لطالما كان أدب الرحلات الأكثر إمتاعا وغنى بين صنوف الآداب وتفرعاتها، هناك من يلقبه ب"السفرنامة"، لكن مهما اختلفت تسمياته فسماته واحدة، حيث الكاتب يسرد او ينقل ما رأى وما جرى من أحداث في رحلته إلى أحد البلدان. إذن السفر هو قوام هذا الأدب، الذي له جذور تاريخية ضاربة في القدم ضمن المدونة الأدبية العربية. العرب محمد ناصر المولهي في باكورة أعمالها، كتابها "من وراء حجاب: 180 يوما في الصين"، كتبت الصحفية التونسية أمل المكي تجربة سفرها إلى الصين، بشكل صادق، شفاف، حيث لم تسع الكاتبة إلى التزويق، بل نقلت تجربة انتقالها في المكان، ومن حضارة إلى حضارة أخرى مختلفة، وكلنا نعرف ثراء الحضارة الصينية وما لها من زخم ثقافي وتاريخي. ربما هنا نؤيد تماما العنوان "من وراء حجاب"، فالكاتبة فعلا وكأنها تنزع أمامنا حجاب المكان والزمن، وتنقلنا بخفة وسلاسة إلى تفاصيل يومياتها في الصين، تصف لنا الأشخاص والمباني، الأكل والشوارع والعادات، تتطرق إلى الشعائر الدينية وغيرها. الكتاب جاء من الحجم الصغير في خمس وسبعين صفحة، بتقديم لعلي البقلوطي، وقد قسم الكتاب إلى نصوص قصيرة، نذكر منها "السفر على أجنحة الحنين" و"مدينتان وحقيبة سفر" و"امرأة تحمل خوفها" و"امرأة تلتحف السماء في قصر"، و"مهرجان المشي تحت رقابة شمسية" و"امرأة تواعد مكتبة" و"العالم قلب مسافر". النصوص كما هو ملاحظ ونحن نتصفح الكتاب، سعت إلى إماطة اللثام عن المظاهر الثقافية في الصين من مهرجانات وطقوس الشعب الصيني وصولا على أبسط التفاصيل اليومية التي تميز هذا الشعب الذي لا اختلاف كما أكدنا على عراقته وخصوصيته. وكما هو معروف في نصوص الرحلات يحاول الكاتب أن يأتي على كامل تفاصيل سفرته لينقلها إلى القارئ بحيث يكون نصه نافذة لشعب وثقافة على شعب وثقافة آخرين، لكن أمل المكي لم تجرفها لذة السرد والتفاصيل، بقدر ما قدتها لذة الاكتشاف واختزال المشاهد أمام القارئ، ونرى هذا الاختزال أو التكثيف قد ساهم أكثر في توريط القارئ بأجواء الكتاب، الصغير حجما والذي لا فكاك من التورط في الحلم وإعمال الخيال فيه. ثم قليلة هي كتب الرحلة التي كتبتها امرأة، فمن ابن بطوطة إلى ماركو بولو، غالبا ما يكتشف القراء البلدان بأمكنتها وتاريخها، بأحوالها وثقافاتها وكل تفاصيلها بأعين رجل. لكن أن تنقل لنا امرأة تفاصيل رحلتها فهذا يعدّ من الطرافة والجدة. المختلف في نصوص المكي أنها جاءت بعيني امرأة، عينا امرأة كانتا كاميرا نقلت لنا بكل حيادية وبثبات تام رحلتها إلى الصين. لكن نلاحظ أيضا في رحلة هذه المرأة المبدعة نقيضين اثنين: فبين التردد والخوف من الاكتشاف كامرأة تخشى المجهول من جهة، وبين الانطلاق في لذة كشف الخبايا والاطلاع على التفاصيل من جهة أخرى. وربما كانت هذه الثنائية هي ما يحضر عند المرأة العربية عامة. القارئ وإن كان الكتاب رحلة ممتعة جدا تحمل قارئه إلى مدارات رطبة هادئة، ترتخي فيها مخيلته وتسترسل في السكون والدهشة. لكن ما نعيبه في الكتاب الذي وإن تميز بتقنية سرد ووصف عاليين، هو بعض الهنات اللغوية، ولا نقصد هنا مسألة النحو والرسم فقط، بل اللغة التي وهنت أحيانا ولم تكن بحجم المشهد الذي تنقله إلينا من ذلك استعمال الكاتبة للهجة الدارجة التونسية دون توظيف جيّد، وضعف بعض التراكيب وارتباكها. لكن هذا لا يمنع من أن الكتاب تجربة مميزة تغوص عميقا بقارئها في المكان والزمان، من خلال أحداث متنوعة، مجتمعة على التشويق وترك بصمة دهشة في الأذهان.