المعرفة موقف ورؤية وحكم في صياغة الأفكار واستعمال المفاهيم والمصطلحات، مثلما هي فعالية سسيوثقافية للتعرّف على كيفيات تداول القيم والحقوق، وتجذيرها في(بنية) العقل بوصفها مُنتجا ثقافيا، وسيرورة رأيٍ عام يسهم في الضغط على صنّاع القرار السياسي والفقهي.. الباحثة رجاء بن سلامة تضعنا أمام الكثير من أسئلة المعرفة، والكثير من المواجهات، لاسيما تلك التي تتعلق بمعطى المعرفة وآليات توظيفها في السياق الثقافي، وفي الفعالية الاجتماعية، فضلا عما يتعلق بمواجهة مجموعة من الإكراهات الفقهية والسياسية والاجتماعية، التي تستدعي بالضرورة جُملة من الإجراءات والقراءات والحفريات، على مستوى النصوص وعلى مستوى المواقف، أو على مستوى الأحكام التي كثيرا ما تمسّ المسكوت عنه في العقل الاجتماعي والعقل الديني، وحتى ما يضع العقل السياسي أمام الكثير من تداعياتها، بوصفه الجهة المهيمنة والمسؤولة عن حيازة القوة والثروة والحجب وشرعنة تنفيذ القوانين النافذة.. وظيفة الباحث الاجتماعي أو المثقف التنويري الذي تمارسه بن سلامة اكتسب قوة فاعلة في مجال التحليل النفسي والبحثي، لكنه كان أكثر اندفاعا من خلال ترسيم مواجهة المهيمنات المركزية للخطاب السياسي والخطاب الديني، إذ انفتحت هذه المواجهة على مجموعة من المواقف والقراءات والتثاقفات، لاسيما تلك التي مسّت الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي للجماعات السياسية والدينية في عالمنا العربي والإسلامي، مثل مفاهيم (الفحولة، والهوية والجسد والحرية، والحقوق والجنوسة) تلك طرحتها الباحثة بن سلامة في معظم كُتبها، وفي اشتغالاتها البحثية، من منطلق مقارباتها الفكرية الجريئة للتاريخ والسلطة والهوية والخطاب، التي تحولت إلى هموم قارّة وإلى أدلجات مركزية، وإلى إشكالات فكرية وحقوقية مثيرة للجدل والخلاف، وإلى صراعات انعكست تداعياتها على النظرة الحقوقية والأخلاقية والجنسية للمرأة والرجل، فضلا عن تعالقها بمنظومة الجماعة، وبقيم الإرث والبنوة، والمساواة والقوامة، وغيرها من المفاهيم التي ظلت خاضعة لقراءات وأحكام متقاطعة.. الكتابة وصناعة المعرفة النظر إلى الكتابة المعرفية يظل باعثا على مواجهة السؤال الأنطولوجي الخاص بهوية هذه الكتابة، وإلى أين تفضي اشتغالاتها في سياق تقعيد المعرفة؟ وهل ستكون الكتابة في هذا المجال هي النقيض لما يطرحه (مُشرعن) المؤسسة الرسمية؟ وكيف يمكن التعاطي مع وقائع ونصوص وأحكام قارّة في مجتمع تقليدي له صيانات تاريخية ودينية وايديولوجية؟ هذه الأسئلة وغيرها تفتح أفقا يتسع كلما كانت الكتابة أكثر تلمّسا للهموم والإشكالات العامة الحقوقية والجنسية والدينية، وكلما أدركت الكاتبة، بنزعتها العقلانية النقدية، مهمتها الأخلاقية والثقافية لمواجهة تناصات التاريخ، وضرورة أن يصنع المثقف موقفا، أو قراءة مفارقة، أو حتى يجترح درسا علميا أكاديميا يدخل في سياق إجراءات البحث العلمي من جانب، وفي استراتيجيات المواجهة، التي ينبغي أن تنهض بها الإنتلجيسيا العربية، لاسيما مع أحداث التحولات العاصفة في المنطقة، التي مسّت الكثير من التابوات، لاسيما تابو السلطة والإيديولوجيا والجماعة، التي كشفت للأسف عن هشاشة الكثير من المؤسسات النمطية، بدءا من مؤسسة الجماعة ومؤسسة الحزب ومؤسسة الثورة، وانتهاء بمؤسسة السلطة، ومؤسسة الجامع ومؤسسة النخبة الثقافية غير الفاعلة في صناعة أي قوة صيانية، أو الدفاع عن الانتهاكات الحقوقية والنقابية والإنسانية. كتب رجاء بن سلامة «في نقد إنسان الجموع، نقد الثوابت، الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم، والعشق والكتابة/ قراءات في الموروث، وبنيات الفحولة/ أبحاث في المذكر والمؤنث، الإسلام والتحليل النفسي وغيرها» تمثل شهادة على اشتغالٍ واعٍ بإنتاج فهم سسيوثقافي لمفهوم تحليل الظواهر، تلك التي ترتبط بمتخيلها الثقافي للسرديات الحقوقية الفاعلة، التي تمسّ في جوهرها سرديات الأنثى، في سياق علاقتها ب(الثوابت والمقدسات) وفي سياق تمثلها لأفق استشراف منظور مدني لهذه السرديات، تلك تقارب كل إكراهات المدينة العربية، عبر منظوماتها السياسية الحاكمة والجنوسية والأخلاقية، مثلما تقارب في سياق آخر محنة الذاكرة، بوصفها صندوقا للسرائر والشياطين، فضلا عن ذاكرة الهوية، بوصفها عُصابا للمحو ولوهم السطوة ولسلطة الأب والإيديولوجيا والجسد والرقابة، التي جعلت العقل العربي أمام ثنائية طرد إشكالي ل(الهوية القاتلة، والهوية المقتولة) أقصد هوية الطائفة والملة والجماعة، تلك التي ظلت تعيد إنتاج خطاب الهيمنة وذهنيات التحريم والقرابة والأبوية، التي كانت المرأة/ الأنثى وليست المرأة/ الفرد ضحيتها الكبرى.. مفهوم الضحية تحوّل إلى نسق ثقافي، لكنه مضمر، إذ انخرطت الباحثة بن سلامة في لعبة مواجهة، ولعبة تعرية، على مستوى مواجهة رعب الذاكرة والجماعة والسلطة والقراءة المركزية، وعلى مستوى إعادة توصيف مفاهيم مجاورة للفحولة والعشق والمعتقد والجنوسة، بوصفها جزءا من مشروعها في شرعنة سرديات الأنثى الفاعلة، التي هي المقابل الثقافي للمشروع المدني، الذي ينسجم مع فكرة الدولة الحقوقية (الراشدة) ومع قيم الديمقراطية، ومع مفهوم الثورة بوصفها الإنساني.. سرديات السلطة...لا ربيع لها.. يبدو لي أن وضع السلطة العربية لم يؤهلها بعد لإنتاج سرديات مضادة، لأنها أولا سلطة فحولة، وثانيا هي سلطة (جموع) وثالثا لأنها سلطة لمركزة القسوة والعنف والمعسكر والتعصب والتكفير والكراهية، ورابعا لأنها سلطة الضبط والرقابة، وخامسا لأنها سلطة النقائض التي تتقاطع مع «إقرار المواطنة والمساواة وحرّيّة الضّمير ودولة القانون وحقوق الإنسان»، كما تقول رجاء بن سلامة في إحدى مدوناتها.. وبعد أحداث الربيع العربي برزت بن سلامة الحزبية ذات المرجعيات المدنية، ولكن فوز حزب النهضة في الانتخابات التونسية، وتعرّض عدد من المعارضين إلى حملة اغتيالات وتهديدات، مع تضخم ظاهرة الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية، قادها للاستقالة الحزبية، والتفرغ لوظيفة النضال المدني، ولمشغل بحثها التحليلي العلمي، وأحسب أن هذه الوظيفة هي الأكثر جدوى وأهمية، لأن انخراط المثقف العضوي في مشغل السلطة الملتبس، سيخضعه إلى مواجهات ومهيمنات سلطة الجماعة التي تقود السلطة وعصابها، وهو ما برز للأسف خلال يوميات هذا الربيع، فلا ربيع محتمل لهذه السلطة، ولا نظام علموي يؤطر نشاط مؤسساتها، تلك الفاقدة لعضوية التشريعات وأنسنتها، ولمنظور جامع لفعاليات الإصلاح والتنوير.. مشغل سرديات بن سلامة ينطلق من أفق النظرة الحقوقية، وحتى البراغماتية، أكثر من انطلاقه من المتخيّل، إذ أن هذا المشغل يقترح للمرأة المثقفة التي تلبس قناعها بن سلامة ممارسة وظيفة المواجهة، تلك التي تبدأ من تقعيد القوانين، وتعزيز هوية الدولة المدنية، ولا تنتهي عند شرعنة نظرتها الحقوقية للحرية والعمل والجسد، فضلا عن ممارستها المهنية لوظيفة التحليل المركب السسيولوجي والسايكولوجي، تلك التي تتولى فحص منظومة من المفاهيم، برزت بشكل أكثر تفجرا، مثل مفاهيم الحرية والثورة والكرامة، التي ستكون مقابلا ضديا لما هو مكرس في النمطية الخطابية للجماعات الحاكمة، مثل فعل الإخصاء الرمزي والتعمية وتضخم الفتوى على حساب القانون الوضعي... علي حسن الفواز القدس العربي