■ بدأ مشهد الإنتخابات في السودان وملمح النظام الحاكم لاهثا خلف رهان شرعنة شعبية مفقودة بعد أن أذاق السودانيين الويلات خلال خمسة وعشرين عاما تعد الأسوأ في تاريخ البلاد. فالبرغم من قيام الانتخابات تزامنا مع الانفراج الوهمي نتيجة دخول السودان حلف «عاصفة الحزم» في الحرب ضد الحوثيين في اليمن، وإسدال ستار على الخلافات مع دول الخليج العربي، بالإضافة للإعتدال في العلاقة مع الجارة مصر على خلفية إتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة الإثيوبي، وأيضا الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية، وتلك جميعها قضايا شكلت متنفسا لنظام يائس، بدت الصورة وكأنما الأقدار جاءت بكل هذه المعطيات خدمة لتأسيس شرعنة جديدة للنظام، إلا أن الذي حدث كان نقيضا لكل السيناريوهات التي تكهن بها أنبه المتخصصين في استقراء مؤشرات عالم المجهول في دنيا السياسة السودانية وذلك استنادا لجملة من الأخطاء التي صاحبت العملية الانتخابية «للمواطن» عمر البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني والتي تجلت لكونه رئيس دولة وليس مواطنا ومرشحا حزبيا حاله كحال منافسيه، بدليل استخدامه في حملته الانتخابية لكل وسائل الإمداد المملوكة للدولة بداية من الطائرة الرئاسية التي جاب بها كل ولايات السودان وانتهاء باستغلال وسائل الإعلام الرسمية. أخطاء كبيرة وقع فيها الإعلام الرسمي الذي أظهر المواطن عمر البشير، وكأنما هو مرشح يتجه للجمهور من خلال التحشيد والخطب الحماسية؛ بينما أظهر جميع منافسيه كسجناء داخل استديوهات التلفزيون القومي وفي وقت رفض فيه «المواطن» عمر البشير مناظرتهم، في محاولة للتقليل من قيمة المرشحين الذين أستحقوا ذلك لكونهم وافقوا على الترشح في انتخابات يقاطعها السواد الأعظم من السودانيين، وقد دلل على ذلك أكثر انسحاب المرشحين الرئاسيين المستقلين أحمد الرضي جابر وعمر عوض الكريم الحسين في آخر يومين من التصويت بعد أن أعلنا عن اكتشافهما مخالفات قانونية في الإنتخابات واللوائح وأخرى تتعلق بأوراق الاقتراع وعملية التصويت، وتبع ذلك إنسحاب مندوبي عدد من المرشحين خلال عمليات فرز الأصوات في مناطق متفرقة. الحقيقة أن الإنتخابات السودانية وبهذا الشكل الأحادي الذي اعتمده النظام لكونها تجري في ظل مقاطعة كبيرة من قطاعات واسعة من أبناء الشعب لن تحل مشكلات البلاد بل ستزيدها تعقيدا وستسهم بشكل سلبي في إذكاء نار الصراعات المتزايدة، عوضا عن كونها قد رجعت بقضية الحوار الوطني إلى المربع الأول، وقد فات على منظميها أن التنسيق بين حملة أرحل الداخلية وحراك قوى المعارضة السودانية الخارجية الموحدة بشتى فصائلها نتجت عنه استمالة مواقف الدوائر الأقليمية والدولية مما أنتقص من شرعية الرئيس عمر البشير أكثر من سابق عهده، وبهذا فقد كشفت هذه الانتخابات التوجهات المستقبلية والأوزان السياسية. المحطة الفارقة في هذه العملية الانتخابية تمثلت في عودة الروح للعمل السياسي الشعبي الذي تجسد في المعارضة الصامتة التي أخجلت الانقاذ، وقد ظن بعضهم أن شعب السودان قد ماتت فيه روح العمل السياسي والمقاومة، ولكن ها هي التجربة تثبت أنه شعب معلم اختار أن يعلم الرئيس عمر البشير الديمقراطية ويلقنه أقسى الدروس من خلال مقاطعته للانتخابات، ليؤكد أيضا انه كل ما تطورت أساليب القمع لنظام الانقاذ تطورت في المقابل أساليب المقاومة الشعبية وهذا بدوره ينبئ بمفاجآت كبيرة تنتظر الرئيس عمر البشير ونظامه في المستقبل القريب. ترى هل أستوعب الرئيس عمر البشير هذا الدرس القاسي حتى يبدأ في التفكير بضمير وطني يحفظ للسودانيين ما تبقى لهم من وطن؟!. ٭ كاتب سوداني صحيفة القدس العربي