لماذا أدهشكم قولي، فما صدقتكم، إن قطيعة عشرين عاماً تُنسي الإنسان نفسه؟ وهل هي قطيعة بوعي؟ الآن أصبح شعراؤنا ملء العين والخاطر. وأصبحوا يتدفأون بصمودهم. وصاروا ينتسبون إليهم – « أولئك آبائي..» – فكيف قابلوهم قبل مذراة الخامس من حزيران، حين أنشد شاعرنا نشيد العودة الأول – «بلادي ترى، أعود أرى، ديار الحمى مهد صباي؟»- صاحوا في وجوهنا: ما لكم ولهذا يا قعداء، ألم ترفضوا الهجرة معنا إلى يثرب؟ ولماذا تبربرون الآن على «أم الروبابيكا»، في شارع الوادي في حيفا، وترفضون أن تصدقوا ما تقوله لكم من أنها تشتري كل فراش منهوب من الهضبة، وكل خزانة عتيقة وكل صندوق، لعلها أن تجد الكنز الذي تبحث عنه؟ غير معقول. وهل هذا هو الأمر غير المعقول الوحيد الذي يجري في بلادنا؟ تستهجنون من «أم الروبابيكا» أنها تشتري جميع دواشك القنطرة، وتقبلون من السلطات أن ترسي مزاد القنيطرة – بكل ما بقي فيها من أثاث، صحون قهوة وجران كبة، فراشي أسنان ونسافات عث، كتب الفارابي ولفائف المراحيض – على مقاول ذي مال أو ذي دالة، وتخلي له ساحة لصق عمارة الشرطة، ومخازن من مخازنها، يعرض فيها بضاعته على الشارين؟ وهل كان الأمر أصبح معقولاً لو أنها أخلت له ساحة في معرض الشرق في عنق تل أبيب! أنا أعرف أن أحداً لم يقرر أن يقاطع معرض المنهوبات هذا. ولكن أحداً لا يقربهُ. فلا العرب يقربونه ولا اليهود. هذا من ورع وذاك من جزع، وأخريات لأن موضته قديمة. والمقاول يحلف الأيمان، بجميع اللغات المتداولة في حوض البحر الأبيض المتوسط، من الشام لتطوان، أن بيته خرب، ولا شأن له بخراب البيوت في الهضبة.. إلا «أم الروبابيكا».. الآن أصبح هذا هو لقبها. وأصبحتم تبربرون فيما بينكم بأنها عريقة في النهب، وبأنها سنة 1948 نهبت سجاجيد شارع عباس، وسكنت في القصر الذي نزح منه أبو معروف، صاحب حانوت «العشرة بقرش» في سوق الشوام في حيفا أيام زمان. هل رأيتم في وادي النسناس قصوراً؟ من حظ هذه الأطلال أنها تقوم في واد يحميها من رطوبة البحر المالح.. ألم تشرفوا «قصور» عكا القديمة، فتدق جدرانها النوبة لكم، هذه الجدران التي لم يستطع سور أحمد أن يصونها؟ ألا تخجلون؟ كنتم في الماضي تتلقفون كل سبب، وتختلقون الأسباب لتقرعوا بابها، فتقدم لكم القهوة.. وابتسامتها اللطيفة. وكنتم تلقبونها فيما بينكم، بملكة الوادي غير المتوّجة. وكانت منذ ذلك الوقت تبحث عن الكنز في الدواشك. فما رأيتم غضاضة في ذلك. فما بالكم تبربرون عليها قد انشقت أمامها أرض الكنوز مرة ثانية ؟ إني اعرفها أكثر مما تعرفونها. لقد أصرّت على البقاء مع والدتها المقعدة حين نزح زوجها وأخذ أولادهما معه، في سفر الخروج الأول. وحين توفيت والدتها، بعد خمس سنين من ذلك، سمعنا أن زوجها يرفض التعرف عليها، ولا يرغب في أن تعود إليه. ولم تصدقوا ما كانت تقوله لكم من أنها هي أيضاً لا ترغب في أن تهجر بيتها. وكنتم تتغامزون عليها. وكنتم تبربرون في أن في الأمر حكاية حب. ومن غير المعقول أن تبقى في الوادي لغير هذا السبب. فهلا أجبتموني إذن، لماذا كان من المعقول بقاؤكم أنتم أنفسكم؟ إني اعرفها أكثر مما تعرفونها. كانت تبيع ما سحبت يداها من سجاجيد، ومن كراسي ومن مرايا. وكانت تفتح الدوشك وتبحث فيه عن الكنز، ثم تطويه وتبيعه. وربما وجدت شيئاً. ويوماً زرتها وكانت متربعة على الأرض، وصف دوشك مبعثر أمامها. وكانت في يدها رسالة تقرأ فيها وتنشج، فاستوضحتها الأمر. فقالت: تذكرت أولادي. - وهذه الرسالة؟ قالت: واحدة من رزمة رسائل كان شاب يرسلها، على ما يظهر، إلى فتاته.. فكانت تخفيها في خرق فتحته في الدوشك. ثم مسحت دموعها وهتفت: كنوزي، كنوزي! وكانت تعيش على ما تجمعه من أثمان ما تبيعه من أثاث البيت، وتقدم القهوة لكم. وترفض هداياكم. وكانت إذا دخلتم في الشعر دخلت فيه. وكنتم تسرعون إلى إكمال بيت إذا لم يأتها سوى شطره الأول. وكنتم تهمهمون استحسانا – لؤماً – إذا روت بيتا وقد كسرته. وإذا دخلتم في السياسة كانت أشدكم حماساً ورغبة في أداء مهمة. فإذا اعتقل أحدكم كانت أسرع من أمه إلى زيارته، وحمل الطعام إليه وغسل قمصانه. عشرون سنة أكلت نيرانها ما اختزنته من حطب سفينتها المبحرة نحو كنوز الملك سليمان. كل شيء باعته سوى كنوزها وهذه النيران أحرقت شعرها، فشاب، ولكن ابتسامتها بقيَت خضراء لم تفحمها النيران، لو كنتم تحفلون بابتسامتها كما تحفلون الآن بالبربرة عليها. من «أم الروبابيكا»، في «سداسية الأيام الستة»، 1968. المتشائل كانت «سداسية الأيام الستة» أولى التجارب الأدبية للروائي والمسرحي والصحافي والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي (1921 1996)، ولكنها تألفت من ستّ قصص، أقرب إلى الروايات القصيرة التي تتقاطع لكي تتكامل. كان العمل ثمرة مبكرة لاتجاه حبيبي المفاجىء إلى الكتابة الأدبية، بعد عقود طويلة صرفها في العمل السياسي والحزبي، وكان طبيعياً أن لا تشهد تلك العقود سوى الكتابات السياسية والصحافية. في عام1941 عمل مذيعاً في القسم العربي لمحطة الإذاعة الفلسطينية، ثم استقال ليتفرغ للعمل السياسي في الحزب الشيوعي الفلسطيني، وشارك بعد أربع سنوات في تأسيس «عصبة التحرر الوطني في فلسطين»، ثم لعب دوراً بارزاً في إقناع الشيوعيين العرب بالإنضمام إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي بعد زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، ومثّل الحزب في الكنيست الاسرائيلي منذ عام 1952 وحتى 1972، وكان طيلة ذلك يعمل بنشاط في تحرير صحافة الحزب، وخصوصاً «الاتحاد»، جريدة الحزب الناطقة بالعربية. لكنّ «الوقائع الغريبة في اختفاء أبي النحس المتشائل»، التي صدرت سنة 1972، هي التي أطلقت شخصية حبيبي الروائية، وبقوّة؛ ليس دون مفاجأة مبهجة حول ما كان يختزنه من مهارات سردية، وسخرية لاذعة تعتمد حسّ المفارقة، وترميز نقدي بارع حول علاقة الفلسطيني بمؤسسات إسرائيل المختلفة، العسكرية منها بصفة خاصة. وهكذا، في واحد من جوانب الرواية الخاصة، صارت اللغة العربية الحديثة تدين للروائي الراحل بفضل نحت كلمة جديدة، اكتسبت مدلولاتها سريعاً ودخلت في الاستخدام القاموسي واليومي: «المتشائل»، التي تمزج بين الصفتين المتناقضتين، «المتشائم و»المتفائل». غير أنّ الرواية لم تكن نقلة نوعية حاسمة في مسار حبيبي الأدبي، فحسب؛ بل كانت أيضاً محطة شديدة الأهمية في تطوّر الرواية العربية الحديثة، خصوصاً من حيث البنية الفنية للشكل، والتهجين الذكي لأساليب السرد في التراث العربي القديم (مثل الخبر، والمقامة، وتقنيات الحكي في «ألف ليلة وليلة»، واستخدام الأمثال والأشعار والنوادر)؛ وتطوير الشخصيات على أساس من ملامح إنسانية محضة، يدخل في تكوينها الكاريكاتور والهجاء المرير والتهكم والسخرية السوداء، وليس على أساس ما تمثله من أنماط وتجريدات. ولعل الرواية اكتسبت أهمية إضافية بسبب من أنها تمزج ببراعة بين أقصَيَين متناقضين: الشخصية الفلسطينية التي تقترن في ذهن القارىء بالمأساة والتعاطف الأقصى وبعض القداسة (الناجمة عن قداسة القضية الفلسطينية ذاتها)؛ والشخصية الفلسطينية ذاتها وقد تبدّت في سياقات طريفة ومفارقات ساخرة تقرّبها كثيراً من النماذج التي شاعت في التراث العربي تحت اسم «أدب الكدية». أصدر حبيبي، أيضاً، «لكع بن لكع»، و»أخطية»، و»سرايا بنت الغول»؛ وظلّ، حتى وفاته، يردد: «لقد أوهمت نفسي بأنني أحمل بطيختين بيد واحدة: بطيخة الإنتساب السياسي، وبطيخة الإبداع الأدبي. وكان هذا خطأ». والحق أنه إذا توفّر قدر كبير من الإجماع حول موهبة حبيبي الأدبية، فإن قدراً كبيراً من الاختلاف يدور حول البطيخة الثانية؛ خاصة حين وافق، سنة 1992،على استلام «جائزة اسرائيل» الأدبية من يد رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك اسحق شامير، فأثار عاصفة من الاحتجاج في الأوساط الثقافية والشعبية العربية والفلسطينية. نصّ: إميل حبيبي القدس العربي