جَاءَتْ مشاركة وفد جنوب السودان في جلسة مجلس الأمن الدولي المخصَّصة لمناقشة الأوضاع في السودان، واجتماع زعيم الجنوبيين سلفاكير مع نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في نيروبي، باعتباره رئيساً لحكومة الجنوب وليس باعتباره نائباً للرئيس السوداني، لتؤكد أن الولاياتالمتحدة تسعى جاهدةً الى تشجيع الجنوبيين، وهو ما جعل مسؤول التعبئة بحزب «المؤتمر الوطني» الحاكم حاج ماجد سوار يقول: «إن واشنطن ظلَّت تبعث بإشارات سالبة، الهدف منها تشجيع الحركة على الانفصال». والموقف الأمريكي والغربي عموماً في هذا الشأن معروف مسبقاً، باعتباره خياراً تاريخيّاً مارسه الغرب وما زال يمارسه ضد العرب والمسلمين، فالغرب وأمريكا دائماً يؤيدون أية حالة ينشأ عنها تقطيع بلد مسلم أو عربي وعزله عن جسمه الأكبر. أما موقف «الحركة الشعبية» فقد بات واضحاً الآن، ربما أكثر من أي وقت مضى، لقد اعتمد الانفصال خياراً واضحاً لا التباس فيه، وصار يعلنه ويدعو إليه وينظِّم المظاهرات لتأييدِه وشحن نفوس الجنوبيين تجاهه. فهذا الأمين العام ل «الحركة الشعبية لتحرير السودان» باقان أموم أكيغ، يدلي بشهادته أمام مجلس الأمن الدولي الذي عقد جلسة بشأن انفصال جنوب السودان، يقطع أي شكّ ويعلنها بوضوح أنه لا أمل في الوحدة، ويكيل الاتّهام لحكومة الشمال وللشماليين، ويحرّض الغرب على الاعتراف بالدولة الوليدة، وعلى الوقوف بجوار الجنوبيين حتى يتم الانفصال. باقان أموم، يعلنها صريحة في مكان آخر: «إن قطار الوحدة قد ولى، ولم تبق قطرة أمل واحدة في وحدة السودان، إلا إذا قام «المؤتمر الوطني» باحتلال الجنوب عسكريّاً، وبالتالي فلن تكون وحدة وإنما احتلال». وسط هذه الأجواء لم يكن غريباً أن تعلن مجموعة من المنظمات المدنيَّة الناشطة في الجنوب أنها ستعمل على تعبئة الشعب الجنوبي للتصويت لخيار الانفصال في الاستفتاء المقرر إجراؤه في كانون الثاني المقبل (2011م) وتكوين دولتهم الجديدة في الجنوب، وقال قادة المنظمات خلال مسيرة كبيرة في «جوبا» عاصمة الجنوب: إن الوحدة مع الشمال لم تلبّ أشواق وطموحات الجنوبيين، وإنهم يأملون في قيام دولتهم واستغلال ثرواتهم لتحقيق الرفاهية لشعب الجنوب الذي عانى ويلات حرب تعدّ الأطول من نوعها في إفريقيا. وخاطبت قيادات المسيرة التي انطلقت من استاد «جوبا» باتجاه ضريح «جون غارنغ» مؤسس «الحركة الشعبية»، الجماهير المحتشدة ومن بينها وزراء في حكومة الجنوب وبرلمانيون من المجلس التشريعي الجنوبي وطلاب وشباب «الحركة الشعبية» وعدد من المواطنين، منوّهة بمحاسن الانفصال ومطالبة بإعلان دولة جديدة في الجنوب، وأكدوا تسيير تظاهرات شهرية لتعبئة الجنوبيين في الولايات العشر للتصويت للانفصال، وهتف المشاركون في المسيرة! «نعم للانفصال ولا للوحدة الظالمة». الحزب الحاكم، من ناحيته، دعا إلى تحريك برامج تعبوية فكرية تذكّر أهل الشمال بأهمية الوحدة ومضارّ الانفصال، وحذَّر في نفس الوقت من تلاعب الحركة بنتائج الاستفتاء تحقيقاً لرغبتها في الانفصال. إلا أن خلاف شريكي الحكم لن يساعد في توفير إطار يسع سوداناً موحداً، والواقع السياسي يؤكد فشل الطرفين في ما اتفقا عليه من جعل خيار الوحدة أمراً جاذباً، في ظل اختلاف المنطلقات الأيديولوجية وتناقض البرامج بين «المؤتمر الوطني» و«الحركة الشعبية»، وفي ظل القناعة الكاملة لقادة الجنوب بالانفصال، وفي ظل الدعم الأمريكي والغربي لخيار الانفصال بل والتشجيع عليه والدفع باتجاهه. «المؤتمر الوطني» الحاكم في مشكلة حقيقية، لأنه هو الذي وافق بإرادته الحرة في اتفاقية السلام على منح الجنوب خيار الاستفتاء على الانفصال، رغم خطورة هذه الخطوة. واتفاقية السلام ذاتها قامت على قاعدة الانفصال، حيث تتحدث عن تقسيم الثروة، كما حملت نصوصاً عاطفية لا تكفي لتأصيل الوحدة، كما أن قرار المحكمة الدولية بملاحقة الرئيس البشير يمثِّل أحد عوامل ضعف استمرار الوحدة بسبب انقسام الأحزاب السودانية حوله، فضلاً عن وقوف 111 دولة عضواً في المحكمة ضد السودان. قادة «الحركة الشعبية» يراهنون على دخل البترول الذي يستخرج من أراضي الجنوب، وسوف تحرم الحكومة المركزية منه، ورغم أن إيرادات البترول تقسّم بالتساوي بين الطرفين، إلا أن الأمر لا يلقى قبول الجنوبيين. هناك تعقيداتٌ تواجه الشمال والجنوب في حال إقرار الانفصال، فالجنوب يعتمد على خطوط الأنابيب الموجودة في الشمال، لنقل نفطه إلى ميناء بور سودان البحري في الشرق، وهناك العديدُ من المشروعات الاقتصادية التي لم تنفّذ بالجنوب مثل مشروع «أرز أويل»، ومشروع إنتاج الثروة السمكية، والصناعات الغذائية وزراعة القطن في «جونقلي»، وإنتاج السكر في «ملوط»، وعدد من المشروعات الأخرى المرتبطة بالزراعة والصناعة، والنفط والطاقة. كما ستكون هناك مشكلة كبيرة تتمثل في عدم ذهاب الاستثمارات العربية الى الجنوب، فالدول العربية ترى أن الجنوبيين كرهوا العروبة والهوية وأداروا لهم ظهورهم بل وانقضُّوا عليها، ولذلك فإنهم لا يستحقُّون الدعم العربي. لكن هناك من الخبراء السودانيين من يرى أن النفط سيتسبب في الوحدة، لارتباط اقتصاديات الحكومتين المركزيتين به، حيث تعتمد حكومة الجنوب بنسبة 98% من دخلها القومي على النفط، في وقت تعتمد فيه الحكومة المركزية عليه بما لا يزيد على 70% من دخلها القومي، ولذلك فإن من مصلحة الشمال والجنوب أن يتفقا على الوحدة. ورغم المعلومات التي تتحدث عن وجود اتجاه لدى الجنوبيين يخطط لنقل النفط في حالة انفصال الجنوب عبر كينيا المجاورة، عن طريق ميناء «مومبسا» أو «لامو»، فيما يشكِّك عدد من خبراء النفط السودانيين في إمكانية نقل النفط عبر هذه الممرَّات، ويشيرون إلى أن دراسة الجدوى وحدها تستغرق خمسة أعوام بسبب وعورة المناطق المقترحة لمرور أنابيب النفط، فضلاً عن صعوبة تضاريسها المليئة بالغابات، والمستنقعات والألغام، لذلك بات من المستحيل مدّ أنابيب لنقل النفط عبر كينيا في غضون الفترة المتبقِّية، وهو ما يضطرُّ حكومة الجنوب إلى التعامل مع الشمال لاستخراج نفطه، حتى في حالة الانفصال مطلع عام 2011م. ميلاد دولة جنوب السودان سوف يذكي نيران الصراع على طول الشريط الحدودي الجديد، وسيوجِد قطراً جديداً هشّاً وضعيفاً ومغلقاً وفقيراً، يعتمد كليّاً على المساعدات الخارجية مثله مثل كثير من الدول الأفريقية التي نشأت قبل نصف قرن من الآن، وسوف تعتمد الدولة الجديدة على الإعانات، حيث يعاني نصف سكانها من سوء التغذية، و85% من خدمات الصحة والتعليم في الدولة الجديدة ستكون مقدمة من وكالات الإغاثة الأجنبية، إضافة الى الفساد الإداري والسياسي الذي يعصف بدولة الجنوب التي يخططون لها، إذ إنه لم تتم الاستفادة من سبعة مليارات دولار من عائدات النفط، وتفتقر العاصمة «جوبا» إلى شبكة مياه وكهرباء جيدة، ويعيش معظم المواطنين في أكواخ من الطين والمنازل المؤقتة، وتضطر «اليونسيف» إلى توفير المياه النقية لمنع انتشار مرض الكوليرا. الخبراء يحذِّرُون أيضاً من خطورة الآثار السلبية التي يمكن أن تقع نتيجة الانفصال، بسبب الخوف المتزايد من إثارة النَّعْرات القبلية في دولة الجنوب، واحتمالات نشوب حرب أهلية تتوافر كل مقوماتها، إضافة إلى القلق المتزايد من جانب قبائل النوير والشلك من سيطرة عناصر «الدينكا» التي ينتمي إليها سلفاكير على كل مقاليد الحكم والثروة في الجنوب، ويزيد من حجم هذه المخاطر إصرار قبائل المسيرية ذات الأصول العربية على حقها التقليدي في أن ترعى أبقارها في أرض الدينكا جنوباً خلال مواسم الجفاف، كما تفعل منذ آلاف السنين، ورفضها التخلي عن أسلحتها الكثيفة خلال مرورها جنوباً في أرض الدينكا حماية لأبقارها. نرجو أن يضع القادة الجنوبيون هذه الأمور في اعتبارهم، بدلاً من أن يسيروا مندفعين في اتجاه واحد لا يرون فيه إلا الانفصال. بقلم: السيد أبو داود