غرناطة : عن سنٍّ تناهز 74 حولاً غيّب الحِمَامُ يوم الاثنين 13 أبريل/نيسان الجاري 2015 في عاصمة الأوروغواي (مُونتيفيديّو) رمزاً بارزاً من رموز اليسار في أمريكا اللاّتينية، وواحداً من أجرأ كتّابها في العصر الحديث، وهو الكاتب الأوروغوائيّ الكبير إدواردو غاليانو، صاحب أشهر كتاب وُضع منذ ما ينيف على 46 عاماً حول معاناة السكّان الأصلييّن للقارة الأمريكية الذين يسمّيهم الكاتب «سكّان الشقّ الجنوبي السُّفليِ من القارّة » ، مقابل «سكّان الشِقّ الشّمالي العُلْويِ من القارّة»، وهو كتاب «أوردة أو شرايين أمريكا اللاّتينية المفتوحة»، التي لمّا تَزَلْ مفتوحةً ومشروخة بالفعل – إلى يومنا هذا – كما أكّد غير ما مرّة ذلك منذ بضعة أشهر صاحب الكتاب نفسه، الذي كان قد قال قيد حياته مازحاً : «على الرّغم من أنّ الرّئيس الفنزويلي السّابق الرّاحل أُوغُو تشّافيِز أهدى نسخةً من هذا الكتاب إلى الرّئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2009 خلال مؤتمر القمّة الخامس للعالَم الأمريكي، المنعقد في بويرتو إسبانيا عاصمة ترينيداد وتوباغو، وعلى الرّغم من أنّ نسبة مبيعات هذا الكتاب قد قفزت في أحد مواقع البيع الأمريكية (أمازون) من رتبة 60.280 إلى المرتبة العاشرة في يوم واحد، إلاّ انّه على يقين لا أُوغُو تشَافيِز نفسه، ولا باراك أوباما قد فَهِما فهماً جيّداً، واستوعبا استيعاباً حقيقيا نصّ وعمقَ وبُعْد هذا المؤلَّف»، الذي كان محظوراً في كلّ من الأوروغواي وتشيلي والأرجنتين. يضافُ إلى هذا الكتاب الضّخم الآنف الذّكر كتابُه الآخر «مذكّرات النار» (1986) الذي يقع في (ثلاثة أجزاء)، والذي أفردتُ له فصلاً قائمَ الذات تحت عنوان (إعمالُ النّظر) في كتابي: «ذاكرة الحُلْم والوَشْم» (أضواء مثيرة على ماضي وحاضر العالم الجديد) الصّادر عن دار النشر «أياديف» الرباط عام 2005. قبل أن يتعاطى إدواردو غاليانو الكتابة ويصبح كاتباً كبيراً، ومثقّفاً مرموقاً (يمثّل اليسار على وجه الخصوص) في أمريكا اللاّتينية، ومثلما كان الكاتب المكسيكي الشهير خوان رولفو عاملاً في أحد مصانع العجلات المطاطية فيبلاده المكسيك، فقد اشتغل غاليانو عاملاً بسيطاً في أحد المصانع، كما عمل رسّاماً، وساعي بريد، وفي الطباعة، وموظفاً في أحد المصارف البنكية، وفي سواها من الأعمال التي ليست لها أي صلة باختياراته، وطموحاته الحقيقية في الحياة، حيث أصبح في ما بعد من أكبر الكتّاب في بلده الأوروغواي، ثم على مستوى القارة الأمريكية، والعالم الناطق باللغة الإسبانية، وأن تترجم كتبه إلى ما ينيف على عشرين لغة عالمية. كِتَابُ اليَسَار في أمريكا اللّاتينيّة كتابه الشّهير» أوردة أمريكا اللاّتينة المفتوحة» نشره وهو في الواحدة والثلاثين من عمره، كان في البداية يعتقد أنه يضع كتاباً في الاقتصاد السياسي، وليس مؤلّفاً يعالج فيه بعمق كافة المشاكل والمعضلات التي كانت تتخبّط فيها القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي في ذلك الأوان، سياسية كانت، أو ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو إنسانية، أو إثنية، أو عرقية، أو إبداعية وسواها. يقوم إدواردو غاليانو في هذا الكتاب بتحليل تاريخ هذه القارة البِكر، بما في ذلك بشكل خاص التصفية العِرقية، والاستغلال الاقتصادي، والهيمنة السياسية التي تعرّضت لها بشكل رهيب منذ الاستعمار الأوروبي، إلى فترة السبعينيات من القرن المنصرم التي نشر فيها هذا الكتاب، ثمّ جاءت حقبة ما يُعرف بالحرب الباردة (1950- 1991) . كتاب إدواردو غاليانو المثير لقي هوىً وقبولاً كبيرين لدى الأيديولوجيات الثورية واليسارية، وبشكل خاص في بلدان مثل الأرجنتين وتشيلي، والبرازيل، والأوروغواي وسواها التي كانت ترزح تحت الهيمنة الدكتاتورية المتسلّطة، ونتيجة ذلك فقد زجّ بإدواردو غاليانو في غياهب السّجون في بلاده الأوروغواي بعد الانقلاب الذي عرفه هذا البلد عام 1973، ثمّ أُرْغِم بعد ذلك على الهجرة القسْرية، والاغتراب القهري، واللجوء إلى الأرجنتين في المقام الأوّل، ثم بعد ذلك إلى إسبانيا. وصرّح إدواردو غالينو خلال مشاركته في الدّورة الأخيرة لمعرض الكتاب الدّولي في البرازيل، بأنه لن يعود لقراءة كتابه من جديد، فقد يُغمَى عليه لو فعل ذلك، وأضاف أنّ هذه النصوص التي تنتمي لليسار التقليدي أصبحت مملّة الآن بالنسبة له، فجسمه الواهن لم يعد يتحمّل ذلك اليوم. فَلَذات الأيّام ويقول إدواردو غاليانوعن كتابٍ آخر صدر له في المدّة الأخيرة بعنوان «أبناء الأيام»: «إنّ هذا الكتاب يأتي انطلاقاً من شهادات ناطقة حيّة من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا منذ بضع سنوات خلت، هذه الشّهادات هي التي يتضمّنها هذا الكتاب بين دفّتيه اليوم. ويضيف أنّ المايا يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّنا فلذات أو أبناء الأيّام، أبناء الزّمن، وفي كلّ يوم تتولّد القصص، والحكايات المتواترة، ذلك أنّ الكائن البشري في عرفهم مصنوع وموضوع من الذرّات، ولكنّه صيغ كذلك من القصص والسّرد والتراث والحكايات». ولقد اعتبر بعض النقاد هذا الكتاب امتداداً لكتب غاليانو السّابقة، وتجسيماً لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية والاجتماعية والإنسانية والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدْرٍ كبيرٍ من الجرأة والمواجهة، والتحدّي والثبات. من الماضي إلى الحاضر كتاب غاليانو «أبناء الأيّام» إدانة صارخة للعصر الحاضرالذي نعيشه على مضض، إنها نظرة أو تشريح للواقع المرّ، إنه يوجّه انتقاداً شديداً للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذود عن المصالح المالية والاقتصادية، ولكنّه لا يتورّع عن إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها. في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة . إنّه يذكّرنا:»لو كانت الطبيعة مصرفاً أو بنكاً لكانوا قد عملوا على إنقاذها «! كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السّابقة بالسّخرية المرّة، والتهكّم اللاّذع من الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث كانوا يعتبرون نيلسون مانديلا إرهابيّاً، وفي فاتح يوليو/تموز 2008 تمّ شطب اسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عاماً..! . إعمال النّظر وكما سبق القول لإدواردو غاليانو كتاب آخر كذلك تحت عنوان «مذكّرات الناّر» وهي ثلاثية قيّمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة، والمحيّرة التي تمرّ بالإنسان، وعن إعمال النظر في الأمور والتمعّن فيها بعمق، ويورد غاليانو قصّةً طريفة في هذا السياق يقول إنها أثّرت فيه تأثيراً بليغاً، وهي عندما قرأ استجواباً للكاتب الأمريكي الأسود اللون جيمس بالدوين الذي يحكي أنه حتى سنّ التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يَرَى الأمورَ على حقيقتها، رّغم أنه كان سليمَ النظر، وأنّ صديقاً رسّاماً له هو الذي علّمه كيف يرى، ففي عام 1944 عندما كان الاثنان يسيران في بعض شوارع نيويورك، ووصلا إلى ركنٍ مُهمَلٍ من أركان الشارع توقّفا عن السّير، وبدأ الصّديق الرسّام يشير بيده إلى غَمْرٍ من الماء بجوار الرّصيف وهو يقول له: أنظر، ويحكي بالدوين أنّه نظر في البداية فلم ير شيئاً، رأى غَمْراً من الماء ليس إلاّ، وعاد الرسّام ليلحّ عليه، فقال له من جديد أنظر، أنظر وعاود النظر، وهذه المرّة رأى شيئاً لم يتراءى له من قبل، رأى بقعة من الزّيت داخل الغمر، وعندما ركّز نظره أكثر وبمزيد من التمعّن، مع إلحاح الصّديق في أن ينظر وينظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المُنعكس في الغَمر، رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناساً يمشون، المارّة، الحمقى، العُمُّال، السّود، الذين يقطعون الطريق كلّ يوم، ولم يتوقّفوا قطّ للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكَوْنَ داخل ذلك الغَمْر الحقير الذي يوجد في ركن قصيٍّ من أركان جزيرة منهاتن، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلّم فيه أن يرى..! ويقول غاليانو معلقاً على هذه الحكاية: «إنّ الفنّ الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة مُشرعة أمامنا» . مِن وَحْي الاكتشاف القصص التي يسوقها غاليانو في كتابه «مذكّرات النار»عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمّن قيماً رمزية عميقة تكشف النّقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم، عندما أقيم عام 1496 أوّل «مكان للحرْق» في أمريكا اللاتينية في هايتي، إنه منذ اكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقاً، إن القاتل (العشماوي) هو «بارتولومي كولومبوس» أخو كريستوفر كولومبوس البحّار الشهيرالمغامر، الضحايا الذين اشتعلت أجسامهم حرْقاً وهم أحياء هم ستّة من الهنود، ويشير الكاتب إلى أنّ هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم حضارتين، بل وأكثر من ذلك، هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه اكتشاف أمريكا هو عدم اكتشاف شيء، لأنّ «كولومبوس» مات مقتنعاً أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم مثل حالة جيمس بالدوين كانوا عاجزين عن اكتشافها، إنّ نظرتهم لها كانت شبيهة بنظرة بالدوين الأولى للغَمْر. إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي ارتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارتولومي كولومبوس في النّار أحياء؟ ! سَابَاطتَ، سَاندينُو، وغِيفارَا ويحكي لنا غاليانو من جهة أخرى في كتابه المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة في هذا الشقّ من العالم، فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري» بانشو فييّا» كان اسمه الحقيقي هو دوراتيو أرانغو، وبانشو كان اسم أعزّ اصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة «أرانغو» اتّخذ لنفسه اسمَ صديقه، أيّ الاسم الذي هَوَى، وأصبح اسمه «بانشو فييّا» لكي لا يموت اسم صديقه أبدا، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان، الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظلّ اسم صديقه حيّاً في شخصه، تردّده أمريكا اللاتينية حتى اليوم. ويسوق الكاتب مثالاً آخر في السياق نفسه فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن الذين أصبحوا يشكّلون نوعاً من الأسطورة في حياة النّاس، وفي أدب أمريكا اللاّتينية وهم : «سَابَاتاَ» و»سَاندينو» و»غِيفارا» جَمَعَهم مصيرٌ واحد، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم...! محمّد محمّد خطّابي القدس العربي