رواية الكاتب الكويتي ماجد المطيري عبارة عن رحلة مثيرة يقوم بها الفتى اليهودي الفلسطيني داود في بلاد العرب من أجل الحصول على 'الجوهرة'. ميدل ايست أونلاين بقلم: أحمد فضل شبلول يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ ** وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمَّى على خطى "ساحر الصحراء" لباولو كويليو، و"واحة الغروب" لبهاء طاهر، يمضي ماجد المطيري في روايته "الجوهرة" التي يبحث عنها طيلة الرواية، فيترك عائلته وبلاده وديانته ويأتي إلى الجزيرة العربية بحثا عن تلك الجوهرة. وينتقل من مكان إلى مكان، ومن قبيلة إلى قبيلة، جريا وراء هواجسه وجنيته العربية. ومن خلال تلك الرحلة المثيرة التي قام بها الفتى اليهودي الفلسطيني داود (اسمي داود وأنا من يهود فلسطين)، في بلاد العرب، نعرف الكثير من العادات والتقاليد والأنظمة والأعراف ومظاهر الحياة اليومية في أكثر من مكان بالجزيرة العربية. أما عن الزمان فهو غير محدد تحديدا قاطعا، ولكن نفهم من خلال بعض العبارات الشاردة أنه زمن الحكم التركي أو العثماني للبلاد العربية، وهو ما نلاحظه في عبارة "عساكر من الجيش التركي دخلت إلى أرض الجزيرة من أجل حماية إحدى المدن التي استجارت بهم". الرواية - الصادرة عن نوفا بلس للنشر والتوزيع 2014 - تدخلنا أحيانا في عالم المغامرات التي تقود بطلها داود إلى القتل والتخفي والهروب والعمل أجيرا لدى الغير والرحيل وراء السراب. ولكي يستطيع داود التعامل مع العرب في تلك الصحراء المترامية الأطراف يعلن إسلامه "جئت هنا كمستشرق ومحب للعرب والتراث الإسلامي، وأريد أن أكون مسلما، فأنا أتيت من ديار بعيدة إلى هنا، ولم أشهر إسلامي بعد." وذلك بعد أن قال في مناجاته وحواره الداخلي أو منولوجه: "الله هو ملجئي الوحيد كيهودي". من خلال ترحال ذلك اليهودي الذي أسلم تقابلنا شخصيات الرواية الثانوية التي يكون بعضها سببا مباشرا في تطوير أحداث الرواية وتوجيهها وجهة معينة، مثل ماضي التاجر المتنقل بين المدن والقرى والقبائل، والشيخ راجح إمام مسجد عنيزة، والأمير فيصل الفيصلي حاكم نجد الذي يقتله داود وهو نائم انتقاما لقتله سعران الفيصلي، ثم يلوذ داود بالفرار، بالإضافة إلى الشيخ ذعار أمير عشيرة الذواري، وغيرهم. غير أن الجنية العربية التي تظهر لداود في أحلامه، وأحيانا يراها في واقعه اليومي كطيف لا يراه سواه، هي التي خطَّت مسار الرحلة، وهي الهاجس الذي يجري وراءه بطل الرواية، آملا في الحصول على جوهرته أو جائزته الكبرى "جوهرة تنتظرني في أرض الجزيرة العربية"، فهل سيعثر عليها، أم تنتهي الرواية كما انتهت "ساحر الصحراء" أو "السيميائي" لكويليو بفشل سانتياجو في العثور على "الكنز" ولكنه يربح أسطورته الذاتية ويكتشف روح العالم، أو كما انتهت "واحة الغروب" لبهاء طاهر بحرق المعبد؟ ويلاحظ أن الروايات الثلاث تتخذ من عالم الصحراء ملعبا لها، سواء كانت الصحراء الغربية في مصر، أو الصحراء العربية بجزيرة العرب. يفاجئنا الكاتب الكويتي ماجد المطيري - الحاصل على جائزة التأليف المسرحي من هيئة الشباب والرياضة بالكويت - بنهاية مختلفة لروايته "الجوهرة" التي يحصل عليها بعد كل العناء والتعب والمشاق، فالجوهرة عند المطيري تشكلت في شكل أنثى كانت الروح والحياة التي يبحث عنها داود طوال الرواية، أو طول الرحلة التي قطعها من فلسطين إلى عنيزة بالجزيرة العربية وأماكن أخرى معينة وغير معينة، ولكن بمجرد الوصول إلى هذه الجوهرة يلقى داود حتفه بعد أن قاتل في صفوف أمير عربي أغار على قبيلته أعداؤه، فأظهر داود نوعا من الشجاعة وتصدى مع جيش الأمير لهم. وفي اللحظة التي يسلم فيها داود روحه لبارئها تسلم "الجوهرة" روحها كذلك. وتنتهي الرواية بقول داود في جملة استشرافية: "ما إن استقر جثماني داخل قبري حتى سلمت الجوهرة روحها إلى بارئها. لم يحفروا قبرا لها بجانبي كما طلبت الجوهرة، بل أمر الشيخ ذعار، وسط استغراب الجميع، أن تدفن معي في نفس القبر. وما إن لامست روحها روحي حتى عادت لي الروح". والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يُغري شابا في مقتبل العمر كان يعده أبوه لأن يخلفه في مهنة النجارة التي أجادها وتفنن فيها، لأن يترك كل شيء وراءه من أجل نداء خفي أو سراب، أو وهم أو كنز غير معلوم؟ هل هو الحدس، أم النداء الخفي، أم الطمع والسعي إلى الحصول على ثروة ضخمة، أم حب المغامرة والارتحال والتغرُّب؟ الدوافع نفسها هي التي دفعت سانتياجو، في "السيميائي" إلى ترك بلاده في الغرب والوصول إلى سفح الأهرام بمصر، علّه يجد الكنز، والدوافع نفسها هي التي دفعت كاثرين الأيرلندية زوجة مأمور الواحة للبحث عن كنز الإسكندر الأكبر في واحة سيوة بالصحراء الغربية لمصر. ولكن ثلاثتهم (داود، سانتياجو، كاثرين) يفشلون في الحصول على الكنز المادي، ففي حين يحصل بطل "ساحر الصحراء" على كنزه المعنوي الكبير، ينتهي أجل داود بعد الوصول إلى "الجوهرة" التي لم تكن سوى سبب للرحيل إلى عالم الآخرة، بينما يهدم محمود المعبد في "واحة الغروب" ولا تحصل كاثرنيا على شيء سوى قبض الريح. بهذه الثلاثية نجد أن الإنسان بدياناته السماوية الثلاثة ممثل فيها كشخصية رئيسية (أو كبطل): محمود المسلم في "واحة الغروب"، وسانتياجو المسيحي في "السيميائي"، وداود اليهودي في "الجوهرة" (وإن كان قد أسلم فيما بعد). ولعلنا نتساءل ما الذي دفع الكاتب ماجد المطيري – الحاصل على جائزة التميز الصحفي من وكالة كونا الكويتية - لأن يتخذ شخصية يهودية، ثم يجعلها تسلم، لتكون بطلا لروايته؟ هل هو استثمار الشره وحب المال والمجوهرات المعروف عن الشخصية اليهودية، وبالتالي السعي والتضحية بكل شيء في سبيل امتلاك "الجوهرة" والمال. وهنا يخاطبه الشيخ راجح قائلا: "يبدو أنك تهتم بأمر المال كثيرا يا دواد. الحب هو الذي يصنع الرجل، وليس المال. الحب يصنع جوهرة عظيمة في داخلك". ويعترف هو نفسه على أبيه قائلا: "كان أبي يهوديا جشعا يحب المال". بالتأكيد هذا أحد الدوافع التي جعلت المطيري يتخذ من بطل روايته شخصية يهودية، ولكني أرى أن هناك سببا فنيا آخر ينطوي عليه ذلك الاختيار، وهو اتخاذ داود قناعا لأفكار يريد الكاتب توصيلها عن العادات والتقاليد العربية والإسلامية، وعن تعاليم الإسلام نفسه، مثل قوله على لسان داود: "فحسب التقاليد الإسلامية لا يجوز أن يأكل الإنسان بيده اليسرى أبدا حتى لا يأكل معه الشيطان". مثل هذه العبارة لو جاءت على لسان شخصية مسلمة في الرواية لأصبحت عبارة تعليمية أو تقريرية فجة، ولكنها تقبل من إنسان غير مسلم (فلم يكن داود قد أعلن إسلامه بعد في تلك المنطقة من الرواية) يحاول أن يفسر ما يراه أمامه من سلوكيات المسلمين الذين يصاحبهم في تجواله وبحثه عن "الجوهرة". غير أن القناع قد لا يُفلح أحيانا في التخفي وراءه، فيسقط هذا القناع عند قول الكاتب على لسان داود أثناء سفره الصحراوي مع أحد الشيوخ الذي لم يكن سوى جني: "علينا أن نقيّل ونرتاح قليلا، فالرسول يقول: "قيّلوا فإن الشياطين لا تقيّل". فمن أين عرف داود حيدث العهد بالإسلام دون دراسة أو قراءة عنه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد قال هذه العبارة؟ أيضا يتدخل السارد أو الراوي العليم بالشرح والتفسير لأشياء من المفروض أن بطل الرواية كما قدمه الكاتب لا علم له بها، فمن أين يعرف داود أن "المقعد الوحيد فوق الناقة لقائد الناقة، أما الذي يجلس خلف القائد يسمى رديف". لو أن مثل هذه المعلومات جاءت على لسان شخصية إعرابية أو بدوية بالرواية لكانت مقبولة، ولكن الكاتب يوردها على لسان داود في لقائه مع الجني الذي ظهر له في صورة رجل عجوز أو في صورة بشرية. وقد يكون مقبولا أن تجئ عبارات على لسان السارد، وليس على لسان داود، مثل قول السارد: "البدو لا يعرفون الجاسوسية، فلا أحد يقبل أن يكون جاسوسا على قومه". الرواية لا تخلو من أصداء الواقعية السحرية، ومن أجواء ألف ليلة وليلة، وكيف لا وهي تدور أحداثها في صحراء الجزيرة العربية اللامتناهية، وهنا يستدعي السارد أخبار الجن، وكيف تظهر للبشر، وكيف تختفي، وكيف تظهر الشارات والبشارات وماذا نفهم منها، أو ماذا يفهم داود منها، وقد أعطى الكاتب أهمية كبرى لعالم الجن، وتستدعي الذاكرة ما رواه العرب قديما عن وادي الجن، وعن الشعراء الذين يقولون إن الجن هو الذي يملي عليهم القصائد، وما إلى ذلك. وقد أفرد الكاتب فصولا عدة غير متعاقبة تحت عنوان "الجنية العربية" في حين أنه لم يسمِّ الفصول الأخرى، أو لم يعط لها عناوين، وهو بذلك يميز تلك الفصول عن بقية فصول الرواية. وهي بالفعل كذلك حيث تنقلنا إلى أجواء روحية وعوالم حلمية تختلف عن بقية فصول الرمال والصحراء والبشر العاديين، وهنا يكمن تميز تلك الرواية عن عوالم السرد العادية، وتكمن موهبة ماجد المطيري السردية اليانعة. بقي أن نشير إلى عتبتين من عتبات الرواية افتتح بهما الكاتب صفحات روايته، الأولى هي الآية القرآنية 23 من سورة الحديد "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". وكأن هذه العتبة القرآنية هي تنبيه لبطل الرواية، أو تنبيه للقارئ أو المتلقي، بأن كل شيء مقدر ومكتوب فلا تحزن ولا تجزع على ما فاتك ولا تفرح بما يأتيك فرحا يذهلك ويذهب عقلك. ويقول المفسرون لهذه الآية: إن الحقيقة المطلقة قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها. فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعا وتذهب معه حسرات عند الضراء. ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء. وهو ما يتماشى مع ما أحس به داود عندما دخل المسجد لأول مرة فقال: شعرت بسكينة خالصة في هذا المكان لم أشعر بها منذ سنوات. أما العتبة الثانية فهي بيت المتنبي: يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ ** وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمَّى وهو ما يتماشي مع أجواء الرواية التي يبحث فيها بطلها عن "الجوهرة" التي هي أجل من أن تُسمى من وجهة نظره. ومع تقدم الأحداث وانتقال داود إلى أماكن عدة، يسأله الناس من أنت وما تبتغي، فكأنه يجيب بقول المتنبي: ما أبتغي جَلّ أن يُسمى.