاطعتا في شكل مثلث منكسر الزوايا، جلس القرفصاء على التراب بعد أن جمع حزمة من حطب وظل ينفخ فيه محدثا ارتفاع دخانه.. أواره.. صوت صدره أصدر كحة جافة كادت تقطع أنياط قلبه، غير أن البلغم خفف من وطأة السعال بعد أن قذف بكل ما يملأ ريقه على التراب «مترخما» بدون وعي أو إدراك أخرج علبة السيجار.. اقترب منه صاحبه وبين يديه كيسٌ مليء بأشياء يحتاجونها في مثل هذا الوقت.. أخرج الإبريق وضع ماءً من «المطرة» التي يحملها معلقة على خصره، كان يضع يده بين وقتين متلاحقين في كيس صغير يحتوي على شاي أسود وضعه في الإبريق ملحقا به السكر. قال لصاحبه: لا وقت لدينا يجب أن نضع الأشياء مترادفة تلو بعضها ونقطع الجوع والبرد الذي أخذ منا كل مأخذ.. كيف سننهي المعركة ونحن بهذا الجسد خائر القوى؟ قال صاحبه: أواه.. أواه من هذه الطاحونة نفخ النار.. اتسعت وازداد الضوء ليشمل المكان في ذلك الممتد المظلم.. ظهر رأس إنسان.. إنه رأس محارب.. بانت نواجذه وعيناه كمن يشاهد شيئا ما... ارتعد المقاتل – نظر في وجهه ما بك؟ قال الرجل: رأس إنسان ضحك صاحبه بما يشبه نبرة الاستهزاء... وماذا تريد رأس حيوان؟ إنها الحرب لا تخلف سوى الرؤوس المبتورة من على أجساد أصحابها.. هي تواقيع وترانيم لموسيقاها النحسة أرسل الرجل نظره محدقا في الرأس المبتورة.. قام من مكانه متجها صوب الرأس.. كانت الدماء وقتها لاتزال تقطر من جمجمته.. أدمعت عينا الرجل! استرسل ناظرا.. عينا الرأس تنظران نحو الرجل الذي جلس قبالتهما.. وأسنانه ظهرت صفراء.. يبدو أن حولها بقايا طعام وأثر شاي أسود.. شفتاه تمزقتا عن زرقة. قال: كان يحب السيجارة كثيرا دنا صاحبه واضعا كلتا يديه في جيب بزته الجلدية.. رفع رأسه فظهرت دمعتان تعومان في تجويف العين. ويحب الشاي كثيرا اختنق بالعبرة.. لاحظ صاحبه تهدج صوته تأثرا.. .التفت نحوه أخذ عود رتم.. نكز أسنانه.. أظهر الطعام من بينهما.. ثم أشار بالعود نحو صاحبه: آخر ليلة أكل لحم دجاج.. وشرب البيبسي كولا.. بعد ذلك تمدد على التراب البارد أشعل النار.. وضع الإبريق.. ثم صبّ كأس شاي.. بعد ثلاث رشفات مازال يتأمل السماء.. يتصفح جواله.. ينظر في رقم حبيبته.. قال في نفسه: لقد تخلت عني.. لم تعد تتصل بي كعادتها.. أدخل الجوال في جيبه.. بعد صراخ وأصوات حرب.. كان يقول دعوني.. ثم صمت كثيرا بعد أن وضع رأسه بين ركبتيه.. بكى كثيرا.. كاد أن يهلك نفسه بكاء.. وعاد يقول: ثم... تدحرج رأسه، كان صاحبه يقف خلفه يداري دموعه.. نهض متما دفن الرأس.. قال : يبدو لي أن الشاب ضحية، وجهه يوحي بأنه من الشباب الذين لا يحبون الصخب.. التفت نحو صاحبه وجده قد أخفى دموعه. وضع يده على كتفيه واتجها نحو إبريق الشاي.. جلسا متقابلين بينهما النار وإبريق يغلي.. ترتعش ظلالهما على تراب أرض رائحتها اختلطت بدم وبشر وشايً. حرّك النار الميتة بعود رتم، ثم قال: إنها الحرب تخرب كل شيء حتى وجه الصحراء. قاصة من ليبيا سعاد الصيد الورفلي القدس العربي